ترجمة وتحرير: نون بوست
فجأة، أصبح كل شيء بالنسبة لمارك زوكربيرغ على المحك، إنجازاته ومصداقيته ومستقبل شركته. وفي الوقت الذي ينتظر فيه العالم منه أن يتحدث، يقرر زوكربيرغ التزام الصمت. ولأيام طويلة، لم يظهر زوكربيرغ في حوار تليفزيوني، أو يدلي بتصريح صحفي، أو حتى يكتب كلمة أو تعليق على صفحته الشخصية على فيسبوك. يبدو أن الرجل، الذي يمتلك موقعا إلكترونيا يلج إليه مليارات الأشخاص يوميا حول العالم، قد اختفى من على وجه الأرض. مع مرور الوقت، تفاقمت التساؤلات حول سبب عدم إدلاء زوكربيرغ بأي تصريح. وبعد أن قرر رئيس أكبر موقع للتواصل الاجتماعي الخروج عن صمته بعد خمسة أيام، أفسد زوكربيرغ كل شيء. فمنذ أن تم الإعلان عن فضيحة فيسبوك في نهاية الأسبوع الماضي، يعيش زوكربيرغ حالة من الاضطراب.
تتمثل الفضيحة في أن البيانات الخاصة بخمسين مليون مستخدم لموقع فيسبوك تم اختراقها. وقد ساعدت هذه البيانات الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. في الواقع، استغلت هذه البيانات بطريقة غير قانونية وملتوية من قبل شركة تدعى “كامبريدج أناليتيكا” من أجل توجيه دفة الانتخابات لصالح ترامب. ولكن كل هذا يعتبر جزءا من القصة. أما الجزء الآخر، فينطوي على صمت زوكربيرغ لأيام طويلة والأسباب وراء هذا التصرف العجيب. ساهم كل ذلك في تسليط الضوء على شخصية صاحب أكبر شركة في العالم، وإحدى أخطر مشاكله، ألا وهي طريقة تعامله مع النقد والأزمات، أو ربما ما هو أبعد من ذلك، “حبه لذاته”.
فجأة، أصبح كل شيء بالنسبة لمارك زوكربيرغ على المحك، إنجازاته ومصداقيته ومستقبل شركته. وفي الوقت الذي ينتظر فيه العالم منه أن يتحدث، يقرر زوكربيرغ التزام الصمت
وجه شاحب، وبعض الوزن الزائد
مؤخرا، ظهر الشاب الصغير، مارك زوكربيرغ، شاحب الوجه، وقد ازداد وزنه قليلا. في الحقيقة، ترعرع زوكربيرغ في منزل أبيض مصنوع من الخشب يقع على ضفة نهر هدسون، على بعد ساعة بالقطار من مدينة مانهاتن. وكان زوكربيرغ الولد الثاني من بين أربعة أشقاء، وكان والداه يطلق عليه لقب “الأمير”. وقد أسس زوكربيرغ شركته بعد فكرة راودته مع مجموعة من زملائه الطلبة، التي نتج عنها شبكة التواصل الاجتماعي، “فيسبوك”.
يستخدم موقع فيسبوك حاليا قرابة ملياري شخص. بمعنى آخر، هناك شخص من بين ثلاثة أشخاص في العالم يملك حسابا في الموقع. وتقدر القيمة السوقية للشركة، التي تقع في وادي السيليكون، بنحو 400 مليار دولار، أي أكثر من ميزانية ألمانيا بأسرها. ومنذ أن تأسست الشركة، تبنى زوكربيرغ فكرة واضحة، ألا وهي أن يحول العالم إلى أسرة كبيرة، وأن يجعله مكانا أفضل. وتعد هذه القصة ما دأب زوكربيرغ والخبراء الاستراتيجيون في العلاقات العامة داخل شركته، على روايتها لنا.
ينظر هؤلاء الخبراء إلى فيسبوك على أنه المجال الذي يربط بين الأصدقاء والمعارف والأقارب. كما يرونه على أنه المنتدى الذي استطاعت من خلاله شعوب الدول الديكتاتورية الكفاح من أجل الديمقراطية والحرية. وخلال السنوات الماضية، أصبح زوكربيرغ مليارديرا ورب أسرة، إلا أن مظهره لم يتغير كثيرا. فلا يزال زوكربيرغ يظهر بقميصه المعتاد وسترته الرمادية بالإضافة إلى الجينز، في حين يرتدي نعله الجلدي أحيانا.
“الأشخاص يثقون في أشخاص مثلهم، وليس في المؤسسات”
وقع تنقيح هذه القصة الجميلة عن زوكربيرغ وتزويقها، لتخفي الوجه غير البطولي لأغنى شاب في العالم. فعلى سبيل المثال، توجد ادعاءات تفيد بأن زوكربيرغ سرق فكرة فيسبوك، وتقارير أخرى تؤكد أنه انشق عن أصدقائه وممولي الفكرة بعد أن حصل منهم على ما يريد. على الرغم من ذلك، تخفي الصورة التي يحاول زوكربيرغ تسويقها بشأن شركته وراءها حقيقة واحدة، ألا وهي أن شركة فيسبوك كانت منذ تأسيسها مختلفة عن باقي الشركات. ففي حين أن شركات صناعة السيارات لا تبيع سوى السيارات، وشركات الأدوية تتخصص في بيع الأدوية، تبيع فيسبوك “الألفة”. فمنذ البداية، أكد زوكربيرغ، قائلا: “عائلتك هنا، وأصدقائك أيضا هنا، وهنا ستعرف كل شيء عنهم وعن العالم من حولك”. وبالفعل، بدا ذلك أمرا جديدا ومختلفا.
حاليا، يثق في زوكربيرغ ملايين الأشخاص، لدرجة أنهم لم يترددوا في وضع تفاصيل حياتهم الخاصة بين يدي شركته، وكان ذلك نتيجة لمهارته في عرض نفسه
قبل ذلك بفترة قصيرة، صرح مارك زوكربيرغ، أن “الأشخاص يثقون في أشخاص مثلهم، وليس في المؤسسات”. وتعتبر هذه المقولة سر نجاح زوكربيرغ، حيث أدرك قبل الكثيرين من أبناء جيله كيف ستغير الإنترنت من طبيعة الأشخاص، وسينعكس ذلك على المجتمع بأسره. فقد بلغت ثقة هؤلاء الأشخاص إزاء المؤسسات والدولة أدنى مستوياتها، وقد كانوا في حاجة إلى أشخاص ووجوه جديدة يستطيعون التفاعل معها. تبنى زوكربيرغ هذه السياسة منذ تأسيس شركته، حيث يحاول إعلاء شأن الفرد، والتقليل من شأن المؤسسات. فعلى سبيل المثال، تحول فيسبوك في الوقت الحالي بالنسبة للعديد من الأفراد إلى مؤسسة لنشر الصحف ووكالة أسفار وألبوم صور. فمن خلال فيسبوك، يقرأ الأشخاص أحدث الأخبار، سواء كانت حقيقية أو زائفة، كما يطلعون على وجهات السفر التي يوصي بها الكثير من المستخدمين، كما يعرفون أي حفلة موسيقية من المفترض أن يذهبوا إليها.
يتمتع بمهارة في عرض نفسه
نجحت خطة مارك زوكربيرغ، وأصبح صوته مألوفا، في حين أصبح شخصا يعرفه الجميع بصورة ما. لقد أصبح زوكربيرغ الرجل الذي غيّر العالم، ولكنه لم يتغير. وحاليا، يثق في زوكربيرغ ملايين الأشخاص، لدرجة أنهم لم يترددوا في وضع تفاصيل حياتهم الخاصة بين يدي شركته، وكان ذلك نتيجة لمهارته في عرض نفسه.
يضم وادي السيليكون مجموعة من الشركات التي تقدر رؤوس أموالها بالمليارات، ولكنها بدأت من الصفر. ويعتبر ستيف جوبز، أحد رؤساء هذه الشركات، الذي فضل أن يحيط نفسه وشركاته بحاجز من الصمت والانعزال عن العالم الخارجي، على الرغم من أن قصة شركة “أبل” ومؤسسها، وقع تجسيدها بالفعل في العديد من الأعمال. والأمر سيان بالنسبة للعديد من رؤساء الشركات الآخرين الذين لا يتحدثون إلا عندما يرغبون في توجيه رسالة للعالم. وقد جعل هذا الأمر الأشخاص يعتقدون أن طبيعة مهمة شركاتهم والسرية المحيطة بها تشير إلى أنها مؤسسات دينية وليست تجارية.
تعد “صورة مارك زوكربيرغ” أهم جانب تروج له شركة فيسبوك، ويهتم خبراء التواصل في شركته بذلك أكثر منه شخصيا. ولذلك، يتدخل هؤلاء الخبراء لتنقيح منشوراته على موقع فيسبوك، وفي بعض الأحيان، يكتبونها بأنفسهم
يدرك زوكربيرغ هذا المفهوم جيدا، إلا أنه قرر أن تسلك شركته دربا آخر مغايرا لكل الشركات الأخرى. وحيال هذا الشأن، أكد زوكربيرغ أنه لم يعد يوجد أمر يسمى “الخصوصية”. وبالفعل، نشر زوكربيرغ صورا له ولزوجته على الإنترنت، كما نشر صورا ليوم زفافه، وأخرى له أثناء احتفاله مع زوجته بالأعياد اليهودية، وصورا برفقة أطفاله أثناء احتفاله برأس السنة الصينية. وبالتالي، أصبح ما يجب أن يكون أمرا خاصا، يصور في مشاهد متقنة للغاية، ويعرض للجمهور.
حاول التبسم ولكن ابتسامته تلاشت
تعد “صورة مارك زوكربيرغ” أهم جانب تروج له شركة فيسبوك، ويهتم خبراء التواصل في شركته بذلك أكثر منه شخصيا. ولذلك، يتدخل هؤلاء الخبراء لتنقيح منشوراته على موقع فيسبوك، وفي بعض الأحيان، يكتبونها بأنفسهم، لأن فيسبوك كان ولا يزال مارك زوكربيرغ. ويدعي البعض أن زوكربيرغ لا يجري مقابلات صحفية، كما أنه لا يفضل الحديث مع الصحفيين. ولا يعتبر هذا الكلام صحيحا، فعندما ظهر زوكربيرغ في أول مقابلة تليفزيونية له في سن 19، كان يتحدث بطلاقة ويمزح ويتفاعل مع الطرف المقابل، كما لو كان واقفا أمام جمهور بالملايين. وفي الأثناء، كانت طبيعة الأسئلة التي وجهها له مقدم البرنامج تشير إلى أنه “الطفل المعجزة”.
قبل ثمان سنوات، تحديدا في صائفة سنة 2010، ظهر مارك زوكربيرغ أمام صحفيّين من صحيفة “وول ستريت جورنال” على منصة أحد المؤتمرات الرقمية. وقد كان اللقاء عبارة عن مقابلة أمام الكاميرات تُبث وقائعها على الإنترنت. وقد سأله الصحفيان عن عامل الأمن فيما يتعلق بالبيانات على موقع فيسبوك، ولكنه تهرب من الإجابة وتحدث في أمور أخرى وكأنه يريد كسب المزيد من الوقت. لكن الصحفيين أصرا على الحصول على إجابة واضحة، ما دفعه إلى فقدان السيطرة على أعصابه، وتلاشت الابتسامة من على وجهه سريعا، في حين تصبب العرق من جبينه، وكان يبتلع ريقه بصعوبة. وتحول أقوى رجل في العالم إلى مجرد تلميذ في المدرسة، كان يحاول أن يغش في امتحان الرياضيات ولكن أمره فضح للعيان.
كان ظهوره على ذلك النحو بمثابة كارثة لفيسبوك وله شخصيا. فقد بدا أن زوكربيرغ لا يعرف كيفية تفسير طبيعة عمله أمام اثنين من مستخدمي موقعه
كانت تلك إحدى اللحظات النادرة التي شعرنا فيها أننا نواجه مارك زوكربيرغ الحقيقي، على اعتباره شخصا تشوبه العديد من الأخطاء. وكان ظهوره على ذلك النحو بمثابة كارثة لفيسبوك وله شخصيا. فقد بدا أن زوكربيرغ لا يعرف كيفية تفسير طبيعة عمله أمام اثنين من مستخدمي موقعه. وبالتالي، عززت هذه المقابلة الشكوك التي كانت تحوم حول موقع فيسبوك منذ نشأته، والتي تحيل إلى أن كل البيانات الخاصة بالمستخدمين ليست آمنة، مثلما أكد زوكربيرغ شخصيا. ربما يكون هذا الأمر من الأسباب التي تجعل زوكربيرغ نادرا ما يقوم بحوارات صحفية. فكلّما قام بلقاء ما، كان ذلك يعني وقوع فيسبوك في المشاكل، ليسعى زوكربيرغ لاحقا للحد من الأضرار.
بالتوازي مع ندرة ظهوره الإعلامي، يستخدم زوكربيرغ حسابه على فيسبوك كلما أراد إخبار العالم بأمر ما، حتى يتسنى له التحكم في الصورة التي يريد إظهارها للناس. ومن الناحية العملية، يعتمد زوكربيرغ أسلوب التواصل ذاته الذي يستخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يكتفي بنشر تغريدات ويتفادى مواجهة الإعلام.
الصديق الصلب الذي يواجه المخاوف بابتسامة
في كل الحالات، لا يتبنى زوكربيرغ طريقة التفكير ذاتها مثل ترامب بشكل كبير. في المقابل، ومنذ فترة، عمد زوكربيرغ إلى تكريس صورة لنفسه على أنه رجل دولة، حيث ألقى خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أنه أسس مؤسسة تجمع بين النشاط الخيري والنشاط الربحي، تهدف إلى حل المشاكل الاجتماعية الخطيرة. وخلال العام الماضي، قام زوكربيرغ بجولة في الولايات المتحدة كما لو أنه مرشح رئاسي، حيث كان هناك مصور يرافقه باستمرار. وفي الأثناء، وقع تنظيم تحركاته بشكل مدروس وإضفاء هالة عليها أثناء عرضها على موقع فيسبوك، حتى أن متابعي حسابه، البالغ عددهم 105 مليون شخص، شعروا كما لو أنهم يرافقونه في جولته.
وفي الأوقات الجيدة، تبدو الصورة التي يحاول زوكربيرغ ترويجها وكأنها تعكس الواقع فعلا. ولكن عندما تغير إدارة فيسبوك إعدادات الخصوصية، ويبدأ المستخدمون في القلق حول حقيقة سيطرتهم على بياناتهم الشخصية، تتصرف إدارة الموقع على أنها الصديق الصلب الذي يحاول صرف مخاوفك بابتسامة. وقد حاول زوكربيرغ مواجهة العالم في خضم الأزمة الحالية من خلال حسابه على فيسبوك، حيث قال: “آسف، نرجو أن تتحلوا بالصبر، سنهتم بهذا الأمر”. غالبا ما اعتمد زوكربيرغ هذا الأسلوب، وبذلك نجح في التعامل مع المشاكل على مدى سنوات. وكان المستخدمون يغفرون زلات زوكربيرغ، أو على الأقل لم يقوموا بحذف حساباتهم من على الموقع وتطبيق الرسائل القصيرة. ولكن الأمور مختلفة تماما هذه المرة.
في الواقع، يتعلق الأمر بتهمة خطيرة جدا، ألا وهي اتهام النموذج الربحي لشركة زوكربيرغ بجعل الانتخابات الديمقراطية قابلة للتلاعب في دولة مثل الولايات المتحدة، فضلا عن تورطه في بيع البيانات الشخصية للمستخدمين بالجملة
ملامح تغيير جدي
تدور القضية بالأساس حول ما يفعله فيسبوك بالبيانات الخاصة بمستخدميه، والأطراف التي تقع بين يديها هذه البيانات. وهذه المرة، ما يحتاج زوكربيرغ شرحه لا يتعلق ببعض الجوانب التقنية التي يمكنه تحليلها بشكل مفصل حتى يستوعبها خبراء التقنية. في الواقع، يتعلق الأمر بتهمة خطيرة جدا، ألا وهي اتهام النموذج الربحي لشركة زوكربيرغ بجعل الانتخابات الديمقراطية قابلة للتلاعب في دولة مثل الولايات المتحدة، فضلا عن تورطه في بيع البيانات الشخصية للمستخدمين بالجملة، ناهيك عن عدم اتخاذ التدابير الضرورية لحماية خصوصية المستخدمين الذين يعود إليهم الفضل في ازدهار شركته. وقد شاهد العالم كله كيف أن زوكربيرغ وشركة فيسبوك فقدا السيطرة تماما على كل المعلومات الحساسة ضمن حسابات المستخدمين.
الأهم من ذلك، على ما يبدو أن زوكربيرغ يعاني من مشكل سبب له ضررا أكثر من القضية القانونية نفسها، حيث سلطت المعلومات التي تم كشفها، ضغطا كبيرا على فيسبوك، وفضحت تفاصيل جديدة للرأي العام. وقد مثلت هذه الحقائق حلقة جديدة ضمن سلسلة من الفضائح المرتبطة بالانتخابات الرئاسية الماضية في البيت الأبيض.
من بين هذه الفضائح، يذكر أن قسم آخر الأخبار في فيسبوك، قام بحذف المنشورات التي تتطرق إلى ترامب والحزب الجمهوري، ولذلك تواجه الشركة اتهامات بالتعتيم السياسي. في المقابل، تدور أغلب التهم حول روسيا، التي تمكنت من خلال الاستعانة بالآلاف من الحسابات الوهمية على فيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي، من التأثير على السباق الانتخابي. وبالتالي، وجد فيسبوك نفسه، دون علم منه، أداة في صلب اللعبة السياسية القاتمة بين الولايات المتحدة وروسيا.
في النهاية، يبقى كل شيء تقريبا على حاله
نشرت المجلة الاقتصادية الأمريكية “وايرد” تقريرا مطولا قبل بضعة أسابيع، يقدم نظرة على كيفية التعامل الإعلامي لشركة فيسبوك ومالكها مارك زوكربيرغ مع مثل هذه الأزمات، ومدى صعوبة الظفر بإذن لزيارة هذه الشركة، التي بدأت للتو تدرك خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقها بسبب حجمها ونفوذها. وتخوض هذه الشركة صراعا مع نفسها ومديريها، وتطرح تساؤلات حول حجم الانفتاح الضروري أثناء معالجة المشاكل. وفي النهاية، يبقى كل شيء على حاله في هذه الشركة. عندما أمر مجلس الشيوخ الأمريكي شركات التكنولوجيا الكبرى بالحضور إلى واشنطن خلال الخريف الماضي، على غرار فيسبوك، وتويتر وغوغل، لم يستجب الرؤساء المديرون لهذه الشركات لطلب أعضاء المجلس، بل استمعوا لنصائح المحامين. ويبدو أن هناك أمورا مهمة يمتنع مارك زوكربيرغ عن الإفصاح عنها، سواء للعالم أو لأصدقائه على فيسبوك.
بينما كان زوكربيرغ في السابق يرد على الأسئلة المهمة من خلال الاعتراف بخطئه، إلا أن الأسئلة المطروحة هذه المرة ليست سهلة، ولا يمكن التخلص منها ببساطة مثل تدوينة محرجة يتم حذفها من فيسبوك
على سبيل المثال، صرح أليكس ستيموس، المدير المسؤول عن سلامة البيانات في شركة فيسبوك، خلال تحقيق داخلي أجري في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2016، أن لديه أدلة واضحة على استغلال روسيا لموقع فيسبوك من أجل التلاعب بالحملة الانتخابية الأمريكية. وحسب تقرير نشرته نيويورك تايمز، تردد مديرو الشركة حول نشر المعلومات التي بحوزتهم، في حين يشار إلى أن أليكس ستيموس تمت نقله قبل أيام إلى قسم آخر داخل الشركة. ربما لم تضرب فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا مارك زوكربيرغ وشركته على حين غرة، مثلما فعلت في المرة الأولى. فعلى الأرجح كانت إدارة فيسبوك تعلم منذ سنة 2015 عن وجود عملية تسريب للمعلومات. وقد طلبت من شركة كامبريدج أناليتيكا حذف تلك المعلومات، ولكن لا أحد كانت لديه السلطة لتنفيذ ذلك الأمر.
آسف، نرجو أن تتحلوا بالصبر، سوف نهتم بهذا الأمر
يرغب الجميع في معرفة موقف زوكربيرغ إزاء هذه الأزمة، ولكن خلال كل الأزمات الأخيرة، التزم هذا الرجل بالخطاب ذاته في كل المناسبات. فقد كتب تدوينة مطولة، قال فيها: “آسف، نرجو أن تتحلوا بالصبر، سوف نهتم بهذا الأمر”. وبينما كان زوكربيرغ في السابق يرد على الأسئلة المهمة من خلال الاعتراف بخطئه، إلا أن الأسئلة المطروحة هذه المرة ليست سهلة، ولا يمكن التخلص منها ببساطة مثل تدوينة محرجة يتم حذفها من فيسبوك. وتعد الطريقة التي يتعامل بها زوكربيرغ وشركته مع هذه المشاكل، على الأرجح السبب الأول وراء تقهقر موقع فيسبوك أكثر فأكثر، في خضم أسوأ أزمة تعصف به منذ تأسيسه.
دفعت هذه الفضائح السياسيين والحكومات ووسائل الإعلام حول العالم للتساؤل حول مدى قدرة واحد من أقوى رؤساء الشركات في العالم، على الاضطلاع بالمسؤولية التي ترافق هذا الدور الذي يلعبه. وفي بورصة وول ستريت، شرع المستثمرون في النأي بأنفسهم عن أسهم فيسبوك، وسجلت تعاملات الشركة خسائر وصلت إلى مليارات الدولارات. وقد حاول الموظفون في الشركة توجيه بعض الرسائل عبر توتير وفيسبوك للحد من الخسائر، فيما بقي زوكربيرغ مختفيا عن الأنظار. وتدور الأخبار حول عدم تمكنه إلى حد الآن من الإشراف على اجتماع داخلي في مقر الشركة.
بعد وقت قصير من اندلاع الأزمة، تبيّن أن زوكربيرغ باع حوالي 100 ألف من أسهم شركة فيسبوك، خلال الأيام القليلة الماضية، أثناء التزامه الصمت. وبالتالي، من الواضح أن زوكربيرغ يواصل التصرف وفقا للأسلوب ذاته، كما لو أن شيئا لم يحدث
في النهاية لا يمكنك أن تعرف ما إذا كان فعلا قد أدرك حقيقة ما يجري
يخوض حاليا حاكم العالم الرقمي ما يمكن اعتباره أهم معركة في حياته. ولكن حتى قبل أن تبدأ المعركة فعليا، كان هذا الرجل غائبا عن المشهد الإعلامي، كما لو كان تائها. وبعد صمته التام الذي تواصل لخمسة أيام، وعمل وكالات الأنباء على نشر رسائل متسرعة، خرج زوكربيرغ أمام وسائل الإعلام، الخطوة التي كانت لتبدو بديهية في مثل هذه الوضعيات، لم تكن كذلك بالنسبة له.
عندما حان وقت ظهوره، ارتدى زوكربيرغ قميصه ذو الأكمام الطويلة، باللونين الرمادي والأزرق، أمام كاميرات قناة “سي أن أن” الأمريكية، وأجرى لقاءات مع صحيفة نيويورك تايمز، مجلة وايرد، ومدونة ريكود المتخصصة في مجال التكنولوجيا. وعمد زوكربيرغ خلال هذه اللقاءات إلى الاعتذار، وقدم وعودا تبدو أكثر فأكثر غامضة كلما تعمق الأشخاص في الاستماع إليها أو قراءتها. ويبدو الأمر مرة أخرى كما لو أن زوكربيرغ بصدد عرض واحدة من تدويناته أمام شاشات التلفزيون عوضا عن نشرها على فيسبوك.
في النهاية، لا يمكننا أن نعرف ما إذا كان فعلا يدرك حقيقة ما يجري. وقد تساءل الكثيرون حول ما إذا كان عليهم تصديقه مرة أخرى. فقد اعتذر زوكربيرغ، ووعد بإدخال تحسينات. ولكن أفعاله تحيل إلى أنه لا يرغب فعليا في إدخال تغييرات جذرية على شركته. فبعد وقت قصير من اندلاع الأزمة، تبيّن أن زوكربيرغ باع حوالي 100 ألف من أسهم شركة فيسبوك، خلال الأيام القليلة الماضية، أثناء التزامه الصمت. وبالتالي، من الواضح أن زوكربيرغ يواصل التصرف وفقا للأسلوب ذاته، كما لو أن شيئا لم يحدث.
المصر: فيلت