امتدادًا للكيان الذي تخدمه، تورطت وكالة الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد”، والتي تعدّ مؤسسة رسمية في الدولة، ولها تراتبيتها الهرمية وعلاقاتها بأعضاء الحكومة والجيش وغيرهم من قادة الكيان؛ منذ إنشائها عام 1949 في سلسلة جرائم وانتهاكات لسيادة الدول، حتى تلك التي تعدّ حليفة لـ”إسرائيل”، بتنفيذ مهام “سرية” و”حسّاسة” لصالح الأمن القومي الإسرائيلي، تنطوي على عمليات اغتيال وتجسس وتعذيب وجرائم مالية وسياسية عديدة.
كثفت الوكالة سيئة السمعة من عملياتها بعد السابع من أكتوبر، وقادت إضافة إلى تواجدها خارج “إسرائيل”، جهودًا داخلية لا تقع ضمن اختصاصاتها، حيث تعددت جبهات عملها مع حرب الإبادة في القطاع. يمرّ هذا المقال سريعًا على أهم عمليات الموساد، ما هي طبيعة عمله؟ وأي أهداف يخدم؟ ما هي وسائله؟ وكيف يتعامل معه المجتمع الدولي بوصفه منظمة إرهابية عابرة للقارات والحدود؟
الموساد ..جذور الشجرة الخبيثة
أنشأ بن غوريون وكالة الاستخبارات والمهام الخاصة “الموساد” بعد أعوام قليلة من تأسيس “الدولة”، حيث اكتسبت، على عكس محاولات الترويج لها كمؤسسة ديمقراطية، سمعةً إجرامية نمت في الظل، وخلقت إلى جانب المؤسسات المعلنة دولةً عميقة وسرية.
يعمل الموساد على عكس الاستخبارات العسكرية “أمان” وجهاز الأمن الداخلي “شين بيت أو الشاباك”، على مهام ذات طبيعة سرية خارج حدود الكيان، وجاء هذا الجهاز تتويجًا لرؤية الدولة الوليدة متكأةً على الوجود العسكري والاستخباراتي المتفوق، أكثر من اتكائها على الدبلوماسية المعروفة بين الدول ذات الطبيعة المستقرة.
أحاط بن غوريون كلًّا من الموساد و الشاباك بهالة من السرية، حتى أن اسميهما كانا ممنوعان من الذكر وسط العامة حتى ستينيات القرن الماضي، وهكذا بقي الموساد والشاباك بعيدان عن التنظيم القانوني، فلم تكن لهما قوانين تنظيم داخلية ولا لوائح ولا قواعد عمل ولا حتى ميزانيات محددة، ورغم ذلك بقي للموساد أهداف فضفاضة تدور في فلك الأمن القومي الإسرائيلي، يمكن استنباطها من طبيعة عملياته وأهدافه التي سعى لها طوال العقود الماضية.
تأتي في مقدمة هذه الأهداف محاولة تحييد أي خطر عسكري يهدد أمن “إسرائيل”، وجمع معلومات استخباراتية عن النشاط العسكري حول العالم وليس فقط الدول المحيطة بالأراضي الفلسطينية، وملاحقة مرتكبي عمليات لا ضد الإسرائيليين وحسب لكن ضد اليهود في الخارج أيضًا، وأخيرًا محاولة تنظيم هجرة يهود العالم إلى “إسرائيل”.
تنوعت عمليات الموساد وفقًا لهذه الأهداف، وتكاد لا تخلو دولة من وجود الموساد وعمليات جمع معلومات وتواطؤ وتجسس وتجنيد للعملاء. وقد ذاع صيت عدد من عملاء الموساد في عمليات التجسس في الخارج، كان على رأسهم الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين، والذي نجح في اختراق القوات السورية تحت اسم “كامل أمين ثابت”، وقام بتسريب معلومات حساسة ساعدت “إسرائيل” في بناء استراتيجيتها الحربية إبّان حرب 1967.
حاول الموساد أن يظهر بمظهر الباحث عن العدالة المتأخرة لليهود، ففي إحدى أشهر عملياته ألقى الجهاز في الأرجنتين القبض على أدولف إيتشمان، أحد قادة النازية ومهندسي الهولوكوست، وقام باختطافه وجلبه إلى “إسرائيل” لتتم محاكمته في عملية سُوّق لها أنها بطولية، وقامت نتفليكس بعد سنوات باقتباسها في فيلمها “العملية النهائية”.
من عمليات الموساد البارزة أيضًا الانتقام الذي شنّته الوكالة بتوجيه من غولدا مائير، في رد فعل على قتل 11 إسرائيليًا من قبل المقاومة الفلسطينية في أولمبياد ميونخ عام 1972، والتي جاءت بهدف “تحقيق العدالة” لضحايا “إسرائيل”، إضافة إلى تحرير عدد من الرهائن الذين قبضت عليهم المقاومة الفلسطينية.
وفي معرض تنظيم هجرة اليهود إلى “إسرائيل”، تأتي عملية “الأخوة” في ثمانينيات القرن الماضي كإحدى أهم عمليات الموساد بالخصوص، حيث تحايل الموساد بتنظيم منتجع مزيّف على شواطئ البحر الأحمر السودانية كغطاء لتسهيل هجرة آلاف الإثيوبيين اليهود إلى “إسرائيل”.
اغتيالات متعددة الساحات
استهدفت الوكالة شخصيات سياسية وعسكرية فلسطينية وعربية ودولية متعددة. فقد شنّت عشرات عمليات الاغتيال منذ ستينيات القرن الماضي في الخارج، راح ضحيتها قادة للمقاومة الفلسطينية من مختلف الفصائل، مثل خليل الوزير ووديع حداد وصالح العاروري ومحمود المبحوح، كما استهدفت أيضًا قادة لـ”حزب الله” وقادة إيرانيين وعلماء ومهندسين من مختلف الجنسيات.
وعادة ما تتصف الوكالة بطول النفس والتخطيط بعيد المدى، فعملية مثل عملية اغتيال محمود المبحوح، أحد قادة حماس البارزين، في واحد من فنادق دبي عام 2010، تطلبت تخطيطًا استخباراتيًا وجمعًا للمعلومات امتد لـ 4 سنوات، قبل أن تقدم الوكالة على تنفيذ العلمية أخيرًا.
بينما استخدمت الوكالة لقتل وديع حداد، أحد قادة الجبهة الشعبية ومخطط رئيسي في عمليات اختطاف الطائرات ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، معجون أسنان مسمومًا استبدله أحد عملائها بالمعجون الذي يستخدمه حداد، ليقوم المعجون بقتله على مراحل في عملية ظلت حبيسة الظل وبعيدة عن الشك أعوامًا طويلة.
لم تقتصر أهداف الموساد على السياسيين والقادة العسكريين من الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم، بل تجاوزتهم إلى المثقفين والكتّاب والفنانين الذين كان لكلماتهم وألوانهم صدى في الوجدان العربي، كان على رأسهم كل من غسان كنفاني وناجي العلي اللذين اغتالهما الموساد في الخارج.
من ناحية أخرى، ينتهج الموساد أيضًا سياسة تقليم الأظافر لأي قوى عربية أو إسلامية يمكن أن تشكّل خطرًا على أمن “إسرائيل”، فقد نفّذت الوكالة منذ بداية العقد الماضي عددًا من عمليات الاغتيال بحقّ علماء ضالعين في الملف النووي الإيراني، كان آخرهم العالم النووي محسن فخريزاده الذي قامت الوكالة باغتياله في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وكان فخريزاده خامس عالم نووي إيراني يقتله الموساد منذ عام 2010.
سبق ملف الاغتيالات الشخصية عدد من العمليات الموجهة لتدمير القدرات أو المحاولات البدائية لتطوير قدرات نووية في المنطقة، ففي عام 1981 وجّه سلاح الجو الإسرائيلي بتعليمات وجهود الموساد ضربة لمفاعل نووي في طور البناء في العراق، في عملية أُطلق عليها اسم “عملية أوبرا”. بينما تم توجيه ضربة مشابهة عام 2007 لمفاعل نووي في طور البناء وفقًا لمعلومات الموساد في دير الزور، في عملية معروفة باسم “عملية البستان”.
كما لا يقتصر دور الموساد على تنفيذ المهام ذات الطبيعة العسكرية والسياسية في الخارج، فقد كشف تحقيق للصحفي رونين بيرغمان نشره في “نيويورك تايمز” بعنوان “سلاح إسرائيل غير السري في محاربة كوفيد-19″، عن دور الموساد وعملائه في السيطرة على المعدّات الطبية والجهود البحثية حول المرض، وما لحق ذلك من استيلاء الوكالة على مئات آلاف فحوصات الفايروس من “مصادر غير معلومة”.
هامش للفشل
لم يكن الموساد موفّقًا دائمًا في عملياته، فقد واجهه الفشل في بعض أهمهما، وبينما تدارك بعضها فشلَ في تدارك البعض الآخر حتى يومنا هذا، وإحدى أبرز عملياته الفاشلة كانت محاولة اغتيال علي حسن سلامة، أحد قادة المقاومة الفلسطينية المسؤولين عن عملية أولمبياد ميونخ.
فبينما تم رصد سلامة في أحد مقاهي النرويج مع رفاقه من قبل أحد عملاء الموساد، شكّل الأخير فريق اغتيال سريع من عدد من العملاء له في المنطقة يوم 21 يوليو/ تموز 1973، ليقوم الفريق بإطلاق النار على الهدف وإردائه قتيلًا، قبل ان يكتشف أن القتيل هو مواطن من أصل مغربي ولا علاقة له بسلامة أو بالمقاومة الفلسطينية.
ورغم أن العملية تمّ استدراكها بعد أعوام قليلة في لبنان مطلع عام 1979 بتفجير علي سلامة ورفاقه أمام مسكنه في بيروت، إلا أن المحاولة الفاشلة أثّرت سلبًا على سمعة الموساد، وأدّت إلى اعتقال عدد من العملاء الضالعين في العملية الفاشلة ومحاكمتهم حينها.
إلا أن أشهر العمليات الفاشلة للموساد كانت محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن عام 1997 بتوجيه من بنيامين نتنياهو، كردّ فعل على العمليات الاستشهادية التي شنّتها حركة حماس في الداخل المحتل تسعينيات القرن الماضي.
انتهت العملية التي كان من المفترض رشّ مشعل خلالها بمادة سامّة كفيلة بقتله خلال 48 ساعة بفشل ذريع، إذ تم القبض على عميل الموساد المسؤول عن العملية، وهددت الأردن بقطع اتفاقية السلام التي جمعتها مع “إسرائيل” إن لم تعمل الأخيرة على توفير الترياق لمشعل، وهو ما حصل، مخلفًا إذلالًا دوليًا للموساد وفشلًا ذريعًا لم تنجح الوكالة في تداركه حتى اللحظة.
ملف ملطّخ مع المنظمات الدولية
للموساد ملف طويل في عمليات التهديد والابتزاز التي طالت منظمات وشخصيات دولية ضالعة بملفات ذات صلة بالأمن القومي لـ”إسرائيل”. ففي تحقيق كشفت عنه صحيفة “الغارديان” مؤخرًا، تم توجيه تهمة التهديد والابتزاز لرئيس الموساد السابق يوسي كوهين، في سلسلة لقاءات سرية جمعته مع المدعية العامة السابقة لمحكمة الجنايات الدولية فاتو بنسودا، للحيلولة دون المضيّ قدمًا بقرار فتح تحقيق جنائي في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث هددها كوهين بسلامتها الشخصية وسلامة عائلتها في تصرف وصفته الصحيفة بـ”المشين”.
ورغم أن مساعي الموساد فشلت مع فاتو بنسودا، حيث أعلنت الأخيرة وجود أساس معقول لفتح تحقيق جنائي في الوضع بالأراضي الفلسطينية المحتلة قبيل مغادرتها للمكتب عام 2021، إلا أن هذه الجهود أثمرت مع إدارة ترامب بين عامي 2019 و2020 بخطوة غير مسبوقة عقوبات متنوعة على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم فاتو بنسودا.
في تحقيق آخر تحت عنوان “التجسس، الاختراق والتهديد: حرب التسع سنوات الإسرائيلية على المحكمة الجنائية الدولية تحت المجهر”، أشارت الصحيفة إلى أن جهود الموساد لعرقلة عمل المحكمة استمرت مع كريم خان الذي سكت عن متابعة الملف طوال 3 سنوات، ولم يتحرك إلا بعد فترة من بدء حرب الإبادة التي تشنّها “إسرائيل” في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
ليست المحكمة الجنائية الدولية وحدها محل تهديد الموساد وتلاعبه، فقد سبقتها وكالات الأمم المتحدة بأجهزتها ومسؤوليها المختلفين، إذ يعدّ ملف الأونروا والاتهامات التي كالها الموساد على موظفي الوكالة بالضلوع في هجمات السابع من أكتوبر، لتبرير قطع تمويل الوكالة وتضييق الخناق على الفلسطينيين في القطاع، أحد آخر فصول هذه المهزلة، بينما سبقتها سلسلة من التهديدات والابتزازات التي طالت أجهزة مثل الجمعية العامة ووكالة الطاقة الذرية ومجلس حقوق الإنسان، في ملفات متعلقة بالقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد.
كما طالت المضايقات والتهديدات مسؤولين تابعين للأمم المتحدة، عملوا طوال العقود الماضية على توثيق الجرائم الإسرائيلية وكيل الانتقادات للسياسات الإجرامية للكيان. ورغم أن الاستخبارات الإسرائيلية نادرًا ما تترك دليلًا قاطعًا على تدخلاتها وأساليبها المخالفة للقانون، إلا أن عددًا من المسؤولين أكدوا تعرضهم لمضايقات وتهديدات من الوكالة وعملائها في الخارج.
كان على رأس هؤلاء ناشط حقوق الإنسان الأمريكي ريتشارد فولك، والذي تولى منصب المقرر الأممي الخاص لحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فترة 2008-2014؛ فقد تعرض فولك المناهض للسياسات الإسرائيلية لتهديدات ومضايقات في عمله قبل، أن تقوم “إسرائيل” بطرده خلال زيارة عمل له في الأراضي المحتلة عام 2008.
تلاه في هذا المسلسل من الابتزاز ريتشادر غولدستون، مبعوث مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في عملية “الرصاص المصبوب” التي ارتكبتها “إسرائيل” في قطاع غزة عام 2008-2009، إذ تعرض التقرير الذي أصدره غولدستون لهجوم شديد اللهجة من “إسرائيل”، كما تعرّض طاقم البعثة لمضايقات وتهديدات مختلفة من عملاء الوكالة في الخارج، وأثمرت أخيرًا بسحب التقرير وتقديم غولدستون اعتذارًا عنه.
سياسة تكميم الأفواه
لم يقتصر عمل الموساد على استهداف المسؤولين والعاملين في المنظمات الدولية، لكنه طال أيضًا عددًا من الصحفيين والناشطين الحقوقيين الذين سلكوا دربًا محفوفة بالمخاطر، إما بتتبّع الجرائم الإسرائيلية عامة وإما بتتبّع نشاط الوكالة بشكل خاص وملفات حساسة متعلقة بصفقات السلاح في الخارج.
في حادثة تعدّ الأبرز في هذا المجال، حامت شكوك عديدة حول مقتل الصحفي والسياسي الألماني أوي بارسشيل عام 1987، والذي وُجد مقتولًا في غرفة فندقه أثناء عمله على تحقيق يتعلق بعمل الموساد ونشاط “إسرائيل” العسكري في الخارج.
كما تعدّ قصة عميل الموساد السابق فيكتور أوستروفيسكي تسعينيات القرن الماضي، مثالًا آخر على تهديد العمل الاستقصائي، فبعد تركه لسلك الوكالة، قام أوستروفيسكي بنشر كتابَين يكشف فيهما عددًا من أسرار الموساد، ليقدّم بعدها شكاوى بتعرضه لتهديدات بالقتل من عملاء الوكالة بسبب منشوراته ونشاطه المناوئ لها.
ولم يسلم من هذا التوجه حتى الصحفيين والناشطين الإسرائيليين أنفسهم، فقد كشف جدعون ليفي، الناشط الحقوقي الإسرائيلي والكاتب في صحيفة “هاآرتس”، عن تعرضه لمضايقات وتهديدات يشتبه بتورط الموساد فيها، نتيجة انتقاده المستمر واللاذع لسياسات الكيان.
ابتزاز واسع النطاق
تكاد لا تخلو دولة ذات وجود وثقل من عمل الموساد المتعلق بالتجسس والضغط السياسي والدبلوماسي في المكاتب المغلقة ودهاليز الحكم والتشريع.
ليس هذا الملف المتخم بجديد، حيث سجّل التاريخ منذ منتصف القرن الماضي حوادث ضغط مارسها الموساد في ملفات مختلفة على الدول أعضاء المجتمع الدولي، كان بعضها متعلقًا بالسكوت عن عملياته غير القانونية على أراضي تلك الدول، مثل الضغط الدبلوماسي الذي مارسته الوكالة على السلطات الأرجنتينية أثناء وبعد عملية القبض على أدولف إيتشمان من بوينس آيريس، الأمر الذي مثّل خرقًا صريحًا لسيادة الأرجنتين.
وحتى الضغط على الدول في صفقات أسلحة من شأنها أن تذهب إما إلى قوى معادية مثل “حزب الله” وصدام حسين، كحادثة الضغط الذي مارسته الوكالة على فرنسا ثمانينيات القرن الماضي، لمنع عقد صفقات لتجميع وتصنيع مكونات المفاعل النووي الذي تقرر ضربه لاحقًا في العراق؛ وإما تلك التي قد تخلق نوعًا من اختلال توازن القوى في المنطقة، مثل الضغط على قبرص لعدم توظيف قذائف إس-300 الروسية في أراضيها تسعينيات القرن الماضي.
وفي مجال الضغوط المتعلقة بالمقاومة ووضع الأراضي المحتلة، فقد احتفظ الموساد بعلاقات وطيدة تنمو في الظل مع لوبيات وجماعات ضغط موالية لـ”إسرائيل” عاملة على أراضي الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا، رافقتها عمليات تجسس واسعة وأثمرت طوال العقود الماضية، وبالأخص بعد السابع من أكتوبر، عن دعم ضخم وأحيانًا غير مشروط لـ”إسرائيل” عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا في حربها الإبادية في القطاع وفي عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما عُرف عن الموساد حسن توظيفه للذكاء الاصطناعي والثورة التكنولوجية، فمنذ بدايات الألفية قامت الوكالة باستخدام القرصنة كإحدى أهم وسائل عملها، وقد تنوعت عمليات القرصنة بين تلك التي استهدفت منشآت نووية تابعة لإيران، مثل عملية ستكسنت عام 2010 التي عبثت في المفاعلات النووية الإيرانية وأتلفت دوائرها، وكانت بدورها جزءًا من عملية قرصنة أوسع بدأت عام 2006 استهدفت إيران وسُمّيت بعملية “الألعاب الأولمبية”.
وأيضًا تلك التي تم استخدامها في عمليات الاغتيال، من تتبّع الهدف وجمع المعلومات الاستخباراتية حوله أو التعمية على أسلحة الجو للردّ على عمليات الاغتيال والتدمير في أراضي الدول، مثل عملية القرصنة التي رافقت تدمير المنشأة النووية في سوريا عام 2007.
رغم محاولات عائلات ضحايا الموساد رفع دعاوى قضائية ضد الوكالة، إلا أن المحاولات لم تفضِ إلى نتيجة ملموسة نتيجة للحصانات الدبلوماسية وخصوصية “إسرائيل” لدى الغرب
أضف إلى ذلك عملية التجسس الإلكتروني والقرصنة الأوسع التي تم الكشف عنها عام 2012 تحت مسمّى “البرمجيات الخبيثة اللهبية”، والتي استهدفت عدة منشآت ومؤسسات حيوية في الشرق الأوسط، وكان الهدف منها جمع المعلومات وسرقة الملفات وتسجيل المحادثات وأخذ الصور لأجهزة حاسوب حكومية وعسكرية.
ما زال الموساد حتى لحظة كتابة هذا المقال منخرطًا بمعسكر قرصنة واسعة لوسائل التواصل الاجتماعي، يهدف إلى تشكيل العملية السياسية وتضليل الرأي العام العالمي بخصوص سياسات “إسرائيل” في المنطقة، وينطوي هذا المعسكر على خلق الحسابات المزيفة ونشر الإشاعات والأكاذيب وخرق الحسابات، وبناء سردية مضللة حول الأحداث في الشرق الأوسط عمومًا وفي فلسطين على وجه الخصوص.
انتهاكات قانونية صارخة
قاد الموساد عددًا من العمليات ذات الطبيعة الجنائية، والتي تعدّ خرقًا للقوانين الدولية والوطنية على السواء، بل إن جُلَّ عملياته توافق بشكل نموذجي تعريفات الإرهاب، والتي تربط بين الفعل الجرمي ونية تحقيق أهداف سياسية.
ورغم سطوع هذه الحقيقة وبديهيتها، بقيَ الموساد ومن خلفه الكيان الذي يخدمه محصّنًا إلى حد كبير من المحاسبة الدولية وحتى الوطنية، باستثناءات محدودة تمكنت فيها حكومات الدول التي كانت مسرحًا لعملياته من إلقاء القبض على عملائه والمتعاونين معه، وإحالتهم إلى القضاء الوطني.
وقد انطوت عمليات الموساد على مخالفات قانونية عديدة، فقد وظفت في سبيل تحقيق أهدافها ممارسات واسعة من تزوير الأوراق الرسمية وجوازات السفر، وعمليات قرصنة وتجسّس وجرائم مالية على رأسها غسيل الأموال والواجهات التجارية المزيفة لتنفيذ عملياتها.
تسبق ذلك بطبيعة الحال عمليات الاغتيال والتعذيب والاختطاف التي مارستها الوكالة على أهدافها، وتأتي كل هذه المخالفات في الإطار الأوسع لعمل الوكالة بخرق سيادة الدول والعمل كبلطجي عابر للحدود.
تنتهك هذه المخالفات جوهر القانون الدولي وعلاقات الدول، إضافة إلى انتهاكها القوانين الوطنية والمحلية للدول مسرح الجرائم. ويأتي ميثاق الأمم المتحدة على رأس قائمة القوانين المنتهكة، حيث يضمن الميثاق وقوف الدول على قدم المساواة ورفض انتهاك إحداها لسيادة الأخرى دون موافقة الأخيرة، ناهيك عن اتخاذها مسرحًا لجرائم بشرية ومالية ودبلوماسية. كما تنتهك الاتفاقيات الدولية الخاصة بتزوير الأوراق الرسمية وجوازات السفر وعلى رأسها ميثاق طوكيو.
تنتهك عمليات الوكالة أيضًا مواثيق دولية متعلقة بالسلامة الجسدية وحرية وحقوق الأفراد، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة للحقوق المدنية والسياسية الذي يجرّم القتل خارج حدود القانون وعمليات الاغتيال والاختطاف. أضف إلى ذلك المواثيق التي تحرّم الإخفاء القسري للأفراد والتعذيب والحرمان من حق التقاضي، مثل ميثاق مناهضة التعذيب وضروب المعاملة غير الإنسانية.
ورغم أن العالم ما زال يخطو خطواته الأولى في مجال تقنين القرصنة وانتهاكات الذكاء الاصطناعي، إلا أن عمليات الموساد تنتهك الخطوط العامة التي تضمن سلامة تكنولوجيا الدول من التجسس والقرصنة، والتي يتم حاليًا العمل عليها في ما يُعرف بـ“دليل تالين”.
علاوة على ما سبق، فإن سلسلة من القوانين التي تجرّم غسيل الأموال واستخدام الأسلحة غير المشروع، من أمثلة اتفاقية تجارة السلاح الدولية وميثاق الأمم المتحدة للجريمة المنظمة المتنقلة وتوصيات العمل التجاري الدولية، هي أيضًا محل اختراق في مثل هذه العمليات.
منظمة فوق القانون
رغم أن الموساد يبدو منظمة محصنة من المحاسبة كما هو حال الكيان الذي يخدمه، إلا أن عملياته لم تمرّ دائمًا دون احتجاج أو معاقبة، خاصة من بعض الدول التي تم انتهاك سيادتها أثناء هذه العمليات.
وقد تدرّجت تلك الاحتجاجات من قطع العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء إلى اتخاذ خطوات قانونية وقضائية وطنية، وأحيانًا إدانة الأمم المتحدة لبعض العلميات التي تشكّل انتهاكًا صارخًا لقواعد القانون الدولي.
في عام 1987 قامت المملكة المتحدة بطرد 3 مبعوثين دبلوماسيين إسرائيليين من المملكة، بعد ضبط 3 عملاء للموساد وبحوزتهم جوازات سفر بريطانية مزورة، وكذلك فعلت كل من أيرلاندا وأستراليا عام 2010 بعد ظهور شكوك حول استخدام عملاء الموساد لجوازات سفر أيرلاندية وأسترالية مزورة لدخول دبي بهدف اغتيال المبحوح.
بينما قامت نيوزيلاندا عام 2004 بقطع علاقاتها الدبلوماسية مؤقتًا مع الكيان، بعد اكتشاف محاولات لعملاء الموساد لتزوير جواز سفر نيوزيلاندي، وتم حكم المتورطين بالسجن لمدة 6 أشهر خرجوا بعد إمضاء نصفها تقريبًا.
ورغم محاولات عائلات ضحايا الموساد، ومنها عائلة محمود المبحوح، رفع دعاوى قضائية ضد الوكالة على المستويات الوطنية والدولية، إلا أن المحاولات لم تفضِ إلى نتيجة ملموسة نتيجة لتعقيدات تتعلق بالحصانات الدبلوماسية من ناحية، وخصوصية “إسرائيل” لدى الغرب من ناحية أخرى، ما جعل منها ومن وكلائها محصنين من العقوبات الرادعة.
ولم تتجاوز الخطوات المتخذة بأحسن الأحوال إصدار مذكرات اعتقال وسجن بعض المتورطين لفترة بسيطة، كما حدث في دبي على إثر مقتل المبحوح، أو الشروع بتحقيق جنائي في ملابسات التجسس وتزوير الأوراق الرسمية، كما حدث في ألمانيا وغيرها من الدول الغربية.
أما الأمم المتحدة فكان جُلَّ ما فعلته إثر بعض فضائح الموساد وعملياته الإرهابية، أن قامت بإدانة العمليات واعتبارها تهديدًا للسلم والأمن العالميَّين، كما فعلت إثر مقتل خليل الوزير على يد الموساد في تونس عام 1988؛ أو الإيعاز لمقرريها الخاصين والذين لا يعتبَرون موظفين رسميين لديها بإدانة العلميات، كما حدث إثر مقتل قائد كتائب القسام في لبنان صالح العاروري، حيث قام المقرر الخاص للقتل خارج حدود القانون بإدانة العملية والمطالبة باحترام القانون الدولي ومحاسبة الفاعلين.
ختامًا، اعترفت الوكالة مؤخرًا بأن أحداث السابع من أكتوبر شكّلت مفاجأة لها، إلا أن عملها تصاعد بشكل كبير منذ بداية الحرب الحالية على القطاع، فقد أنشأت وحدة متخصصة بالتعاون مع أجهزة أمنية أخرى في “إسرائيل”، بمهمة تتبّع وقتل قادة حماس المسؤولين عن عملية السابع من أكتوبر، كما قامت الوكالة بتوفير دعم استخباراتي كبير لجيش الاحتلال، بما في ذلك استخدام الروبوتات لفحص وتتبّع أنفاق كتائب القسام، وتوجيه الضربات الليلية باستخدام الذكاء الاصطناعي.
إضافة إلى ذلك، لعبت الوكالة دورًا بارزًا في ملف المختطفين، وكان حضورها واضحًا في محادثات الصفقات إلى جانب الوسطاء المصريين والقطريين وحلفائهم الأمريكيين، بينما لم تتوقف في الوقت ذاته عمليات الاغتيال التي طالت قادة المقاومة الفلسطينية في الخارج، وعلى رأسهم صالح العاروري وعدد من قادة “حزب الله” وعدة مسؤولين إيرانيين.