رغم ما تسمعه ليل نهار عن هذا النوع من الجرائم الذي بات منتشرًا في مصر خلال الآونة الأخيرة بصورة غير مسبوقة، لم تكن تتوقع أسماء ابنة الـ17 عامًا أنها ستكون ضحية لعملية خطف مكتملة الأركان، فالطالبة التي اعتادت الذهاب يوميًا لتلقي درسها الخاص بأحد المراكز التعليمية في منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، ما كان يدور بمخيلتها أن الشاب الذي يتبعها في أثناء سيرها خطط لخطفها بعد تخديرها والذهاب بها إلى مدينة الإسكندرية لتبدأ عملية تقاسم الغنيمة مع الشركاء المجرمين.
الأمور كانت تسير بصورة طبيعية نحو تحويل أسماء إلى قطع غيار تقدم لمن يدفع الثمن، لكن العناية الإلهية كانت حاضرة وبقوة، فإصابتها بمرض السكري أجهض مخطط المجرمين، هذا ما كشفه تحليل أجري لها لتقييم مدى ملاءمة أعضائها للبيع، مما دفع الخاطفين إلى التخلص منها وإلقائها في أحد شوارع المدينة لتكمل عودتها إلى منزلها بعدما كانت على بعد خطوات معدودة من الموت المحقق.
جرائم الاختطاف بين المصريين، ظاهرة ترتبط طرديًا في الغالب مع الانفلات الأمني وزيادة معدلات الفقر، غير أنها في أوقات أخرى قد تكون أداة للانتقام والتصفية، وهو ما وضع مصر في مرتبة متقدمة بين الدول الأكثر تعرضًا لمثل هذه الجرائم.
ارتفاع معدلات الجريمة
احتلت مصر المركز الثالث عربيًا في ترتيب مؤشر الجريمة، حيث جاءت بعد ليبيا والجزائر، وفق تقرير صادر عن موسوعة قاعدة البيانات “نامبيو” عام 2016، ولتتصدر جرائم الاتجار بالأعضاء البشرية والسرقة والقتل قائمة الجرائم الأكثر انتشارًا.
رغم تجريمه دوليًا تحت أي ذريعة، فقد رصدت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات (مؤسسة حقوقية مستقلة) في عام 2017 ما يقرب من (602 حالة اختفاء قسري)
تقرير لقطاع مصلحة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية المصرية عن معدلات الجريمة في مصر، كشف ارتفاع معدلات الجرائم بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، خاصة القتل والسرقة بالإكراه وسرقة السيارات.
رصد التقرير زيادة قدرها 130% في نسب جرائم القتل العمد، أما معدلات السرقة بالإكراه فتضاعفت بنسبة 350%؛ إذ سجلت 2611 جريمة، أما سرقة السيارات فزيادتها قاربت 500%، فيما أكدت إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية وجود أكثر من 92 ألف بلطجي (مجرم) ومسجل خطر في مصر، ارتكبوا جرائم قتل واغتصاب وخطف.
تقارير أمنية مصرية ومؤشرات دولية، كشفت تضاعف معدلات الجريمة في مصر منذ عام 2011 وحتى الآن، فيما ارتفعت جرائم الخطف من أجل الفدية من 107 حالات عام 2015 إلى 400 حالة عام 2016، كما ارتفعت معدلات السرقة 4 أضعاف من 5 آلاف سرقة 2015 إلى أكثر من 21 ألف حالة عام 2016.
الاختطاف.. بين الجنائي والسياسي
تتباين مظاهر الاختطاف في مصر ودوافعه الأساسية، فليس كل جريمة اختطاف تشير إلى ابتزاز أو مخططات للحصول على المال والفدية، فهناك جرائم أخرى تحمل أبعادًا وأهدافًا مختلفة، سياسية كانت أو أمنية، انتشرت في السنوات الأخيرة بصورة ملفتة للنظر، ربما تكون أكثر قسوة من تلك التي تحمل صفة جنائية.
الإخفاء القسري: رغم تجريمه دوليًا تحت أي ذريعة، فقد رصدت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات (مؤسسة حقوقية مستقلة) في عام 2017 ما يقرب من (602 حالة اختفاء قسري)، تم تصنيفها كالتالي: 160 حالة لم تتمكن المؤسسة من تحديد توقيت الاختفاء بشكل دقيق، بلغ عدد الحالات التي وثقت طبقًا للأشهر 442 حالة، وقد احتل شهر ديسمبر 2017 المرتبة الأولى من حيث عدد الحالات التي وقعت فيه (86) أي بمعدل 3 حالات يوميًا تقريبًا، ثم يوليو (64 حالة) بمعدل حالتين يوميًا تقريبًا ثم مايو ونوفمبر وسبتمبر وأغسطس ويونيو وأكتوبر بمعدل حالة يوميًا على الأقل، وأدناها شهر فبراير (3 حالات).
النصيب الأوفر من جرائم الإخفاء القسري كانت من نصيب طلاب الجامعات إذ بلغ عددهم قرابة 114 طالبًا، 17 منهم في مراحل الثانوية العامة، و40 طالبًا لم يتسن معرفة مراحلهم الدراسية، وتعرض طالب واحد بالمرحلة الإعدادية للإخفاء القسري.
ما عاد الإخفاء القسري حالة فردية كما كان في السابق، حيث يتعرض شخص، شاب كان أو فتاة، للاختفاء، لكنه في الآونة الأخيرة تجاوز ذلك إلى إخفاء أسر بأكملها، وهو تطور أثار قلق الحقوقيين بصورة كبيرة، ففي السبت الماضي 24 من مارس/ آذار الحاليّ، تعرضت أسرة بأكملها إلى الإخفاء القسري، مكونة من: عبد الله محمد مضر موسى محمد، وزوجته/ فاطمة محمد ضياء الدين موسى محمد، وابنتهم عالية (عمرها عام)، وأخيها عمر محمد ضياء الدين موسى محمد، حيث كانوا في محطة القطار في الجيزة في طريقهم لأسيوط.
الطفلة المختفية قسريًا عالية عبدالله مضر
شقيق المختفي في بيان له نشره مركز الشباب لحقوق الإنسان على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أشار إلى أن آخر تواصل تم مع فاطمة زوجة أخيه على الهاتف الساعة السادسة مساء السبت ودار الحديث عن موعد قيام القطار في تمام الساعة 6:20 وقالت فاطمة إنها مسافرة مع أخيها عمر، وزوجها عبد لله يودعهم على محطة القطار، وأنهم في طريقهم إلى أسيوط على متن قطار رقم 872، إلا أنه وبمعاودة الأسرة الاتصال بهم مرة أخرى في تمام الساعة الثامنة مساء من أجل الاطمئنان عليهم كانت جميع هواتفهم مغلقة، ولليوم الثالث على التوالي لا تزال الأخبار عنهم مقطوعة بشكل كامل.
الفدية وتجارة الأعضاء: البُعد الآخر لجرائم الاختطاف في مصر، ذات الشق الجنائي، وهو لا يقل خطورة عن ذاك السياسي، خاصة أن كثير من الحالات التي تتعرض لهذا النوع من الجرائم يكون الموت مصيرها، حيث تباع أعضاء الجسد قطع غيار في سوق تجارة الأعضاء الذي وجد رواجًا في مصر بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية.
في أغسطس 2017 قاد الصحفي الألماني تيلو ميشكا، مغامرة صحفية لكشف ظاهرة تجارة الأعضاء في مصر، من خلال تحقيق نشره موقع “بريس بورتال” الذي أثار الجدل داخل الشارع المصري بصورة دفعت وزارة الصحة إلى النفي والتأكيد على ملاحقة الموقع والمحرر، واصفين ما جاء في التقرير بأنه “مؤامرة” تستهدف ضرب السياحة العلاجية.
لم تكن حادثة أسماء ابنة منطقة فيصل بالجيزة الأولى من نوعها في جرائم الاختطاف بهدف سرقة الأعضاء، فهناك قائمة طويلة من هذه الجرائم التي باتت سمة ملفتة للنظر في المجتمع المصري في ظل أوضاعه المتردية الحاليّة
ميشكا صاحب التحقيق، أشار أن السياح لا يأتون إلى مصر فقط لقضاء إجازاتهم، وإنما يسافرون من أجل السياحة العلاجية أيضًا، وإجراء عمليات التجميل، نظرًا لتدنى تكلفتها في مصر مقارنة بألمانيا، مضيفًا: “لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن مصر من البلدان الجاذبة لزراعة الأعضاء، ومن أجل تلبية احتياجات السوق الأوروبية من الأعضاء، ظهرت في مصر سوق غير قانونية لهذه التجارة”.
وأضاف أنه انطلق في رحلته مع مترجم، وأن أول مَن كان يسأله هو سائق التاكسى، باعتباره “أكثر الناس معرفة بخبايا المدينة”، على حد تعبيره، وحين سأله عن تجارة الأعضاء بمصر، قال له إن البعض يعرض 5 آلاف يورو مقابل العضو، وأضاف: “الحياة صعبة، وبصراحة لو أن هناك مَن سيعرض عليّ 5 آلاف يورو سأبيعها أنا أيضًا”، وأوضح التقرير أن بعض الأجانب لديهم الاستعداد لدفع مبالغ تصل إلى 90 ألف يورو من أجل زرع الكلى.
لم تكن حادثة أسماء ابنة منطقة فيصل بالجيزة الأولى من نوعها في جرائم الاختطاف بهدف سرقة الأعضاء، فهناك قائمة طويلة من هذه الجرائم التي باتت سمة ملفتة للنظر في المجتمع المصري في ظل أوضاعه المتردية الحاليّة، ورغم ادعاءات الدول ببذل جهود للقضاء على تلك الشبكات الإجرامية المتخصصة في هذا النوع من العمليات فإن المعدلات تزيد بصورة لا يمكن تطويقها.
الدكتور عادل عامر: انشغال رجال الأمن بمحاربة الإرهاب وتجاهل حماية المواطنين وراء انتشار ظاهرة الاختطاف في السنوات الأخيرة
في ديسمبر 2017 كشفت هيئة الرقابة الإدارية (إحدى الجهات الرقابية في مصر) واحدة من أكبر شبكات الاتجار في الأعضاء البشرية، المتخصصة في سرقة أو شراء بعض أعضاء المرضى أو الفقراء، وبيعها للأثرياء داخل مصر وخارجها بملايين الدولارات، فضلاً عن إجراء عمليات جراحية لنقل الأعضاء أو سرقتها في أماكن غير مؤهلة، مما تسبب في وفاة بعض الحالات.
الهيئة في بيان لها أكدت أن الشبكة تضم 41 متهمًا، منهم 12 طبيبًا و8 ممرضين وعدد من أساتذة الجامعة والوسطاء الذي تمكنوا من تحقيق ثروات طائلة من خلال تلك العمليات غير المشروعة، مضيفة أن الفريق المكون لهذه الشبكة، يضم أطباء من كليتي الطب بجامعتي القاهرة وعين شمس ومستشفى أحمد ماهر التعليمي ومعهد الكلى ومعامل ومعاهد خاصة.
وفي تقرير اعتبره البعض “صادمًا” نشرته المجلة البريطانية لعلم الإجرام “British Journal of Criminology” عن تجارة الأعضاء البشرية في مصر، أغسطس الماضي، كشف احتلال مصر مركزًا متقدمًا بين الدول المتورطة في هذا النوع من التجارة غير المشروعة، وأنها تعتبر من أكبر الأسواق في تجارة الأعضاء البشرية في العالم.
وفي نفس السياق، كشفت منظمة الصحة العالمية من خلال دراسة صادرة عنها مؤخرًا أن مصر تعد مركزًا إقليميًا للاتجار بالأعضاء البشرية، وصنفت مصر ضمن أعلى خمس دول على مستوى العالم في تصدير الأعضاء البشرية مع كل من الصين والفلبين وباكستان وكولومبيا، وتعتبر مصر الأولى على مستوى الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
تضاعف معدلات جرائم الاختطاف خلال السنوات الأخيرة
الفقر والظلم وغياب القانون
بعيدًا عن الدوافع السياسية وراء الإخفاء القسري للمعارضين وذويهم والتنكيل بهم في محاولة لكبت الأصوات المناوئة للنظام الحاكم، والإعلاء من شأن الصوت الواحد في مواجهة الخصوم، فهناك أسباب أخرى وراء تفشي ظاهرة الاختطاف داخل المجتمع المصري.
المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، في بحث ميداني له، بعنوان “صور الاتجار بالبشر في المجتمع المصري” رصد حالات بيع الأطفال لأعضائهم – من خلال عينة مكونة من 400 طفل – وبالتحديد الكلى فقط، حيث باع طفلان كليتيهما مقابل 15 ألف جنيه (900 دولار) لأحدهما، و25 ألف جنيه (1400 دولار) للآخر، والاثنان من الذكور في الفئة العمرية من 15 إلى 18 عامًا والاثنان من الذين تسربوا من مرحلة التعليم الابتدائي.
حالة الفوضى والانفلات الأمني الذي يعقب التغييرات السياسية المفاجئة بيئة خصبة لنمو تلك الجرائم، حيث يكون المجتمع غير مهيأ لها، وعادة ما يصاحبها فوضى وغياب لدور الشرطة
الدكتور عادل عامر رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية، أرجع انتشار جرائم الاختطاف إلى عدة أسباب منها ما هو مجتمعي كالفقر والتفكك الأسري والتسرب من التعليم، فضلاً عن انشغال رجال الأمن بمحاربة الإرهاب وتجاهل حماية المواطنين، لافتًا في مقال له أن “ظاهرة الاختطاف ليست وليدة اليوم ولكنها تزايدت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة التي أعقبت الثورة نتيجة انشغال الأمن بمحاربة الإرهاب؛ ما أعطي فرصة للخاطفين للقيام بأعمالهم الإجرامية لأن تلك الظاهرة تهدد المجتمع بأكمله خاصة أن هناك تقصيرًا في تطبيق القوانين في مصر رغم كون تلك القوانين كافية لحل الأزمة”.
عامر أضاف أن حالة الفوضى والانفلات الأمني الذي يعقب التغييرات السياسية المفاجئة بيئة خصبة لنمو تلك الجرائم، حيث يكون المجتمع غير مهيأ لها، وعادة ما يصاحبها فوضى وغياب لدور الشرطة، ما يسمح لمحترفي الإجرام بالانتشار في المجتمع، وممارسة أنشطتهم المخالفة للقانون بحرية ودون خوف من الملاحقة القضائية.
يذكر أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة الإحصاء الرسمية في مصر) في تقرير له كشف أن ما يقرب 25 مليون مواطن مصري لا يجدون قوت يومهم، حيث توصل إلى أن 27.8% من المصريين فقراء، لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغيره، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلي فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحري، حينها نقف على أبرز أسباب هذه الكارثة.