قاومت ريم بنا داء الاحتلال والسرطان، مرض ينتشر حولها وعلى أرضها، وآخر ينمو بداخلها، عندما سرق الاحتلال تراثها الفلسطيني وأتعب المرض ملامحها العربية أخبرتنا بأنها “لن تسمح للمرض أو العدو أن يأخذها من الحياة”، ورجوتنا في منشوراتها على فيسبوك ألا ندعو لها بالرحمة والشفاء.
فهي رغم مصارعتها لمرض السرطان مرتين طيلة 9 سنوات، لم تعتبر نفسها عليلة، وحتى عندما تهالكت صحتها وتساقط شعرها الغجري الأسود، استطاعت أن تقنعنا بقوتها وقدرتها على قهر المرض، كما قهرت سابقًا الاحتلال والظلم بصوتها ومشاركتها في الأنشطة السياسية.
شاركتنا ريم صور صباحاتها المبهجة وكتبت لنا: “أدركت أني سأتبع درب الورد، لا درب الآلام” وبهذه العبارة وغيرها أوهمتنا بأن مرضها سيكون “وعكة صحية عابرة” كما اعتادت أن تصفه كل مرة دون كلل، وكان الدافع خلف هذا الإصرار بالعودة لطريق الحياة والغناء والمقاومة أن رسالتها لم تنته بعد، ولديها الكثير لتقوله وتقدمه للعالم، فلم تلتفت إلى الشهرة أو المكاسب المادية وبقي الوطن غايتها.
كانت البداية، عندما اهتمت والدتها الشاعرة زهيرة الصباغ، بتثقيفها عن الأغنية الفلسطينية التراثية، فعلمتها التهليلات الفلسطينية وأورثتها الشخصية النسائية المناضلة اجتماعيًا وسياسيًا، فخلقت لديها روحًا متمردة صلبة لا تسكت عن الحق ولا تقبل بالظلم.
ومن هذه التنشئة، قررت ريم أن تحارب الاحتلال على المسارح، فتضامنت مع الأسرى وغضبت للقدس وهتفت للمقاومة ودافعت عن الأرض والأحرار وانحازت لثورات الربيع العربي ورفضت التطبيع، وجعلت من صوتها سلاحًا يقف في طريق العدو الإسرائيلي.
كما أنها لم تكتف بصوتها وأغنياتها وظهورها على وسائل الإعلام للحديث عن القضية الفلسطينية، فلقد تعمدت تسمية أولادها بأسماء كنعانية قديمة لإزعاج الإسرائيليين الذين يستوقفوهم عند حواجز التفتيش، وتذكيرهم برابط الشعب الفلسطيني بالأرض، فسمت ابنيها قمران وأورسالم كمحاولة لصد عمليات السرقة والطمس التي تتبعها “إسرائيل” لإخفاء التاريخ الفلسطيني.
بعد مسيرة فنية أثمرت عن 13 ألبومًا غنائيًا، نجحت ريم في إيصال صورة مختلفة عن الشخص الفلسطيني المبدع وصدرت هذه الصورة للدول العربية والغربية، وداومت على ارتداء الثوب والمطرزات الفلسطينية في أزيائها، وتميزت بكثرة تزينها بحلي الفضة التي اشتهرت بها المرأة الفلسطينية.
أخرجت الأغنية الفلسطينية التراثية من قالبها الروتيني، وأضافت بعض الموسيقى المعاصرة والحداثية لأغانيها لتصل إلى الأوساط الثقافية والشبابية، ومع ذلك، حافظت على النسق والكلمات الملتزمة واختارت أهم القصائد العربية للتعبير عن الحب والوجدان والحرية، فاستعانت بأشعار السياب والحلاج وراشد حسن وأمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم لتحافظ على النصوص والأشعار العربية عبر إدخال الألحان إليها.
فضلت ريم قضاء حياتها في قلب الأحداث السياسية والتقلبات التي تشهدها المدن الفلسطينية التي اعتبرتها مصدر إلهام لها لإكمال ثورتها على الاحتلال والمرض معًا، لذلك رفضت أن تعيش بالخارج وتترك البيئة التي غنت بصدق لقضاياها، واعتبرت أن الانفصال عن هذه الأرض سيمنعها من نقل أدق التفاصيل المؤلمة عن حياة الفلسطينيين، وبذلك ستفشل في لفت الشباب الفلسطيني في الداخل والشتات لتراثهم وتاريخهم وهويتهم.
حين زادت أوجاع مرض ريم وتزامن معه شلل في الوتر اليساري من أحبالها الصوتية، ففقدت قدرتها على الغناء، قالت: “فقدتُ الصوت والرائحة والشكل”، لكنها عادت ووصفت نفسها بـ”المقاومة الشرسة” و”العصفورة المغردة”، وعندما تعرضت لصعوبات صحية أخرى في أعصاب قدميها فلم تستطع الوقوف طويلًا أو السير خطوتين شبهت نفسها بـ”الغزالة”، واستعانت بالكرسي المتحرك لتسافر وتسجل ألبومها الأخير الذي له خصوصية مميزة لأنه يتحدث عن مسيرتها في المقاومة، وهو على هيئة قراءات لنصوص من تأليفها تحكي فيها عن أوجاعها وأحلامها، وجاء هذا العمل كردة فعل متمردة في وجه المرض الذي حاول التهام صوتها وإسكاتها لكنها عادت لتغني بكل ما لديها من إمكانات.
“أن تقاوم يعني أن تزحف من تحت الأنقاض، حاول أن تستند على ما تبقى من ساقيك، وبصوت خافت مثخن بالجراح غن”
في جميع النكسات الصحية التي مرت بها ريم، لم تتراجع عن موقفها تجاه أي قضية ولم تتخل عن مبادئها أو قيمها، وبقيت محافظة على النبرة الثورية في حديثها، فلم تترك المجال لأحد بأن يشك في إيمانها بنفسها أو بقضيتها أو رسالتها، وعلى العكس تمامًا، ازدادت حكمة ومدتنا بالكثير من القوة والإيجابية والفلسفة التي سطرتها في خواطر ونثريات قصيرة عن الحياة والموت والحرية.
أكثر ما كتبت عنه ريم في السنوات الأخيرة هي المقاومة والثورة والتمرد ضد ما يعرقل حياتنا وأحلامنا، فكتبت: “أن تقاوم يعني أن تزحف من تحت الأنقاض، حاول أن تستند على ما تبقى من ساقيك، وبصوت خافت مثخن بالجراح غن”، وحين اشتد عليها المرض أخبرتنا بأن الحياة خرقاء والموت مزيف، والأجمل سيأتي، لتترك لنا تذكارًا يفخر به التاريخ والفن الفلسطيني.