لعب الغذاء والطعام أدورًا كبيرة عبر التاريخ في تشكيل الحضارات وهويتها الذاتية وتنظيم مجتمعاتها، إضافةً لكونه سلاحًا من أسلحة قوتها وتطورها وثباتها. فقد كان للطعام وإنتاجه الكثير من أعمق التأثيرات على البشرية ككل وتطوّر الإنسان وقدرته على تكوين التجمعات والمجتمعات البشرية التي تتميّز عن غيرها وتصنع حاضرها ومستقبلها وتاريخها.
يقترح علماء الأنثروبولوجيا أنّ الحضارات جميعها لم تكن لتصل لما وصلت إليه بدون الإمدادات الغذائية التي توافرت لديها في سابق الزمان. فالتقدّم المدَنيّ والحضاريّ لم يكن هيّنًا أو ممكنًا في الأماكن التي عانت من شحّ الطعام أو اكتفت بالأساليب البدائية والتقليدية في جمعه وطهوه وإنتاجه.
يشكّل الطعام المجتمع والثقافة التي يعبّر عنها وتعتبر جزءًا أساسيًّا من هوية أفراده ومرآةً تعكس تاريخه الممتد إلى آلاف السنين
ثمة نظرية بسيطة يتداولها الدارسون لأنثروبولوجيا الإنسان تقترح أنّ “الذكاء البشريّ” لم يكن هو الحلقة التي تميز عن الإنسان عن غيره من المخلوقات، وإنما كانت قدرته على التحكم في النار وطهي طعامه هما ما سمحا له بالتطوّر من مخلوقٍ بدائيّ إلى مخلوقٍ أكثر تطورًّا يمتلك القدرة على إنشاء المجتمعات والحضارات.
إذن فالطعام يشكّل المجتمع والثقافة التي يعبّر عنها وتعتبر جزءًا أساسيًّا من هوية أفراده ومرآةً تعكس تاريخه الممتد إلى آلاف السنين. فماذا نأكل وكيف نصنعه وكيف نقدّم كلّ طبق وماذا نُطعم أصدقاءنا وضيوفنا وغيرها من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بأسلوبٍ حياتنا الطعاميّ اليوميّ، جميعها تصطف جنبًا إلى جنب عاكسةً جزءًا من هويتنا الشخصية والمجتمعية الأصيلة.
ولعلّ الأمر يصبح أكثر وضوحًا حينما يهاجر الأفراد ويحتكّون مع الشعوب الأخرى حول العالم، ويقحمون أنفسهم في ثقافاتٍ جديدة، تريهم مدى تنوّع الحضارات واختلاف تقاليدها، أمرٌ يمكن استشفافه من خلال طبقٍ واحد أو ربما نوعٍ بسيط من التوابل التي يحمل في طياته الكثير من القصص عن حضارةٍ أو شعبٍ ما. لهذا يحاول الكثيرون الحفاظ على عاداتهم التقليدية التي شكّلت نمط حياتهم في الطعام في حال سافروا إلى مكانٍ آخر غير وطنهم، بل وعلاوةً على ذلك فيحاولون إشهاره والحديث عنه ومشاركته مع غيرهم من غير دائرتهم.
ولو تطلّعنا إلى التاريخ، لوجدنا أنّ الكثير من المواقف التاريخية التي أثر فيها الطعام على الحضارات، خذ التوابل على سبيل المثال، وتتبع مسار حركتها ومحاولات العثور عليها ونقلها بين دول العالم بطرقٍ شتى، وبكلماتٍ أخرى فنستطيع أن نقول أنها كانت وسيلة للربط بين الحضارات المختلفة من جهة، أو لإنشاء بعض الحضارات الجديدة من جهة أخرى.
كان الهدف الأساسي من محاولات استكشاف الهند والشرق عبر البحر هو الوصول إلى البهارات وجلبها إلى أوروبا باعتبارها رمزًا حضاريًا قويًا
فعلى الرغم من أنها كانت عديمة الفائدة في الحضارات الأوروبية، إلا أنها كانت إشارة للغنى والثراء، لذلك حاولت تلك الحضارات شقّ طرقها باتجاه الشرق للبحث عنها وجلبها إلى أوروبا. علاوةً على ذلك، فقد كانتْ هي المحفّز الأساسيّ، إضافة للذهب، الذي جعل من كريستوفر كولومبوس يبحر غربًا، ظنًّا منه أنه سيكتشف الهند، لكنه وجد الأمريكتين في عام 1494م، ثمّ أمضى وقتًا طويلًا في البحث عن التوابل هناك على الرغم من من عدم امتلاكه أية فكرة عن شكلها قبل صنعها، إلا أنّ ما لم يدركه المستكشف الإيطالي وقتها فهو أن رحلته التجارية والاستكشافية التي حُكمت بالفشل، قد مهدت إعادة رسم خريطة العالم أجمع.
وبالمثل، كان الكثير من البرتغاليين وعلى رأسهم فاسكو دا غاما، الذي يعدّ من أنجح رموز البرتغال في عصر الاستكشاف، يبحثون عن وسيلة للوصول إلى الهند من أجل الحصول على التوابل، باعتبارها واحدةً من أهمّ نواتج الحضارات الحديثة آنذاك، وعلى العكس من كولومبوس، فقد نجحت بعض المحاولات وأصبح دا غاما أول من سافر من أوروبا إلى الهند بحرًا، ما أدى إلى فتح طرق تجارة بحرية ضخمة بين الحضارات الأوروبية من جهة والحضارات الشرقية من جهة أخرى، الأمر الذي كان له تأثير هائل على تكوُّن تاريخ العالم والطريقة التي أصبحت الحضارات عليها اليوم.
يلعب الجانب الديني والسماوي للطعام دورًا رئيسيًّا كبيرًا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. وثقافة الحلال والحرام على سبيل المثال، ميّزت الشعوب المختلفة عن بعضها البعض.
كما لا يقتصر الطعام أو الأكل على القوانين الدنيوية والبشرية وحسب، بل ويشقّ طريقه عميقًا في الجانب الديني والسماوي، الذي يلعب بدوره أيضًا دورًا رئيسيًّا كبيرًا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. وثقافة الحلال والحرام على سبيل المثال، ميّزت الشعوب المختلفة عن بعضها البعض، فلحم الخنزير مثلًا يعدّ محرّمًا في الحضارات الإسلامية، أما اليهودية فتحتوي على شريعة مخصصة للأكل الحلال تعتمد على الفصل بين منتجات الحليب ومنتجات اللحوم، فلا يصح الخلط بينهما استنادًا إلى تفسير تلمودي لنص توراتي، وكذلك تحريم بعض اللحوم كلحم الميتة والخنزير، أما الهنود فيحرّمون من جهتهم أكل لحم البقر، والقائمة تطول.
وبذلك، نستطيع أن نستشف أنّ الطعام لم يصنع الحضارات ويعكس مدى تطوّرها وحسب، بل ساهم في تكوين الهوية الذاتية والمجتمعية للأفراد والتي قد تتأثر في الوقت نفسه بالشعائر والنصوص الدينية التي تعكس بدورها صورةً لا يمكن إهمالها أو تجاوزها من صور الحضارات وتاريخ تشكلها. كما لا يمكن النظر إلى الحضارات بمعزلٍ عن النظر إلى مطابخها وطعامها وطرق تحضيره والتاريخ المرتبط به، فالطعام بالنهاية لم يكن ولن يكون مجرّد وسيلة إشباع تمدّ الجسم بالمتعة والوقود، بل هو جزءٌ لا يتجزأ من هويته وطبقته الاجتماعية وثقافته المميزة التي يختلف بها عن غيره من البشر.