وقعت الجزائر وباقي الدول الإفريقية على اتفاق منطقة التبادل الحر التي ينتظر منها أن ترفع مستوى التعاون بين دول القارة السمراء وتقلص من ارتباط هذه البلدان بالغرب الذي لا يزال يستغل خيرات مستعمراته القديمة ولو كان بأشكال جديدة، وهنا يتساءل متابعون: كيف ستستفيد الجزائر (بوابة إفريقيا شمالاً) من هذا الاتفاق اقتصاديًا وتكون لاعبًا أساسيًا في تنفيذه.
دافعت الجزائر دائمًا عن الشراكة الإفريقية عبر مبادرة الشراكة الجديدة لتنمية إفريقيا “نيباد” التي تمثل رؤية الاتحاد الإفريقي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للقارة الإفريقية التي أطلقت في بداية الألفية الحاليّة من الجزائر ومصر ونيجيريا وجنوب إفريقيا والسنغال.
تسريع التنمية
يهدف الاتحاد الإفريقي عبر منطقة التبادل الحر إلى تسريع التنمية الصناعية بإفريقيا عبر برنامج تطوير المنشآت القاعدية والبرنامج المفصل لتطوير الزراعة في إفريقيا والرؤية المنجمية الإفريقية، ومخطط العمل لتكثيف التجارة البينية الإفريقية الكفيل بضمان اندماج اقتصادي أفضل للقارة.
وسبق لقمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في يناير/كانون الثاني 2012 أن دعت إلى تسريع إنشاء منطقة التبادل الحر القارية من أجل المساهمة في التطور الشامل لإفريقيا، وتم التأكيد عليها في أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي مع نظرة لإفريقيا “مدمجة ومزدهرة وسلمية يسيرها مواطنوها وتمثل قوة فعالة على الساحة العالمية” ضمن إطار أهداف معاهدة أبوجا التي أنشأت المجموعة الاقتصادية الإفريقية.
ويأمل القادة الأفارقة أن يمكّن توقيع قرار منطقة التبادل الحر من إزالة جميع الحواجز الجمركية بين بلدانهم الـ55 الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، ما سيسمح بإنشاء سوق عالمية جديدة تمكن من استقطاب فرص استثمارية بينية لرجال الأعمال الأفارقة والشركاء الأجانب.
رغم الرغبة الجزائرية في الاستفادة من سوق منطقة التبادل الحر، فإنها تبقى حذرة من منطلق تجارب سابقة لها انعكست سلبًا على اقتصادها
ويراهن الاتحاد الإفريقي أن تشكل منطقة التبادل الحر وعاءً جديدًا لامتصاص اليد العاملة بالمنطقة الإفريقية التي تضطر سنويًا للهرب نحو أوروبا عبر هجرات غير قانونية وفي ظروف تنتهي في كثير من الأحيان بأصحابها بين فكي حيتان البحر الأبيض المتوسط.
ويعول الاتحاد الإفريقي على نجاح هذا المشروع بالنظر إلى أنه يستهدف 1.2 مليار شخص من المستهلكين حاليًّا وقد تزيد بنحو مليار آفاق 2050، في منطقة تتوقع التقارير الدولية أن يعرف اقتصادها أكبر نسب النمو في العالم في السنوات المقبلة.
حماس جزائري حذر
قال الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى في كيغالي إن بلاده كانت دائمًا بلدًا رائدًا ومشيدًا نشيطًا في مسار بناء وحدة وتكامل القارة الإفريقية، وأوضح أن الصعوبات الإقليمية والوطنية لا تقلل شيئًا من حماس الجزائر في أن تكون من الموقعين الأصليين على الوثائق المتعلقة بمنطقة التبادل الحر القارية وتحرير ولوج أسواق النقل الجوي في إفريقيا.
وأضاف “الجزائر ترحب بهذه الإنجازات الجديدة انطلاقًا من التزامها الإفريقي المكرس في دستورها الخاص، وتنضم إلى هذا التقدم اقتناعًا منها بأنه ستكون له على المدى المتوسط انعكاسات إيجابية على اقتصادها الخاص الذي يشهد مرحلة تدعيم وتنويع واعدين بفضل المؤهلات العديدة التي يزخر بها وطني الذي سيكون غدًا طرفًا فاعلاً في التبادلات الإفريقية”.
ورغم هذه الرغبة الجزائرية في الاستفادة من سوق منطقة التبادل الحر، فإنها تبقى حذرة من منطلق تجارب سابقة لها انعكست سلبًا على اقتصادها، خاصة ما تعلق باتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومنطقة التبادل الحر العربية، كما لم تخف تخوفها من انعكاس الاتفاق الإفريقي سلبًا عليها بفتحه طريقًا جديدًا نحوها للهجرة غير الشرعية القادمة من الجنوب.
وقال أويحي إن بلاده أجلت التوقيع على الاتفاقية المتعلقة بحرية تنقل الأشخاص في إفريقيا بسبب “الحاجة لشرحها أكثر للرأي العام”.
تميل الجزائر إلى تنفيذ مشاريع في البلدان التي تعاني هجرة غير شرعية لتوفير فرص عمل تسمح لسكان هذه الدول بالبقاء فيها
وأضاف “ذلك أنه حتى إذا وقعنا عليها مستقبلاً، فهذا لا يعني أبدًا أننا نفتح الباب أمام الهجرة غير الشرعية مع ضرورة التأكيد هنا أن الجزائر، والجزائر العاصمة تحديدًا، كانت ملجأ لحركات التحرير وعاصمة للأحرار ثم عاصمة للطلبة الأفارقة حيث تستقبل سنويًا – وهو ما يجهله الكثيرون – أكثر من 5 آلاف طالب إفريقي من مختلف الجنسيات، إذا كنا نحن المغاربة فشلنا في تنشيط آليات الاتحاد المغاربي لأسباب يعرفها الجميع، فآمل أن يدفع الفضاء الإفريقي نظيره المغاربي للتحرك من أجل الالتحاق بالموكب الإفريقي من خلال هذا الفضاء الواسع”.
وبرأي مراقبين، فإن الجزائر لن تسمح بتحمل عبء جديد من المهاجرين غير الشرعيين، وهي التي تتلقى كل مرة انتقادًا من المنظمات غير الحكومية بشأن تعاملها مع اللاجئين الأفارقة، رغم صرفها سنويًا ما يفوق 30 مليون دولار على هذا الملف، حسب إحصاءات غير رسمية.
وتميل الجزائر إلى تنفيذ مشاريع في البلدان التي تعاني هجرة غير شرعية لتوفير مناصب عمل تسمح لسكان هذه الدول بالبقاء فيها، وعدم الحاجة للهجرة نحو دول المغرب العربي أو أوروبا.
تحدي التصدير
يشكل اكتساح الأسواق الإفريقية أهم رهان للجزائر من خلال منطقة التبادل الحر إذا ما استطاع قادة القارة السمراء تنفيذ تعهداتهم، وتبدو بوابة الشمال الإفريقي قادرة على ذلك، في حال أخذها زمام المبادرة وتحليها بنوع من المغامرة الاقتصادية رغم المخاطر التي قد تكون حاجزًا أمام ذلك.
وأشار الوزير الأول أحمد أويحيى لما سألته الصحافة عما ستجنيه بلاده من هذا الاتفاق إلى إن “الجزائر بدأت تهتم بعملية التصدير لإفريقيا بعد أن كانت هذه الثقافة شبه غائبة بسبب الوضع المالي المريح الذي كانت تعرفه بلادنا، وقد انتظم منتدى جزائري إفريقي في التعاون الاقتصادي منذ سنتين بالجزائر، وشرع رجال أعمال جزائريون في دخول للسوق الإفريقية، وهذه مؤشرات على اهتمامنا بهذه السوق، وأنا على قناعة أن المصدر الجزائري لديه ما يصدره للخارج لكن المشكلة حاليًّا التي يعانيها المتعامل الجزائري هي هشاشة الإنتاج المحلي”.
تعول الجزائر على البنى التحتية التي تمتلكها أو ستنفذها للاستفادة من هذا الاتفاق
وأضاف أن بلاده “ستستفيد من إطلاق هذه المنطقة لأن الاقتصاد الجزائري خارج المحروقات يعد من أبرز الاقتصادات في القارة السمراء، فنحن من بين أربع إلى خمس دول الأولى قاريًا في الإنتاج الصناعي وحتى الفلاحي، كما ستستفيد القارة من مزيد من الاندماج، والواقع أن اتفاقية منطقة التبادل الحر تقدم رسالتين للفضاء الاقتصادي الجزائري هما رسالة أمل وهي مستقبل سوق أوسع، والثانية هي للتجنيد وتحسين الأداء”.
وكان التبادل التجاري بين الدول الإفريقية لا يتجاوز 5% مع نهاية القرن الماضي، وارتفع في 2017 حتى 20%، ويبقى رغم ذلك دون مستوى طموح الأفارقة، غير أنه يشكل مؤشرًا إيجابيًا ينبئ بإمكانية تحقيق نسب عالية من التعاون مسبقًا.
وتعول الجزائر على البنى التحتية التي تمتلكها أو ستنفذها للاستفادة من هذا الاتفاق؛ فهي جزء من أكبر خط بري يمكن تسهيل التجارة البينية يتمثل في طريق الوحدة الإفريقية الذي يربط الجزائر العاصمة بلاغوس في نيجيريا مرورًا بالنيجر، وأعلنت الجزائر الانتهاء من الجزء الخاص بها بداية 2017.
ويتفرع هذا الطريق إلى دول مجاورة، ويمتد على مسافة 3400 كيلومتر داخل الجزائر، و900 كيلومتر في التراب التونسي حتى العاصمة تونس، و1974 كيلومترًا في مالي و1635 كيلومترًا في النيجر و900 كيلومتر في تشاد و1131 كيلومترًا على تراب نيجيريا.
وسيسمح هذا الطريق في حال تم تفعيله بتسهيل تصدير البترول والغاز من نيجيريا نحو أوروبا وإعادة بعث مشروع خط الغاز مع الجزائر، لكنه في الوقت ذاته قد يوقف مشروع خط أنبوب الغاز بين أبوجا والمغرب، بالنظر إلى أن هذا الأخير من حيث التكلفة الاقتصادية أكبر من الخط الأول كونه سيعبر 12 دولة إفريقية ستتقاسم أرباحه مقارنة بالخط الرابط بالجزائر الذي ستكون النيجر البلد الوحيد الذي سيتقاسم مع البلدين عائداته المالية.
لذلك يبقى تفعيل طريق الوحدة الإفريقية عاملاً أساسيًا في استفادة الجزائر من السوق الإفريقية، خاصة أن خط الغاز نيجيريا – المغرب يبقى بنظر بعض خبراء الاقتصاد قليل الجدوى الاقتصادية للرباط، وإلحاحها عليه له خلفية ساسية تتمثل في كسر محور الجزائر – نيجيريا – جنوب إفريقيا المؤثر في دواليب الاتحاد الإفريقي والداعم الدائم لملف الصحراء الغربية الذي قد يضطر المغرب لتقديم تنازلات بشأنه بما أنه وقع على اتفاق منطقة التبادل الحر الذي وقعت عليه جبهة البوليساريو ممثل الشعب الصحراوي هي الأخرى، وهو ما جعل أطراف في المغرب تبدي انتقادًا لإقدام حكومة سعد الدين العثماني على التوقيع على هذا الاتفاق.
الجزائر تبدو على الورق قادرة أن تكون رابحة ومربحة لشركائها الأفارقة وحتى الأوروبيين من اتفاق منطقة التبادل الحر، لكن ذلك يبقى مربوطًا بمراجعة جادة لسياستها الاقتصادية
وما يزيد من فرص الجزائر في الاستفادة من منطقة التبادل الحر هو البدء نهاية الثلاثي الحاليّ أشغال مشروع الميناء التجاري للوسط بالحمدانية بشرشال بولاية تيبازة المجاورة لعاصمة البلاد في إطار شراكة جزائرية -صينية.
المشروع الذي تتوقع الحكومة الجزائرية أن يوفر 200 ألف منصب عمل مباشر وغير مباشر يتمثل في إنشاء ميناء بعمق 20 مترًا وتوفير الحماية الطبيعية لخليج واسع بقيمة استثمار تقدر بـ6.3 مليار دولار.
ويتضمن المشروع أيضًا إنجاز خط للسكة الحديدية وطريق سيار خاص بالميناء مربوط بالطريق السيار شرق – غرب الذي يربط البلاد من الحدود مع المغرب إلى الحدود التونسية.
ويوجه هذا الميناء للشحن العابر وإعادة الشحن بتدعيمه بمناطق لوجيستيكية ومناطق صناعية تتربع على 2000 هكتار وربطه بشبكة الطرق السريعة والسكك الحديدية بهدف تأهيله إلى نقل السلع نحو إفريقيا.
يتوفر الميناء على 23 رصيفًا يسمح بمعالجة 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن من البضائع سنويًا، وسيستفيد في جواره المباشر من موقعين بمساحة ألفي هكتار لاستقبال مشاريع صناعية.
وبرأي خبراء، فإن الجزائر تبدو على الورق قادرة على تكون رابحة ومربحة لشركائها الأفارقة وحتى الأوروبيين من اتفاق منطقة التبادل الحر، لكن ذلك يبقى مربوطًا بمراجعة جادة لسياستها الاقتصادية ووجود نية صادقة من الأفارقة للخروج من سيطرة الدول الغربية التي ما زالت تستغل خيرات القارة السمراء ولا ترى فيها سوى مستهلك لسلعها لا غير.