يميل المسلمون في بلاد الغربة، وخصوصًا البلاد الغربية منها، إلى الاعتماد الأساسي على الخضراوات والأسماك كحل بديل عن اللحوم بمختلف أنواعها لعدم توفرها بكثرة على الطريقة التي تلائم التعاليم الإسلامية، أو في سياق آخر، الطريقة “الحلال”، ولكن هناك ديانة واحدة تتشابه تعاليم الذبح والطعام فيها مع تعاليم الديانة الإسلامية، وكانت محلاتهم ملجئًا للمسلمين لفترة ليست هينة قبل انتشار صناعة الطعام الحلال الإسلامي، تلك الديانة هي اليهودية.
كيف يتفق المسلمون مع اليهود على تناول نفس الطعام؟ وكيف تكون محلات اليهود ملجئًا للمسلمين المغتربين؟ هل يُسمي اليهود اسم الله قبل الذبح كما هو متعارف عليه في التعاليم الإسلامية؟ كلها أسئلة مشروعة ستجول بخاطر أي مسلم حينما يسمع عن تناول المسلمين الطعام المطبوخ على الطريقة اليهودية، فما التعاليم اليهودية الخاصة بما يأكله اليهودي؟
كما توجد تعاليم معينة تحلل بعض المأكولات وتحرم بعضها على المسلمين، للديانة اليهودية تعاليم خاصة بالطعام “الحلال” بالنسبة لليهود المتدينين أو الأصوليين الذين يتبعون شرائع الديانة اليهودية في حياتهم اليومية المعروفين باسم “يهود الحريدم”، وكما يطلق المسلمون اسم “حلال” على مأكولاتهم التي تحل لهم، يطلق اليهود المتدينون اسم “كوشر” على ما يحل لهم من طعام وحيوانات.
“الكوشر” كلمة عبرية الأصل، معناها الحرفي كل ما هو صالح وشرعي ومناسب، وتُستخدم في معاجم اللغة للإشارة لكل ما هو متعلق بأصناف الطعام الحلال أكله لليهود، من يتبع منهم الشريعة اليهودية في تفاصيل حياته اليومية، هذا يعني التعاليم والقوانين الواجب على كل منهم اتباعها في أثناء شراء مستلزمات الطعام وطريقة طهيها وطريقة تناولها طبقًا لتعاليم الشريعة اليهودية.
فيديو يوضح ما “الكوشر”
تمسك اليهود بشريعة “الكوشر” لآلاف السنين، على الرغم من أنها شريعة تتسم بكثير من التعقيدات، فإذا نظرنا إلى ما يتعلق باللحوم مثلًا، سنجد أن هناك الكثير من الحيوانات المُحرم على اليهود تناولها مثل: الخنزير والجمل والحصان، فيحل لليهود أكل الحيوانات الثديية التي تجتر طعامها ولها حافر مشقوق مثل البقر والماعز، أما عن الطيور فيتشابهون مع المسلمين، حيث يحل لهم أكل الطير مثل الدجاج والبط والإوز، ويحرم عليهم أكل الطيور الجارحة مثل البوم والصقور.
يحظر على اليهود خلط اللحم مع الحليب أو منتجات الألبان المختلفة، ومن يأكل اللحم يجب عليه أن ينتظر ما لا يقل عن 6 ساعات لكي يتناول بعدها منتجات الألبان
أما عن الأسماك فكانت هناك معايير واضحة، فيحل لهم كل ما له زعانف وحراشيف، ولهذا يحرم عليهم أكل الأسماك المحارية مثل المحار والسرطان والكابوريا والأخطبوط والجمبري أو القريدس، أما عند المسلمين فيتشابهون في ذلك عدا جدلية المذاهب المختلفة بشأن تناول الأسماك البحرية التي لا تجيز بعض المذاهب الإسلامية تناولها.
هل يُسمي اليهود اسم الله قبل الذبح؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد الأحاديث الصحيحة: “فإذا قتلتُمْ، فأحسِنوا القتلةَ، وإذا ذبحتُمْ، فأحسِنوا الذَّبحَ، وليحدَّ أحدُكُم شفرتَهُ، وليُرِحْ ذبيحتَهُ”. هناك شروط على كل من الذابح وآلة الذبح والذبيحة في الإسلام، فيجب أن يكون الذابح سماوي الدين، أي مسلم أو من أهل الكتاب، وأن يكون عاقلًا بالغًا، ويجب عليه النية والتسمية قبل الذبح، أي يقول “بسم الله، الله أكبر” لكي تكون الذبيحة حلالًا للمسلمين، كما يجب أن تكون آلة الذبح حادة تقطع بحدها لا بثقلها لكي تُريح الذبيحة، وشرط أن تموت الذبيحة بفعل الذبح لا بغيره.
“الكوشر” كلمة عبرية الأصل، معناها الحرفي كل ما هو صالح وشرعي ومناسب، وتُستخدم في معاجم اللغة للإشارة لكل ما هو متعلق بأصناف الطعام الحلال أكله لليهود
هل يتبع اليهود المتدينون هذه التعليمات؟ في الواقع يتبع اليهود تعليمات أكثر تعقيدًا من التعاليم الإسلامية تتضمن جزءًا كبيرًا من التعاليم الإسلامية الخاصة بالذبح، كما يهتمون كثيرًا بطريقة التخلص من الدم في الذبيحة سواء كانت طيرًا أم حيوانًا قبل طهيها بطرق عدة، وهو ما توافق عليه التعاليم الإسلامية أيضًا وفقًا للآية التالية من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} – سورة المائدة (5).
يقول اليهود أيضًا “تبارك الله” قبل الذبح، وتتوافق تعاليم الذبح مع التعاليم الإسلامية من حيث الشروط على الذابح وآلة الذبح والذبيحة، ولهذا شرع للمسلمين المغتربين في البلاد الغربية شراء وتناول اللحوم “الكوشر” من عند اليهود المطبقين للشريعة اليهودية في الذبح، حيث تكون أحكام الذبح اليهودية كافية أن تكون “حلالًا” بالنسبة للمسلمين.
هل استغل اليهود “الكوشر” في التجارة؟
ختم “الكوشر” الخاص بالطعام الحلال لليهود
تجاوزت تجارة الطعام الحلال أكثر من 2.5 مليار دولار أمريكي حول العالم، وهذا الرقم ليس فقط من طعام “الكوشر” اليهودي أيضًا، بل من صناعة الطعام الحلال كذلك بالنسبة للمسلمين، استغلت الجاليات اليهودية والمسلمة المتزايدة حول العالم أعدادها الكبيرة في مجال التجارة وكسب الأموال، إذ قُدرت تجارة الطعام الحلال بمليارات الدولارات في السنوات الأخيرة وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية.
يُتوقع أن يشكل الطعام الحلال 17% من صناعة الطعام بشكل مجمل حول العالم، حيث تعتبر صناعة الطعام الحلال من أكثر الصناعات النامية بشكل سريع مقارنة بصناعات الطعام الأخرى
بحسب تقارير الصحيفة الاقتصادية “ذا إيكونومست” فإن مقدار صناعة الطعام الحلال حول العالم قد وصل بالفعل إلى 3.6 مليار دولار عام 2013، ومن المتوقع أن تصل قيمته إلى 5 مليارات دولار بحلول عام 2020، وذلك بسبب تزايد أعداد المسلمين حول العالم، إذ من المتوقع أن يشكلوا ربع سكان العالم بحلول عام 2030، وهذا يعني تزايد كل ما يخصهم أيضًا وبالأخص الطعام الذي يحل لهم تناوله.
يتحرك “الاقتصاد الحلال” بشكل قوي داخل أقوى اقتصاد رأسمالي في العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من التقيّدات المفروضة على الذبح الحلال لكل من الجاليات اليهودية المتدينة والجاليات المسلمة، فكان في البداية “الكوشر” اليهودي، الذي اعتمد عليه كل من اليهود والمسلمين كمصدر للحوم الحلال غير المتوفر في البقالات والمحلات الأمريكية، ومن ثم جاءت صناعة “الحلال” الخاصة بالمسلمين.
يُتوقع أن يشكل الطعام الحلال 17% من صناعة الطعام بشكل مجمل حول العالم، حيث تعتبر صناعة الطعام الحلال من أكثر الصناعات النامية بشكل سريع مقارنة بصناعات الطعام الأخرى، فتلعب الدول غير الإسلامية والدول التي لا تملك كثافة سكانية يهودية كبيرة دورًا كبيرًا في صناعة الطعام الحلال، إذ تستورد العديد من البلاد الإسلامية اللحوم الحلال من دول مثل البرازيل والولايات المتحدة وأستراليا وإثيوبيا وأكثرها الإمارات العربية المتحدة.
بدأت البلاد الآسيوية تدخل مضمار المنافسة كذلك مع تزايد الجالية المسلمة هناك وخصوصًا في البلاد الشرق آسيوية مثل سنغافورة التي تحتوي على 15% مسلمين من إجمالي كثافتها السكانية، إذ يُلاحظ وجود مُلصق “حلال” على كثير من المطاعم التي تبيع اللحوم وكثير من البقالات والمحلات الكبرى لكي تجذب المشترين المسلمين لشراء منتجاتهم.
النسب التي تشكلها المنتجات الغذائية في الولايات المتحدة عام 2014، يحتل فيها “الكوشر” المرتبة الأولى
تختلف الأرقام قليلًا حينما ننظر لصناعة “الكوشر” أو طعام اليهود الحلال بشكل منفصل، إذ قدّرت بعض الصحف أن صناعة طعام “الكوشر” اليهودي وصلت إلى 17 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها، حيث وصلت نسبة المنتجات الغذائية التي تحمل ملصق “كوشر” عليها أكثر من 40% من المنتجات الغذائية في الولايات المتحدة على الرغم من أن اليهود يشكلون 2% فقط من سكان أمريكا.
لا تعني هيمنة “الكوشر” على المنتجات الغذائية أن كل يهودي يطبق التعاليم اليهودية في تناول الطعام، فبعض اليهود لا يكترثون لهذه التعاليم، وبعضهم يطبقونها في بيوتهم ولا يكترثون لها كثيرًا في أثناء تناولهم طعامهم في الخارج، ولا يعني أن كل ما هو حلال لليهودي حلال للمسلم والعكس صحيح، إلا أن الكوشر بلا شك ملجأ لكثير من المسلمين في بلاد الغربة، على الرغم من الجدل المُثار حوله من المدافعين عن مقاطعة “إسرائيل” وكل ما يأتي من أتباع الديانة اليهودية حتى ولو كان حلالًا للمسلمين.