بخلاف ما اعتدناه مع عبد الإله بنكيران خلال فترة اعتلائه رئاسة الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية وقيادته أول حكومة مغربية بعد دستور 2011، فجل مهرجاناته الخطابية كانت تعرف آنذاك حضور حشودٍ كبيرةٍ من المواطنين، تتوزع بين المنتمين والأنصار والمتعاطفين، وجد سعد الدين العثماني، الأمين العام الجديد لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة الحاليّ، نفسه يخطب أمام كراسي شبه فارغة، وذلك في أثناء افتتاح أشغال المؤتمر الجهوي الخامس الذي نظمه الحزب مساء السبت 17 من مارس/آذار 2018 بمدينة الدشيرة.
لاحظ معظم المتتبعين للشأن السياسي المغربي هذا الحدث، إذ يطرح أكثر من سؤال: هل تراجعت شعبية “البيجيدي”؟ وهل يمكننا أن نُقر بأن موت هذا الحزب “سياسيًا” مسألة وقت ليس إلا؟
سيقول قائل إن الإقرار بنهاية حزبٍ ما، داخل نسقٍ سياسي ما غير ممكن بتاتًا، ويُبرر صاحبنا قوله ذاك، بأن السياسة عالم يتغير باستمرار، لكن حتى إن سلمنا بذلك، فالمعطيات التي تطفو على السطح، تكشف أن حزب “المصباح” يعيش آخر أيامه، وتجعلنا نتكهن له باقتراب أُفوله سياسيًا، وليس مطلوبًا بذل مجهودٍ كبيرٍ لاستيعاب ذلك.
قبول أداء دور “الكومبارس”
كلنا نعلم أن رياح ما اصطُلح عليه بـ”الربيع العربي” هي العامل الرئيس الذي أسهم في وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي إلى سدة الحكم لأول مرةٍ في تاريخه، على غرار حركة النهضة في تونس.
إذ لم يجد الناخبون المغاربة المتعطشون للتغيير والإصلاح أمامهم في ذلك الوقت سوى ورقة واحدة، وتتمثل في منح الثقة عبر صناديق الاقتراع لهذا الحزب الذي اصطف لسنواتٍ في خندق المعارضة، ولم تُتح له الفرصة لقيادة الحكومة وتدبير الشأن العام.
استمر حزب “المصباح” على المنوال نفسه، وذلك حينما تقدم للقصر بعدة تنازلات، واستجاب لضغوطات الخصوم
في حين رأى فيه النظام هو الآخر، خياره الوحيد، خصوصًا بعدما فشل المشروع الذي كان يُراهن عليه، المتمثل في حزب الأصالة والمعاصرة، ففتح المجال أمام حزب “المصباح” من أجل امتصاص غضب الشارع، وأداء دور “الكومبارس” لتجاوز المرحلة بأقل الخسائر، وسيتم التخلص منه بعدها، كما جرى الأمر مع نظيره الاتحاد الاشتراكي، وقادة الحزب يُدركون ذلك جيدًا ولا يُخفى عليهم ذلك.
وقد تحقق ذلك، إذ فاز الحزب بالانتخابات التشريعية آواخر سنة 2011، وقاد الحكومة وتقلد زمام الأمور، ثم انخرط في اللعبة السياسية، فأصبح بذلك مطيةً لتمرير قراراتٍ ساخنة متعلقة برفع أسعار المحروقات والمواد الأساسية، بالإضافة إلى فتح ملف إصلاح نظام التقاعد وصندوق المقاصة وغيرها، كما رفض الحوار مع النقابات، وبالتالي أدى دور “الكومبارس” بنجاح.
استمر حزب “المصباح” على المنوال نفسه، وذلك حينما تقدم للقصر بعدة تنازلاتٍ، واستجاب لضغوطات الخصوم، فشكل حكومة دون روح، إذ لا تُعبر عن الإرادة الشعبية كما عُبر عنها في انتخابات الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2016 التي تصدرها الحزب.
سقوط “بنكيران”.. سقوط للحزب
مما لا شك فيه أن حزب العدالة والتنمية ارتبط بشكلٍ قوي بشخص عبد الإله بنكيران، بحكم الشخصية الكاريزمية التي يتمتع بها، وهي خاصية يجمع عليها الخصوم قبل الحلفاء، فقد قفز بالحزب نحو القمة، ولا نبالغ إذا قُلنا، إن الفضل في استمرار “البيجيدي” على رأس الحكومة لولايتين متتاليتين، يرجع بالأساس لبنكيران الذي أعطى نفسًا جديدًا للخطاب السياسي المغربي، وجعل الشارع المغربي يتصالح مع السياسة.
على عكس باقي الأحزاب المغربية الأخرى، كان حزب “المصباح” يُعرف بتنظيمه الداخلي المحكم وتماسك صفوفه
وهذا الأمر مكنه من جذب العديد من المتعاطفين والأنصار من مختلف الشرائح والجهات في المملكة، مما جعل دائرة شعبية الحزب تتسع.
غير أن هذه الشعبية، كما يبدو، أصبحت تتراجع بشكلٍ كبير يوم بعد يوم، منذ إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة وأمانة حزب العدالة والتنمية، واعتلاء سعد الدين العثماني رأس المنصبين، فعرف الحزب هزائم متتالية في الانتخابات الجزئية التي عرفتها المملكة خلال الستة أشهر الماضية، وهذا ما يُنذر بأن قاعدته الانتخابية بدأت تتآكل، وثقة المواطنين تتلاشى، فضلًا عن اهتزاز مصداقية الحزب خصوصًا بعد التنازلات الأخيرة.
الانقسامات الداخلية.. ضربة موجعة
على عكس باقي الأحزاب المغربية الأخرى، كان حزب “المصباح” يُعرف بتنظيمه الداخلي المحكم وتماسك صفوفه، بيد أننا تابعنا جميعًا الخلافات والانقسامات التي سبقت عقد المؤتمر الثامن للحزب، فقد احتدم صراع بين تيارين داخل الحزب، ويتعلق الأمر بالتيار المعروف بـ”جناح الصقور”، المؤيد لعبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق، والتيار المسمى “جناح الحمائم أو الاستوزار”، المساند لسعد الدين العثماني رئيس الحكومة الحاليّ.
وبرزت هذه الخلافات على السطح خلال فترة ما بات يُعرف بـ”البلوكاج الحكومي”، وذلك إثر فشل بنكيران في تشكيل الحكومة بعد مفاوضاتٍ طويلةٍ غير مجدية، وهو ما تسبب في إعفائه من منصبه من الملك محمد السادس، وتكليف هذا الأخير لسعد الدين العثماني بمهمة تشكيل الحكومة، وقد شكلها في ظرفٍ قياسي، ونال فيها حزب “المصباح” وزارات أغلبها ثانوية، مقارنةً بحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقوده الملياردير عزيز أخنوش، فقد حصل على الحقائب الوزارية المهمة، وهو الأمر الذي لم تتقبله شبيبة الحزب ومعها بعض القياديين.
تجربة حزب العدالة والتنمية، رغم أنها لم تستجب لطموحات المغاربة، فإنها تبقى من أنجح تجارب “الإسلاميين” في البلدان التي شهدت “الربيع العربي”
وارتفعت وتيرة هذه الخلافات حينما تمسك مؤيدو بنكيران بالتمديد له لولاية ثالثة، مبررين ذلك بأن استمراره على رأس الحزب، سيُعزز وجود الحزب داخل الساحة السياسية، ويزيد من شعبيته، في المقابل، يرى معارضوه أن التمسك ببنكيران، سيشكل تصادمًا مع الدولة وخرقًا للديمقراطية الداخلية للحزب.
وفي ظل عدم قدرة العثماني على تبديد الخلافات بين أعضاء الحزب، فإنها ستؤدي إلى إضعاف الحزب وانشقاقه لا محالة.
إن المتأمل في تجربة حزب العدالة والتنمية، سيجدها تشترك مع تجربة الاتحاد الاشتراكي في نقاطٍ متعددة، لكن على ما يظهر، فإن “البيجيدي” لم يستفد من ذلك الدرس قط، أو ربما لم يستوعبه جيدًا، فاختار الارتماء في حضن السلطة والتفاني في تقديم الولاء لها، اعتقادًا منه أنه سوف يكسب ودَها وثقتها بعدما خلص الدولة من اضطرابٍ عسير في وقتٍ عصيب، فتزعم الحكومة دون ممارسة الحكم، ليكتشف في الأخير أنه لم يكن سوى بطل أو “كومبارس” مرحلةٍ مضت، ولم يعد مرغوبًا به، وتناسى أن النظام السياسي في المغرب كالأفعى، كما يُردد دائمًا أحد أساتذتي الكرام، إذ يُغير جلده كلما تطلبت الظروف ذلك.
لكن مع ذلك، فإن تجربة حزب العدالة والتنمية، رغم أنها لم تستجب لطموحات المغاربة، فإنها تبقى من أنجح تجارب “الإسلاميين” في البلدان التي شهدت الربيع العربي، وإن أراد الحزب أن يستمر في المعادلة السياسية، يجب عليه ترميم صفوفه من جديد والقيام بالنقد الذاتي الذي لا مناص منه.