يقولون إن أصعب أنواع السجن، ذلك الذي لا يلاحظ المرء أنه مسجون فيه، وبالنسبة لكثير من نقاد الرأسمالية، فهو السجن الذي يُسجن فيه عشرات الملايين من الناس دون ملاحظة ذلك، تعدد نقاد الرأسمالية من كل حدب وصوب، إلا أنه كان هناك عالم اقتصادي حائز على جائزة نوبل ويعتبر أعظم نقاد الرأسمالية في القرن العشرين ويعتبره البعض أعظمهم في التاريخ، هذا العالم هو “أمارتيا سن”.
يهيمن على النقد الكلاسيكي للرأسمالية النظرة المادية، ويكاد ينعدم التطرق فيه إلى القيم غير المادية في تأثير الرأسمالية على القيم الأخلاقية والمجتمعية، فيكون “الإنسان الاقتصادي” دائمًا في الوجهة، وهذا لا يختلف كثيرًا عن رأي المؤيدين للرأسمالية، حيث يعتبرون “الإنسان المادي” نقطة البداية الصحيحة للفكر الاجتماعي.
هل هناك أكثر من الموارد والأمور المادية لتحقيق الازدهار؟ الرأسمالية ستجيب قطعًا بالنفي، الإنسان الاقتصادي يحتاج مزيد من الماديات لكي يكون أكثر سعادة وليشعر بالقوة والسيطرة في المجتمع، ولهذا فإن أي إصلاحات مادية تتضمن الارتقاء برفع مستوى الدخل لن تفيد في أي إصلاحات اجتماعية أو أخلاقية في أي مجتمعات فيها خلل في توزيع الثروات.
من بين كل ناقدي الرأسمالية كان هناك ناقد وحيد اعتبره خبراء الاقتصاد ناقد الرأسمالية الأعظم في تاريخ نقد الرأسمالية وتحديدًا في القرن العشرين، وهو عالم الاقتصاد الهندي “أمارتيا سن” وذلك لأنه انتقد الرأسمالية بشكل مختلف، فلم ينتقد المادية التي تهيمن على الرأسمالية فحسب، بل لم يفصلها عن القيم الأخلاقية والمجتمعية كما يفعل بقية النقاد، حيث يتعامل “سن” مع المشكلات الأخلاقية والمادية والاقتصادية على حد سواء دون أن يفصل بينهم.
من “أمارتيا سن”؟
وُلدت أفكار سِن في مدرسة طاغور في سانتينيكيتان بولاية البنغال، حيث درس لفترة، وعززت المناهج التربوية بالمدرسة نقطة العلاقات بين وجود الشخص المادي والروحي، من حيث أهمية كليهما وضرورته، تعلم “سن” مع غيره من التلاميذ مبادئ فهم أنفسهم الوجودية والروحية قبل فهم احتياجاتهم المادية، لم يتعرفوا العالم من خلال الماديات كما يحدث مع من تعرف العالم من خلال البرامج التي تشرعها الدولة أو الحكومة التي تبرز المبادئ المادية النفعية على المبادئ الأخلاقية.
بعد تعليمه الأول في مدرسة “طاغور” صار سن جاهزًا لدراسة الاقتصاد، فدرسه في جامعة الرئاسة في مدينة كلكاتا الهندية، ثم سافر إلى كامبريدج البريطانية، حينها كان المسيطر على العالم نظرية الرفاهية المقترنة بالفكر الرأسمالي، بعد المناداة الشرسة بحرية السوق وابتعاده عن سيطرة الحكومات وعدم تدخلها في التحكم بأصحاب الثروات في أثناء الصراع بين الرأسمالية وأنظمة مثل الاشتراكية والشيوعية.
“التنمية هي الحرية”، كما يعرّفها الاقتصادي أمارتيا سن
جاء أمارتيا سن مخالفًا لما سعى إليه “اقتصاديو الرفاهية” في القرن العشرين، وهو تفكيك كل ما يربط بين المادية والمبادئ الأخلاقية، لم يؤمن “سن” أن تشريع الدولة للاقتصاد من أجل تحقيق الرفاهية هو فعل يصبو في مصلحة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، بل آمن أن ذلك فعل يعيبها أكثر من كونه يصلحها ويُنميها؛ ولهذا نال جائزة نوبل عام 1988 لإسهاماته فيما يُعرف باقتصاد الرفاه، وهو علم من علوم الاقتصاد يعني باستخدام تقنيات الاقتصاد الجزئي لتقديم الرفاه الاقتصادي، بإدخال القيم الأخلاقية والإنسانية إلى هذه التقنيات.
نظرية الاختيار: كيف سعى “أمارتيا” نحو العدالة؟
كتاب “فكرة العدالة” لأمارتيا سن
أسهم أمارتيا سن في نظرية الاختيار الجماعي، وهي نظرية تعني بالجمع بين آراء الأفراد وتفضيلاتهم للوصول إلى قرار جماعي في قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية، نرى ذلك في كتابه المنشور عام 1970 بعنوان “الاختيار المشترك والرعاية الاجتماعية”، عالج فيه كثير من القضايا الاجتماعية المتعلقة باقتصاد الرفاه، كالعدالة والمساواة وحقوق الفرد، حيث كان من أكثر العلماء الذين لفتوا انتباه الاقتصاديين إلى مشاكل الشارع والمجتمع.
حاول أمارتيا لعب دور كبير في التأثير على الحكومات والمنظمات الدولية لبذل الجهود في التنمية الاقتصادية المتعلقة بالمجتمعات، من أجل مكافحة الفقر والمجاعات حول العالم، وذلك لأن للمجاعات ذكرى مؤلمة عنده؛ حيث شهد في صغره مجاعة “البنغال” التي قضت على ثلاثة ملايين شخص، مما دفعه إلى تأليف كتابه “الفقر والمجاعات” عام 1981 الذي أسهم بدوره في صياغة تقرير التنمية البشرية الذي نشرته الأمم المتحدة آنذاك.
ماذا تعني المجاعة بالنسبة لـ”أمارتيا سن”؟
على عكس التصور السائد عن المجاعات أنها تنشأ من النقص الحاد للطعام، آمن أمارتيا سن أن المجاعات ما هي إلا شكل من أشكال نقص العدالة الاجتماعية المتمثلة في مجموعة كبيرة من البشر الذين فقدوا قدرتهم الكاملة على الشراء، لقد تحدث أمارتيا عن تجربته الشخصية مع المجاعة، بعد أن شهد مجاعة “البنغال” عام 1943 حينما كان في عمر التاسعة، وحين قام بدراسة المجاعة ونتائجها حينما صار اقتصاديًا وجد أن أغلب حالات الوفاة آنذاك التي قُدرت بنحو 3 ملايين، لم تكن ضرورية في الأساس، ولم تكن بسبب نقص الطعام.
“لا يمكن لنمو اقتصادي أن يحدث دون إصلاح اجتماعي مثل التعليم والصحة”
– أمارتيا سن
آمن أمارتيا سن أن المجاعات خلل اقتصادي، ينشأ من انخفاض الأجور وارتفاع نسب البطالة وارتفاع الأسعار الغذائية، ولهذا فإن من الغباء البحث عن أسباب المجاعات من خلال البحث عن الأسباب الزراعية المتعلقة بالمحاصيل أو الأسباب الجغرافية أو الأسباب المتعلقة بالطقس، إلخ، المجاعة بالنسبة لأمارتيا سن هي “خلل أخلاقي” في الاقتصاد، خلق صراعًا قويًا على سلعة نادرة، أدى إلى تفاوت واضح في توزيع الموارد بين طبقات المجتمع.
لا يكون هناك ما يكفي من المواد للجميع لأن العلاقة بين الإنسان والاقتصاد غير واضحة، فبحسب رأي أمارتيا سن لا تحدث المجاعات في بلاد الديموقراطيات العاملة، حيث يرى أن الاستجابة لمطالب المواطنين في تلك البلاد تكون أكثر سلالة وأكثر وضوحًا في تحديد العلاقة بين مطالب المجتمع والاقتصاد.
كان الحل بالنسبة لأمارتيا هو سعر ثابت للموارد الغذائية، وتوزيع عادل للثروات، يضمن حق الشعب في المساهمة في التنمية الاقتصادية التي تبدأ بتنمية المجتمع، من خلال عدم الفصل بين الانتفاع المادي والمنظومة الأخلاقية التي تضمن للشعب حقه في أن يكون الاقتصاد مبنيًا على طلباته في الأساس.