يُقال إن “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”، لكن من يقف وراء أكبر الطغاة والحكام المستبدين في العالم العربي؟
إنهن السيدات الأُولَيات اللاتي تشاركن في الحكم، وتلعبن دورًا مهمًا في الحفاظ على السلطة، وتمثلن الوجه العصري والناعم للأنظمة المستبدة داخليًا وخارحيًا، وتجمعهن درجات متفاوتة من كراهية الشعوب لهن، وثروات طائلة، وخزائن الملابس باهظة الثمن، وغالبًا ما يكون هناك ما يسمى بـ”النسوية” التي تجيزها الدولة، أو العمل الخيري كوسيلة لإلهاء الجمهور عن الحقائق الوحشية للأنظمة الديكتاتورية.
ظاهرة السيدة الأولى
تندر الأبحاث والدراسات التي تتحدث عن السيدات الأُولَيات في الدول العربية، وربما تنحصر في البحث عن دور زوجات الرؤساء والقادة وأدوارهن في الدول الغربية، وخاصة دور السيدة الأولى في الولايات المتحدة، وغالبًا ما يكون النقاش الدائر حول مدى دستورية وأهمية ووزن دورها في الحياة العامة والسياسية والاقتصادية، وما إذا كان دورها يجب أن ينحصر في دعم زوجها من خلف الكواليس أم أنها تتجاوز هذا الدور إلى حد التأثير السياسي مثل السيدة الأولى في الولايات المتحدة إلينور روزفلت، وفي حالات أحدث مثل هيلاري كلينتون وميشيل أوباما.
بالنظر إلى الدول العربية حيث تطغى الديكتاتورية، ويشكل الحكم الفردي المستأثر بالسلطات والثروات القاسم المشترك بين أنظمة كثيرة في الدول العربية، نجد أن للسيدات الأُولَيات دورًا مختلفًا، لكن رغم أهميته، نادرًا ما تُفرد له الصفحات التي تتحدث عن تلك الأدوار التي تتشابه من دولة إلى أخرى طالما أن هذه الدولة سواء كانت ملكية أم جمهورية يحكهما ديكتاتور أو طاغية أو مستبد.
ويقدم منصب ودور السيدة العربية الأولى منذ دخوله إلى هذه الدول نظرة ثاقبة للتاريخ المؤسسي الاجتماعي والسياسي المحدد للدولة الاستبدادية، ولا يشير التخلي عن هذا الدور وهذا اللقب في الفترات الانتقالية والاستيلاء على السلطة والأزمات السياسية التي تمر بها بعض الدول إلى نهاية استخدام الدولة الاستبدادية للنوع الاجتماعي لخدمة مصلحتها.
ويتشابه دور السيدة الأولى في بداية مسارها لقصر الرئاسة مع أدوار زوجات الرؤساء في دول مثل الولايات المتحدة، ويبدو هذا التشابه جليًا على شاشات التلفزيون وفي الصحف من حيث الشكل، حيث تجدها رفقة زوجها الرئيس الذي تحمل غالبًا اسمه في استقبال رئيس وزوجة دولة أخرى، وفي أحيان أخرى تشارك في حملات للتوعية بالبيئة أو الصحة أو التعليم، وبالتدقيق نجد اختلافًا وخصوصية في بعض الدول العربية.
كان الرئيس المصري أنور السادات وزوجته السيدة الأولى جيهان السادات مسؤولين عن استيراد واستخدام هذا المفهوم والدور على الساحة السياسية المصرية في أواخر السبعينيات، متجاهلين اعتراضات مستشاريهما السياسيين الذين أشاروا إلى افتقاره لقواعد قانونية أو دستورية.
وأصرَّ كلاهما على اعتبار ذلك بمثابة تعريف لهما كزوجين عصريين مختلفين عن الرئيس جمال عبد الناصر وزوجته، تحية كاظم، التي كانت في معظم الأحيان متوارية عن الأنظار، واختارت دورًا هامشيًا مكتفيةً بلعب دور “ربة منزل”، كما استخدما ذلك لإظهار الوجه المعاصر للدولة، وكدلالة على التحالف الوثيق بين مصر والولايات المتحدة في هذه الفترة.
في مثل هذا النظام العسكري، حيث تبدو صورة النظام تقليدية وغير جذابة، ويتسم الحكم بالاستبداد والشمولية وتقديس الحاكم وقمع الحريات، يأتي دور السيدة الأولى في تلميع صورة النظام الحاكم الذي نشأت فيه على مدار عقود من حكم الرجل الواحد والحزب الواحد، وإضفاء لمسة من الإنسانية في وسائل الإعلام، وتحويل الانتباه عن تسلط وتراجع النظام إلى التركيز على الحداثة التي تمثلها باعتبارها الوجه المشرق للنظام الاستبدادي.
ووفقًا لبحث أجراه فولفجانج ميركل ويوهانس غيرشفسكي، فإن الأنظمة الديكتاتورية تحتاج إلى 3 أشياء للبقاء: الشرعية والاستقطاب والقمع. وبالنظر إلى 42 دولة مختلفة على مدار نصف القرن الماضي، توصل الباحثون إلى أن الأنظمة التي تتمتع بهذه الخصائص الثلاثة يمكن أن تستمر، رغم المعارضة العامة لمثل هذه الأشكال من الحكم، ويمكن أن تكون السيدات الأُولَيات مفيدات بشكل خاص في المساعدة على تأمين اثنين على الأقل من هذه الأشياء.
وتبدو المرأة الجميلة والأنيقة المتزوجة من ديكتاتور مهدد أو تلاحقه الاتهامات والمسؤولة عن تحسين سمعته سمة مألوفة للأنظمة الاستبدادية في العالم، ومثل الملايين من الزيجات في جميع أنحاء العالم، حيث يتم التعاقد مع زوجات الرجال البارزين لتحسين الصورة العامة لأزواجهن، كان لبعض زيجات الرؤساء العرب أدوار محددة مسبقًا بوضوح يتم تدريبهن عليها لإبقائهم في مناصبهم وتمتعهم بالسلطة.
ويمكن للسيدة الأولى أيضًا أن توفر ميزة للديكتاتوريين الذين يحاولون الاحتفاظ بالسلطة، لا سيما من خلال كسب جماعات المعارضة أو تحييدها، ولأن زوجة الديكتاتور لا تأتي في كثير من الأحيان من خلفية سياسية أو عسكرية، فيمكنها المساعدة في تأمين دعم جماعات المعارضة وتفادي الانتقادات الموجهة للنظام.
وترتبط السيدة الأولى غالبًا بصور نمطية غريبة للأنوثة المفرطة، ففي سوريا مثلًا، سرعان ما نجحت السيدة الأولى، أسماء الأسد، زوجة الديكتاتور السوري بشار الأسد التي تتحدث لغات عديدة وتتحدث بلكنة لندنية خفيفة وتتمتع بأخلاق دافئة وسهلة، في سحر المحاورين ورجال الدولة على حد سواء.
وفي كثير من الحالات والدول، يتعاقد النظام الحاكم مع مدربين وفرق ومؤسسات – عادة ما تكون أجنبية – لتلميع صورة السيدات الأُولَيات وتعليمهن الإتيكيت والتعامل مع وسائل الإعلام، وغالبًا ما تكون صورهن مبنية على كذبة كبيرة، كما في حالة إلينا تشاوشيسكو زوجة الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو، التي حاولت تسويق نفسها على أنها السيدة الأولى التي لا مثيل لها، وقالت إن “مسؤولياتها الكبرى لم تمنعها من العلم والبحث”.
كانت تشاوشيسكو، مؤلفة العديد من المنشورات العلمية وحصلت على العديد من الزمالات والدرجات الفخرية، واحدة من أكثر العلماء احترامًا في عصرها، ومع ذلك، فهي لم تكن حتى عالمة أو ذكية للغاية، بل كانت شبه أمية في مجال العلوم، لكنها تمكنت، من خلال وسائل مخادعة، من أن تصبح واحدة من أكثر الكيميائيات شهرة في منتصف القرن العشرين.
وجه الديكتاتورية الناعم
بشكل عام، تظهر السيدة الأولى كامرأة عصرية وتقدمية تختلف كل الاختلاف عن نساء البلد التقليديات، وهي الصورة التي تتلقفها وسائل الإعلام والصحف الغربية لتصف السيدة الأولى بـ”رمز التقدم والعصرية”، وترى فيها مثالًا على التطور الذي تشهده الدولة رغم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعصف بها تحت حكم زوجها الرئيس.
حدث ذلك في مصر، حيث تشاركت جيهان السادات الفخر بجذورها العرقية الغربية – باعتبارها ابنة لأب مصري وأم بريطانية – مع سوزان مبارك الزوجة النصف ويلزية للرئيس المخلوع حسني مبارك على مدار 30 عامًا، واستخدمته كلتاهما لتعريف أنفسهما على أنهما نساء معاصرات وغربيات يحملان الاسم الأخير لأزواجهما، ولهما أدوار عامة تفصلهما عن الأسلمة المتسارعة للمجتمع المصري التي أعطت الأولوية للأدوار العائلية للمرأة، ونتيجة لذلك، أصبح دور السيدة الأولى محددًا بمؤشر آخر للاختلاف العرقي والاجتماعي والسياسي بين أولئك الذين كانوا في السلطة والأغلبية المصرية.
كان اقتران لقب السيدة الأولى بجيهان وسوزان مثالًا على الحضور الطاغي الذي يخفي خلفه سلطة متوارية، حيث كانت كل منهما تتمتع بالمظهر الأرستقراطي الأنيق والتفكير المنفتح المتحرر والتحدث بلغة إنجليزية سليمة، وبالتالي استدلت وسائل الإعلام بشكل وطريقة كلام وانفتاح تفكيرهما على تطور النظام السياسي العسكري في مصر، واحتفت بهما أيضًا باعتبارهما نساء عربيات ومسلمات مثاليات ومعاصرات إلى درجة أنه يمكن النظر إليهما على أنهما ليسا من منتجات الشرق بل من الغرب.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين، حظيت الملكة رانيا ملكة الأردن – أكثر من أي سيدة أولى أخرى في المنطقة – باهتمام وسائل الإعلام والسياسيين والمنظمات التنموية العربية والغربية والعالمية، باعتبارها أبرز رموز المرأة العربية العصرية التي تشارك بشكل مباشر في مجموعة واسعة من النشاط الاجتماعي والسياسي المكرس لسد الفجوة بين الشرق والغرب.
ولأكثر من عقد من الزمان، كانت الملكة رانيا من أكثر النساء العربيات والمسلمات انتشارًا في وسائل الإعلام الغربية، وشاركتها هذه الضجة السيدة الأولى الصاعدة في سوريا أسماء الأسد زوجة بشار الأسد الديكتاتور السوري المعروف بحبه لموسيقى البوب الراقصة الغربية، وكذلك القتل الجماعي والتعذيب والسجن لعشرات الآلاف على الأقل.
لم تظهر رانيا وأسماء فقط في أقسام الأخبار الأجنبية، بل في عالم الموضة والثقافة الشعبية وأدب المشاهير والمجلات العالمية مثل مجلة “فوغ” الأمريكية المعنية بالموضة، ومجلتي “باري ماتش” و”إيل” الفرنسيتين، وفي جميع هذه الصور الإعلامية تقريبًا، يُشار إليهما بشكل صريح ومتكرر على أنهما “نساء عصريات يحاولن تحديث بلديهن”.
على سبيل المثال، أشارت مجلة “فانيتي فير” الأمريكية إلى الملكة رانيا في عام 2003 باعتبارها “ملكية فائقة الحداثة” ونقلت عن عضو الكونغرس الأمريكي مارك كيرك قوله إنه عندما يلتقي بالملك عبد الله والملكة رانيا، “يبدو الأمر كأنك تتحدث إلى زوجين أمريكيين معاصرين”، لأنها “تتحدث بقدر ما يتحدث هو، وتستحوذ على اهتمام كبير جدًا”، بينما وصفتها مجلة “فوغ” في عام 2009 بأنها “عصرية وحديثة ورزينة”.
مع مرور الوقت، بدا أن تعطش وسائل الإعلام الغربية، وخاصة المجلات اللامعة والعصرية، لجيل جديد أصغر سنًا من السيدات الأُولَيات في الشرق الأوسط على غرار الملكة رانيا المفضلة لدى الغرب، والتي احتلت المرتبة الثالثة كأجمل امرأة في العالم من مجلة “هاربرز آند كوين” في عام 2005، قد تلاشى مع وصول زوجة بشار الأسد التي تلقت تعليمها ونشأتها في بريطانيا، وعملت لسنوات في القطاع المصرفي.
قبل اندلاع انتفاضة الربيع العربي عام 2011، صورتها مقالة مثيرة للجدل بعنوان “وردة في الصحراء”، نشرتها مجلة “فوغ” الأمريكية، على أنها “ساحرة وشابة وأنيقة للغاية، وهي الأكثر نضارة وجاذبية بين السيدات الأُولَيات”، وتصف أسماء، وهي ترتدي الجينز والكعب العالي وقميصًا مكتوبًا عليه عبارة “السعادة” على الظهر.
وأشاد المقال المتملق بعائلة الأسد، وقدم الرجل الذي يتربع على قمة السلطة في سوريا والمرأة المجاورة له في ضوء إيجابي وصديق للغرب، ووصفهما بأنهما “ديمقراطيان للغاية” يركزان على الأسرة، ويقضيان إجازة في أوروبا، ويعززان المسيحية، ويشعران بالارتياح مع المشاهير الأمريكيين.
في ذلك الوقت، كانت أولى قطرات الدم تُراق في سوريا؛ البلد الذي يرأسه زوجان يدار بيتهما “على مبادئ ديمقراطية” بعيدًا على ما يبدو عن القمع الوحشي الذي تمارسه دولة الحزب الواحد في الخارج، والذي أشار إليه المقال على أنه “الأكثر أمانًا في الشرق الأوسط”، ربما لأنه، كما يقول موقع وزارة الخارجية على شبكة الإنترنت، “تقوم الحكومة السورية بمراقبة مادية وإلكترونية مكثفة لكل من المواطنين السوريين والزوار الأجانب”، لكن المجلة لم تذكر سجل سوريا السيئ في مجال حقوق الإنسان.
وبعد الحملة التي شُنت ضدها، سرعان ما أزالت “فوغ” واحدًا من أكثر المقالات التي لا تُنسى في تاريخ الصحافة الغربية، والتي تبين لاحقًا أنه كان نتاجًا لجهود علاقات عامة منسقة أدارت جزءًا كبيرًا منها شركة “براون لويد جيمس”، وهي شركة ضغط أمريكية أجرت أيضًا أعمالًا تجارية مع نظام القذافي الذي ارتكب جرائم قتل جماعي مماثلة في ليبيا، وكانت الشركة تحصل على مبلغ 5 آلاف دولار شهريًا للمساعدة في تحسين صورة ديكتاتورية الأسد الذي قتل نظامه آلاف المدنيين والأطفال في ذلك العام.
لم تكن مثل هذه التصويرات للسيدات الأُولَيات في سوريا والأردن على أنهن عصريات ومتحررات نتاج وسائل الإعلام الشعبية فحسب، بل كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمصالح وأجندات الدولة الغربية داخل المنطقة العربية.
ورأى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الخبير في أهمية الزوجات الجذابات في السياسة، في أسماء جواز مرور إلى حاكم ديكتاتورية قمعية، وفي وقت لاحق، اعترف وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنار للصحفيين: “عندما أوضحنا أن هذا هو أسوأ أنواع الطغاة، كان ساركوزي يقول: “بشار يحمي المسيحيين، ومع زوجة حديثة مثل زوجته، لا يمكن أن يكون سيئًا تمامًا”.
وفي الوقت نفسه، صرحت السفيرة الفرنسية في سوريا لمجلة “فوغ” في عام 2011 عن الأهمية السياسية لزوجة لأسد، موضحة كيف “نجحت في جعل الناس يفكرون في إمكانيات بلد يقوم بتحديث نفسه، ويمثل علمانية متسامحة في منطقة برميل بارود”.
ويعود افتتان وسائل الإعلام الغربية بزوجة بشار الأسد إلى ما قبل الثورة، حتى إن مجلة “إل” الفرنسية صوتت لها على أنها “المرأة الأكثر أناقة في السياسة العالمية”، ووصفتها مجلة “باري ماتش” ذات مرة بأنها “ديانا الشرق”، و”شعاع الضوء في بلد مليء بمناطق الظل”، وتحدثت صحيفة “ذا صن” عن “البريطانية المثيرة التي أخرجت سوريا من حالة العزلة”.
وفي عام 2005، وبمناسبة افتتاح دار الأوبرا بدمشق بحضور السيدة الأولى أسماء الأسد، تحاكت صحيفة “نيويورك تايمز” بطول وشعر وملابس وأناقة السيدة الأولى، وقالت إن شكلها يدل على تطور النظام السوري، وإنها رمز من رموز الإصلاح والانفتاح في هذا البلد الذي دمرته الحرب، وإن السوريين يلقبونها بالأميرة البريطانية الراحلة ديانا، في إشارة إلى جمالها وأناقتها ونشاطاتها الخيرية المعلنة التي لم تعد تكفي للتغطية على ما يرتكبه نظام زوجها من مجازر يومية بحق السوريين.
وبالمثل، قدمت شبكة “إن بي سي” الأمريكية زوجة الأسد في بداية دورها الجذاب كسيدة أولى في عام 2007 على أنها “الوجه الحديث لسوريا والسيدة الأولى العصرية”، وعندما سألتها عن دورها كزوجة لرئيس دولة تصفها الولايات المتحدة صراحة بأنها “دولة راعية للإرهاب”، قالت بلهجتها الحذرة إن دورها هو “تغيير الطريقة التي يرى بها العالم الخارجي سوريا، وكيف يرى الجيل السوري القادم العالم”.
ومن المؤكد أنه تم الحكم على أسماء الأسد على أنها مصدر قوة لبشار أكثر من كونها عائقًا، وأنها قادرة على جذب القلوب السورية والغربية، ومع ذلك، يُشار إلى أسماء في معظم التقارير الإعلامية بعبارة “المولودة في بريطانيا”، والمعنى الضمني هو أن معاييرها للأخلاق السياسية يجب أن تكون بطريقة أو بأخرى أعلى من نظيراتها من غير المولودين في المملكة المتحدة.
وبحسب أستاذة الأنثروبولوجيا السياسية في جامعة كينجز كوليدج ميسون سكرية، لم يكن ذلك شيئًا غريبًا، وتقول إن الغرب كان ينظر إلى أسماء الأسد على أنها “النموذج المثالي للمرأة العصرية الجديدة”، هذه النظرة تحتفى بجمالها وتنشئتها وتعليمهما في الغرب، وإجادتها للغة الإنجليزية، وتاريخها الوظيفي في بعض الشركات الرأسمالية الرائدة في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ووفقًا لورقة بحثية نشرتها سكرية حول “النخب والدول والسياسات المتناقضة لتمكين المرأة في العالم العربي”، فإن الترويج لمثل هؤلاء السيدات الأُولَيات كصورة أيقونية للمرأة العربية والمسلمة المثالية والحديثة، تضمن الترويج لثقافة طبقية خاصة ترتبط بالنخب العربية في المنطقة العربية.
وتستدل سكرية على ذلك بما حدث في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير عام 2011، فبعد انتخاب الرئيس المصري الراحل محمد مرسي – الذي أطيح به لاحقًا في انقلاب عسكري عام 2013 بعد عام واحد فقط من توليه السلطة – تداولت تداولت الصحف ومواقع الإنترنت المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي في مصر صورًا لزوجته نجلاء علي محمود باللباس التقليدي والحجاب والعباية، وقارنتها بصورة نازلي، ملكة مصر في الثلاثينيات بلباسها العصري وتسريحة شعرها ومكياجها، والسيدات المصريات الأُولَيات السابقات وغير المحجبات: جيهان السادات وسوزان مبارك.
وانتشرت على نطاق واسع نِكات تسخر من لباس نجلاء التقليدي ولهجتها الشعبية، وتم تصويرها على أنها غير متعلمة ومحجبة ومتخلفة، وأبدت النخب المصرية المتغربة قلقها بشأن صورة نجلاء ومصر في الخارج، فقد كانت تمثل بالنسبة لهم الطراز القديم والرجعية والإقليمية الريفية التي يخشونها مع عودة الصورة التقليدية للمرأة المسلمة العربية على رأس إحدى أكبر وأهم دول المنطقة.
وانتشرت المناقشات الموازية عن نجلاء عبر وسائل الإعلام الغربية، فعلى سبيل المثال، أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أنه “على عكس السيدات الأوائل السابقات والأنيقات ونصف البريطانيات، يرحب القصر الرئاسي في مصر بربة منزل تنحدر من بلدة صغيرة، وتحب أن يطلق عليها لقب تقليدي يعرِّفها على أنها أم ابنها الأكبر (أم أحمد)”.
يشكل هذا الحديث عن نجلاء محمود جزءًا من خطاب واسع حول التمثيل المناسب والمرغوب للمرأة العربية والمسلمة، والذي كان سائدًا في كل من الغرب وبين النخب العربية لعقود من الزمن، في هذا الخطاب، ارتبطت صورة المرأة المسلمة المحجبة بشكل خاص بالتقاليد، وفي بعض الأحيان ارتبطت أيضًا بالتخلف وانعدام الحرية والتمكين.
ومن خلال الترويج لهذه الصور باعتبارها مثالية للمرأة العربية والمسلمة الحديثة والمتمكنة والمتحررة، تعمل الشخصيات الإعلامية والسياسية على إضفاء الشرعية على هذه الطبقات، وإبراز ثرواتها وممارساتها باعتبارها شيئًا لا يمكن التشكيك فيه أو الاعتراض عليه، بل بالأحرى اعتبارها الطريق إلى العصر الحديث بشكل عام.
وفي ليبيا، ربما كان العقيد معمر القذافي أكثر شهرة بممرضته الأوكرانية وحارساته من زوجته، لكن صفية فركاش، زوجته الثانية، التي كانت ممرضة عندما التقت به، حاولت في بعض الأحيان، خاصة أمام وسائل الإعلام الغربية، أن تلعب دور زوجة وأم بسيطة كانت تخاف حتى من “الدجاجة الميتة”، لإضفاء الطابع الإنساني على زوجها الذي قالت عنه: “إذا اعتقدت أنه إرهابي، فلن أبقى معه وأنجب منه أطفالًا، إنه إنسان”.
سيدات القمع الأُولَيات
ترتبط السيدات الأول في العالم العربي بأنظمة معروفة تاريخيًا بالعنف وانتهاك حقوق الإنسان وسفك الدماء، حتى قبل أن يبرهن حكامها على ذلك علنًا في مواجهة ثورات الربيع العربي، ولا يستغرق الأمر ثوانٍ معدودة من البحث لمعرفة أن بشار الأسد – مثلاً – لديه سجل سيئ ومليء بالتعذيب في مجال حقوق الإنسان، وارتكاب فظائع واضحة باستخدام الأسلحة الكيميائية.
لم يتحول بشار إلى طاغية بين عشية وضحاها، فقد كان والده حافظ الأسد – الرجل العسكري الذي حكم سوريا بقبضة حديدية لمدة ثلاثة عقود – أحد أكثر الطغاة وحشية التي شهدتها المنطقة، وكان من المتوقع تمامًا أن يستمر وريثه على هذا المنوال بعد وصوله إلى الرئاسة بنسبة مذهلة بلغت 97% من الأصوات، لكن ما لم يكن متوقعًا أن هذه النسبة كانت أقل دهشة لزوجته، لأن زوجها كان المرشح الوحيد، ويرأس الآن أحد أكثر الأنظمة وحشية في العالم.
وبعد أشهر من الاحتجاجات التي اجتاحت سوريا، ومع استمرار القمع الدموي الذي يمارسه النظام، تساءلت وسائل الإعلام: هل ستتخذ أسماء الأسد – التي اختفت فعليًا عن أعين الناس منذ اندلاع الثورة – موقفًا أم تقف إلى جانب زوجها؟ لم تتأخر الإجابة طويلًا، وبدت واضحة في بيان أرسله مكتبها عبر البريد الإلكتروني إلى صحيفة “التايمز” الأمريكية بعد أن نشرت الصحيفة مقالًا يسأل: “ما رأي زوجة الأسد، وهي امرأة ذكية ومتعلمة نشأت في بريطانيا، ويبدو أنها مكرسة للأعمال الخيرية، في الشرور التي تُرتكب؟ هل أصبحت غير مبالية بالمعاناة التي يلحقها زوجها بإخوانها السُنّة على يد أتباعه العلويين أم أنها تشعر بالفزع؟ هل أصبحت الأميرة ديانا في سوريا بمثابة ماري أنطوانيت؟
وجاء في بيان مكتبها: “الرئيس هو رئيس سوريا، وليس فصيلًا من السوريين، والسيدة الأولى تدعمه في هذا الدور”، وأضافت: “لا يزال جدول أعمال السيدة الأولى المزدحم يركز على دعم مختلف الجمعيات الخيرية التي شاركت فيها منذ فترة طويلة والتنمية الريفية بالإضافة إلى دعم الرئيس حسب الحاجة، وفي هذه الأيام، تشارك بنفس القدر في سد الفجوات وتشجيع الحوار، إنها تستمع إلى عائلات ضحايا العنف وتواسيها”.
قبل ذلك بقليل، خرجت أسماء الأسد لدعم القمع الذي يمارسه زوجها ضد شعبه، وظهرت في تجمع حاشد وهي تبتسم من الأذن إلى الأذن، وتعانق أطفالها دعمًا لزوجها وتحسين صورته في أثناء حديثه بتجمع مؤيد للنظام، وعندما ظهرت لاحقًا مرتدية ملابس أنيقة إلى جانب زوجها للتصويت في استفتاء على دستور جديد، أدى ذلك إلى تعميق اتهامات المعارضة بأنها أصبحت بالفعل ماري أنطوانيت دمشق.
هكذا وقع صناع القرار والإعلاميون الغربيون في فخ الصورة الزائفة لأسماء الأسد، وحاول البعض استعادة الزخم لهذا النهج، كما أن هناك محاولات من النظام السوري لبث روح أسطورة “الوردة في الصحراء” التي قدمتها مجلة “فوغ” قبل 13 سنوات، حيث تلعب أسماء الأسد دورًا دعائيًا جديدًا للنظام ربما لن يوقفه إعلان إصابتها مؤخرًا بسرطان الدم “اللوكيميا”.
وفي السنوات التي أعقبت الثورة السورية التي واجهت القوة الغاشمة، عزز النظام الذي يقوده زوج أسماء الدعاية التي تهدف إلى استعادة صورتها كسيدة أولى معاصرة، وكانت الأفلام الدعائية الصادرة عن “رئاسة الجمهورية السورية” في مناسبات مختلفة دليلًا على ذلك، حيث تظهر أسماء الأسد بملابس فاخرة وأحذية لامعة من أرقى الماركات العالمية، وقد أبرزت وجهها بالمكياج وشعرها المصفف بشكل أنيق.
مثل هذه العروض كانت عباءة من الأناقة تستهدف جمهورًا بسيطًا، وليست مجرد محاولة لتمجيد وتغذية صورة وغرور بشار الأسد، بل تهدف أيضًا إلى تقديم النظام بشكل إيجابي، والتغطية على سفك الدماء والمجازر التي يرتكبها.
ويفتح ذلك النقاش حول الدور الخفي لزوجات الحكام المستبدين في الربيع العربي، هذا الدور الذي غالبًا ما يكون مقرونًا بالطابع المؤسسي، حيث تجدهن – على عكس بقية أجهزة الدولة – أكثر اهتمامًا بالطفولة والمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة والثقافة والفلكلور.
وتعمد السيدة الأولى إلى الظهور في ثوب المصلحة التي تعمل على تحسين أوضاع المواطنين، لذلك تنشأ مجموعة من المؤسسات غالبًا ما يكون هدفها اجتماعيًا مثل رعاية الطفولة والأمومة وتمكين المرأة ورعاية الشباب والشركات الناشئة، أو ثقافيًا مثل إنشاء المتاحف وإقامة حفلات موسيقية والإشراف على احتفاليات وطنية، وعادة ما تكون هذه المبادرات المنسوبة للسيدة الأولى متنفسًا للنساء وجيل الشباب خصوصًا.
على سبيل المثال، كانت إيميلدا ماركوس زوجة الديكتاتور السابق فرديناند ماركوس، التي كانت الصحافة الغربية تتغنى بأناقتها وعصريتها وطموحها، مهتمة بالثقافة لدرجة أنها كانت تطمح لأن تصبح سفيرة الثقافة الفلبينية العظيمة للعالم، لذلك عملت على إنشاء “المركز الثقافي في الفلبين”، وهي المؤسسة التي هيمنت على كل ما له علاقة بالثقافة في الفلبين.
وسارت السيدة الأولى في تونس ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، على هذه الخطى، فعملت على إنشاء مجموعة من المؤسسات التي تدور في فلك الرعاية الاجتماعية مثل جمعية “بسمة” الخيرية التي كانت تهدف إلى تأمين فرص عمل للمعاقين، ومؤسسة “سيدة” لرعاية مرضى السرطان وجمعية “أس أو أس” لإيواء الأطفال المشردين.
وترأست السيدة الأولى التونسية العديد من الهيئات الرسمية المعنية بحقوق المرأة، ومنحت نفسها جوائز للحركة النسوية، في حين رأت ناشطات نسويات أن أعضائهن يتعرضن للضرب بانتظام في الشوارع على يد شرطة النظام، كما تعرضت السجينات السياسيات للاغتصاب في زنازين التعذيب.
وفي مصر، ترأست جيهان السادات أكثر من 30 جمعية ومنظمة خيرية، ولعبت دورًا بارزًا في السياسة المصرية باعتبارها سلطة موازية للرئيس، خاصة فيما يتعلق بالنهوض بقضايا حقوق المرأة ودعم دورها السياسي، وأشرفت بنفسها على بعض المشروعات مثل مشروع تنظيم الأسرة، كما تم تخصيص 30 مقعدًا في البرلمان المصري للنساء، لكن محاولاتها لم تكن أكثر من مجرد جراحات تجميلية أو مسكنات مؤقتة لا تتخطى رؤية الدولة ومنظورها.
كما وظفت جيهان تأثيرها على زوجها في تعديل إصدار مجموعة من القوانين التي لقيت بعضها انتقادات حادة من علماء دين بارزين، فقد وافق الرئيس السادات على استخدام قوانين الأحوال الشخصية التي لعبت دورًا مهمًا في حياة المصريين والمصريات وأسرهم، لخدمة الطموحات الاجتماعية والسياسية للسيدة الأولى، وصدر قانون عام 1979 المُسمى قانون “جيهان” – الذي يسمح ببعض القيود على تعدد الزوجات، ويمنح الأمهات المطلقات الحق في الحصول على منزل الأسرة والاحتفاظ بحضانة أطفالهن – بموجب مرسوم رئاسي، متجاهلًا البرلمان.
وفي حالة سوزان مبارك التي وُصفت بأنها “أسوأ مثال على سيدة أولى خلف ديكتاتور”، تم تخصيص صفحات كاملة من الصحف لتغطية “أعمالها الخيرية” و”أعمالها لصالح النساء” مثل مشروع محو الأمية ومكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع، ومشروعات أخرى خاصة لتقديم القروض الصغيرة للنساء.
أمَّا المشروع الأبرز في التخطيط لدورها في تحقيق رؤية الدولة تجاه المرأة المصرية، فكان إنشاء “المجلس القومي للمرأة”، الصادر بالقرار الجمهوري رقم 90 لسنة 2000 “لاقتراح السياسات والخطط لتمكين المرأة من خلال صلاحيات واسعة النطاق، وتترأسه سيدة مصر الأولى”، وذلك بعد انضمام مصر لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع التمييز ضد المرأة.
لكن مثل الطرابلسي، كانت هذه الأعمال التي جعلت من السيدة الأولى في مصر “ماما سوزان” واجهة لشرعنة العلاقة بين السياسات القائمة على النوع الاجتماعي للدولة الاستبدادية ودور السيدة الأولى، فقد كان من المفترض أن يكون المجلس بمثابة هيكل وطني مستقل ومكرس لـ”تمكين المرأة”، لكن ارتباطه الرسمي بالسيدة الأولى يشير إلى استمرار هيمنة النظام الذي استغل المجلس لتحسين صورته دوليًا، وجعل من وجودها على رأسه “شكل كاريكاتوري”، وفشلت في تمرير أي قانون ينصف المرأة.
كما سارع آل مبارك إلى دفع البرلمان لإقرار قانون آخر للأحوال الشخصية يمكن أن تستخدمه سوزان مبارك في مؤتمر المرأة التابع للأمم المتحدة في نيروبي عام 1985 لتسليط الضوء على التقدم الذي أحرزته المرأة المصرية في ظل النظام الجديد، وعلى نحو مماثل، كانت سوزان تنطلق للقاء زوجات الزعماء العرب للحديث عن قضايا المرأة بينما كانت المرأة المستقلة في مصر تتعرض لقمع شديد.
وفي سوريا، حاولت أسماء الأسد بناء صورة لها “كأم للوطن” من خلال مؤسستها “صندوق الثقة من أجل التنمية في سوريا”، وانجذب الرأي العام السوري إلى قصة كيف أمضت ثلاثة أشهر قبل زواجها وهي تتجول في الريف السوري متخفية، ثم تأسيسها فيما بعد لمنظمة غير حكومية تحمل اسم “صندوق فردوس لتنمية وتطوير الريف السوري”، بهدف تشجيع “التمكين في المجتمع المدني”.
كما أنشأت جمعية “الأمانة السورية للتنمية”، التي صارت المظلة الكبرى للمؤسسات الخيرية وغير الحكومية، وسعت للتضامن مع زوجها من خلال حضورها في مساعدة الضحايا، بعيدًا عن صورة الجشع التي اتسمت بها في بداية النزاع، وظهورها بانتظام بشكل غير متوقع في المناسبات الخيرية ووظائف التنمية، واختلاطها بسهولة مع الحشود، واشتهارها بالقيادة بنفسها من وإلى الأماكن المختلفة.
وعلى خلفية الحقائب المصممة والطائرات الخاصة وسيارات الدفع الرباعي، قالت أسماء لمجلة “فوغ” إن “مهمتها المركزية” هي “تغيير عقلية 6 ملايين سوري تحت سن 18 عامًا”، وتشجيعهم على الانخراط في ما تسميه “المواطنة النشطة”، وفي تلك الأثناء، اُعتقل عشرات آلاف المعارضين والناشطين المؤيدين للديمقراطية وتعرضوا للتعذيب.
هذه الأنشطة الاجتماعية المعنية بالمرأة والشباب يُفترض أن تكون مهمة الدولة والحكومة أو حتى المجتمع المدني ومؤسساته التي تعاني من قصورٍ واضح في الدول العربية بسبب البنية الشمولية التسلطية للسلطات الحاكمة في البلاد العربية، لكن بسبب تفشي الفساد السياسي والإداري والمالي في منطقة منكوبة بالصراعات والأزمات، يتم تصوير السيدة الأولى على أنها الهالة التي تضيء الظلام وتملأ هذا الفراغ وتحقق التنمية.
وفي كل مناسبة تظهر السيدة الأولى بفساتينها الزاهية وحقائبها الباهظة وأحذيتها اللامعة وقصات شعرها اللافتة، وللمفارقة، يحدث ذلك في دول تعاني فيها النساء من الفقر والبطالة وضيق ذات اليد، ولا يملكن ليس فقط ما ينفقونه على الموضة واقتناء الماركات العالمية بل لا يملكن قوت يومهن.
ويستفيد النظام من ذلك لعدة أسباب، أولها تحسين صورة النظام خارجيًا، وتسليط الضوء على وجود أشخاص مهتمين بالإصلاح وشؤون البسطاء والمهملين بالدولة، ومن جهة أخرى، تحصل هذه المنظمات والهيئات والجمعيات التي ترعاها السيدة الأولى على تمويل كبير من جهات خارجية أجنبية.
ومن جهة ثالثة، تعطي بعض الأمل لجزء من الشباب اليائس بوجود بعض المنظمات التي تمارس عملها بحريّة، وأخيرًا، تسمح هذه المؤسسات بزيادة نفوذ السيدة الأولى، تمهيدًا للاستئثار بالسلطة والنزعة الاستبدادية والتسلطية.
أكثر من مجرد زوجة الرئيس
في بعض الأنظمة الملكية، يكون الملك هو الحاكم الفعلي وتحمل زوجته لقب الملكة، وفي الجمهوريات الاستبدادية التسلطية يكون الحاكم هو الرئيس، وزوجته أقرب إلى لعب دور “الرئيسة” التي تبحث لها عن أدوار سياسية، فتتدخل في بعض الأحيان – ولو من خلف الكواليس – في قرارات لا علاقة لها بالرعاية الصحية والاجتماعية، وتتخذ قرارات من صلب عمل النظام السياسي.
ولاحقًا، ترى السيدة الأولى نفسها على نفس القدر من أهمية رئيس الدولة، فقد كانت ليلى الطرابلسي، المصدر الرئيسي للاضطرابات، وتحب أن يطلق عليها لقب “مدام الرئيسة”، تثير الرعب في المخيلة العامة.
وفي مصر، توغلت جيهان السادات للعب دور سلطوي سبق وصول زوجها إلى الحكم، حتى إنها أمرت بضرورة اقتران لقب “السيدة الأولى” باسمها في الإعلام فور وصول زوجها إلى كرسي الرئاسة، وكانت أنشطتها السياسية تتماشى في نسق ممنهج مع سياسات السادات القائمة على التخفيف من حدة الغضب ضده، خاصة في أوساط النساء.
وحامت الشبهات حول كونها الوجه الناعم لإظهار الدولة المعاصرة وإحدى أوراق الرئيس المساعدة في تسويق مشروعه السياسي، خاصة في القضايا الخارجية والتقارب مع الولايات المتحدة، ووصل الأمر إلى حد التشكيك في التحكم بالدولة من وراء الستار وحضور الاجتماعات والتواصل مع الوزراء.
كان هذا الدور الذي لعبته جيهان مغريًا لخليفتها سوزان التي كان يُنظر إليها على أنها واحدة من أكثر النساء نفوذًا في الشرق الأوسط، والتي اختارت السير على نهج جيهان عبر انتزاع سلطات غير دستورية أو قانونية، وتنامى دورها لدرجة أنه طغى في بعض الأحيان على دور الرئيس، خصوصًا بعد تراجع صحته، وفقًا لأستاذة العلوم السياسية بجامعة هوارد في واشنطن ميرفت حاتم.
وطورت سوزان أيضًا اهتمامًا بدور سياسي أكبر، ويعتقد البعض أنها كانت تتشبث بالسلطة من خلال تمهيد الطريق لخلافة ابنها لوالده في منصب الرئيس، ويوضح ذلك لماذا أطلق عليها المصريين لقب “الهانم”، وتصنيف قوانين الأحوال الشخصية المتغيرة التي عُرفت بها على أنها “قوانين الهانم”.
ويجسد الكاتب محمد عيداروس في كتابه “كل حريم الهانم”، سطوة سوزان التي لم يجرؤ صحفي أو كاتب على الحديث عنها، ويلفت إلى الوجه القبيح للسيدة الأولى، وتدخلاتها الصريحة في إدارة شؤون البلاد، والاحتفاظ لنفسها بنسبة محددة في تعيين عدد من القريبين منها في المناصب القيادية والوزارية.
ومثلما أثرت سوزان مبارك على التعيينات الحكومية، شرعت ليلى الطرابلسي في تثبيت أفراد من عائلتها في مناصب السلطة، كما كانت لها قرارات صنع السلطة السياسية بشأن المناصب الحكومية وإقالة الوزراء، كما تقول الكاتبة الفرنسية كاثرين جراسييه، التي شاركت في تأليف كتاب عن الطرابلسي بعنوان “حاكمة قرطاج”.
وفي حالات أخرى أكثر تطورًا تصير الدولة تحت سلطة “ديكتاتورية برأسين”، أو ما اصطلح العلماء على تسميته “استبداد الزوجين”، حيث يتنافس الرئيس وعقيلته على النفوذ والظهور والتأثير، كما هو الحال مع سيدة سوريا الأولى التي ازداد نفوذها بشكل كبير منذ وفاة “حاكمة الظل” أنيسة مخلوف والدة زوجها في عام 2016، والسيدة الأولى جيهان السادات التي كانت تؤدي مهام رئاسية.
بالإضافة إلى طموحهن السياسي، يتزايد نفوذ السيدات الأُولَيات من الناحية الاقتصادية، وتسعى كل منهن إلى الجمع بين المال والنفوذ نتيجة الممارسات غير الديمقراطية السائدة في دولهن، ويُسمح لهن بالتقرب من رجال الأعمال، والاستحواذ على شركات الدولة، حتى يصبح لهن حصة في الاقتصاد.
يمكن رؤية ذلك بوضوح في حالة السيدة الأولى في تونس التي ابتلعت عائلتها اقتصاد ومقدَّرات الدولة، بالإضافة إلى اتهامات بهدر المال العام، وأصبح اسم الطرابلسي رمزًا للجشع والإفراط المخزي ومرادفًا للمحسوبية والفساد الذي عصف بالمجتمع والأعمال التجارية التونسية، وأدَّى اختلاسها لثروات الدولة إلى جعل أحذية السيدة الأولى في الفلبين إيميلدا ماركوس، التي يبلغ عددها نحو 3000 زوج، يبدو تافهًا.
وأثارت الزوجة الطموح سياسيًا للرئيس التونسي، أكثر السيدات الأُولَيات المكروهات، الشعور بالظلم الذي أشعل الثورة، حيث حافظت على سيطرة المافيا على اقتصاد البلاد، واستنزفت الثروات لها ولعائلة زوجها، الذين كان يُعتقد أنهم يسيطرون على 30-40% من الاقتصاد، ويديرون كل شيء من الجمارك إلى تجارة السيارات وسلاسل السوبرماركت واستيراد الموز.
وجاء في برقية حكومية أمريكية كشف عنها موقع “ويكيليكس”: “سواء كان الأمر يتعلق بالمال أو الخدمات أو الأراضي أو الممتلكات، أو حتى يختك، فإن عائلة الرئيس بن علي تطمع في الحصول عليه، ويقال إنها تحصل على ما تريد”، وذكرت أخرى: “غالبًا ما يشار إلى العائلة على أنها شبه مافيا”.
وعادة ما تتعرض زوجات الزعماء المخلوعين للانتقاد بسبب حبهن لجمع الأموال، ففي مصر، وبينما كشفت ثورة يناير عن وجوه الفساد، عادت لعبة “فتش عن المرأة” مرة أخرى، والمقصودة هنا سوزان مبارك التي أسقطت عن عمد الحد الفاصل بين مصر وحقيبة يدها فأصبحت الدولة كلها ملكًا لها، واستفادت من ثروة تقدر بالمليارات في بلد يعيش نحو 40% من سكانه على أقل من 1.5 دولار في اليوم، وقد تخلت عن أصول متنازع عليها وأموال تبلغ قيمتها 3 ملايين دولار.
وما إن انقشع الغبار بعد رحيل عائلة مبارك من قصر العروبة في القاهرة، حتى بدأت الشائعات تتطاير حول قيام السيدة الأولى بملء حقائبها بالأشياء الثمينة في اللحظة الأخيرة قبل مغادرتها إلى شرم الشيخ، ووصفتها إحدى الروايات وهي مستلقية على أرضية القصر وهي تبكي، رافضة المغادرة في أثناء الانتفاضة.
وواجهت سوزان مبارك تهمًا بالفساد تتعلق بكل ما أنجزته من مشروعات احتفى بها يروج لها بأن لها الفضل في تمكين وتعليم وتثقيف قطاع واسع من الأسر المصرية، وتضمنت التهم أيضًا إهدار أموال الدولة واستغلال أموال الجمعيات الخيرية والتنموية الخاصة بالطفل والمرأة ونهب أموال التبرعات وتحويلها إلى حساباتها المصرفية خارج مصر بحسب وثائق “وكيليكس”.
وفي سوريا، وُصفت “وردة الصحراء” بانفصالها المطلق عن الحياة في سوريا، واهتمامها بالجمع بين شغفها بأحذية كريستيان لوبوتان المرصعة بالكريستال وفساتين شانيل، وحبها للتسوق المحموم من لندن وباريس على الإنترنت متجاهلة القمع الوحشي الذي يمارسه زوجها ضد المعارضة، ومهمة “إنشاء منارة للثقافة في منطقة برميل البارود”، ما حوّل صورتها في الصحافة الغربية من الأميرة ديانا إلى ماري أنطوانيت الفرنسية المنعمة في وقت الشدة.
وفي ذروة الحرب التي شردت وقتلت الآلاف، أصبحت المرأة التي تمتلك شبقًا إلى السلطة والنفوذ المالي مصدر التحريض الأول على رجل الأعمال الأشهر في سوريا رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري، وأشعلت الصراع بين جهات محسوبة عليها وأخرى محسوبة عليه حول السيطرة على اقتصاد الدولة، وتمكنت في النهاية من تدمير إمبراطورية آل مخلوف والسيطرة عليها بالكامل لمصلحة مشروع خاص بها.
وفي ليبيا، كانت زوجة القذافي الثانية لا تزال ثرية للغاية، ورمزًا للمال العام المتسرب إلى جيوب العائلة رغم أنها كانت في الغالب بعيدة عن الأضواء، وكانت ابنته عائشة، التي وُصفت ذات يوم بأنها “كلوديا شيفر (عارضة أزياء وممثلة ألمانية) العرب”، وهي محامية وجزء من فريق الدفاع عن صدام حسين، يعتبرها والدها نموذجًا لحقوق المرأة الحديثة.
في هذه المرحلة، يصبح دور السيدة الأولى المتنامي عبئًا على النظام الحاكم، خاصة عندما توجه إليها الانتقادات، وتصبح محور الاحتجاجات التي تخرج ضد النظام، اعتراضًا على تنامي وازدياد نفوذ دور السيدة الأولى، وتنْصَب نقمة الشعب عليها، وتلاحقها تهم الفساد والاحتكار وإهدار المال العام.
ووفقًا للباحثة البارزة في شؤون الشرق الأوسط في مركز “تشاتام هاوس” للأبحاث في لندن جين كيننمونت، فإنه من غير القانوني في جميع البلدان العربية تقريبًا انتقاد رئيس الدولة بشكل مباشر، ما يجعل زوجات الرؤساء في بعض الأحيان بديلًا لانتقاد الحكام، ويمكن أن تكون الزوجة هي نفسها محور النقد أو هدفًا أسهل.
وفي مواجهة المطالب الشعبية واسعة النطاق بالديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة العربية في أعقاب ثورات الربيع العربي، تحركت النخب السياسية الغربية للنأي بنفسها عن النخب والأنظمة الاستبدادية، وسرعان ما اختفى الحماس السياسي والشعبي للحداثة المزعومة للسيدات الأُولَيات عن الأنظار.
ومع سقوط آلاف القتلى وتدفق عشرات آلاف اللاجئين عبر الحدود السورية، بدا أن صبر العالم على أناشيد التملق لسيدة سوريا الأولى المولودة في بريطانيا قد بدأ ينفد، وتم التشهير بها في وسائل الإعلام الغربية باعتبارها زوجة ديكتاتور قاسٍ، وتم إدانتها بسبب العديد من الممارسات الاستهلاكية نفسها التي تم الاحتفاء بها سابقًا، وانهارت استراتيجية العلاقات العامة الحذرة التي اتبعتها أسماء، باعتبارها الوجه اللطيف لديكتاتورية قمعية معروفة بالتعذيب والوحشية والسجناء السياسيين.
وانخفض التصوير الإعلامي للملكة رانيا وظهورها العلني بشكل كبير في أعقاب الانتفاضات، بينما ساعدت تجاوزات ليلى الطرابلسي، والفساد الذي تورطت فيه عائلتها، التونسيين في تعزيز الانتفاضة الشعبية، وجعلتها تتجاوز “الليدي ماكبث التي تقف وراء كل ثورة”، وهي شخصية من مسرحية شكسبير، يتم إلقاء اللوم عليها والتشهير بها بسبب طمعها وشرها وحلمها بأن تصبح ملكة على جثث الآخرين.
ومثلما عملت وسائل الإعلام على بناء هوية السيدات الأُولَيات وإنجازاتهن وخياراتهن الاستهلاكية، مع التركيز على ملابسهن والعلامات التجارية الفاخرة والأزياء والتسوق، انقلبت هذه النزعة الاستهلاكية بشكل كبير مع تحول العلاقات السياسية الغربية في أعقاب الانتفاضات العربية في عام 2011، حيث تم تصويرها على أنها ليس علامة على الحداثة والتحرر، بل على السلوك المتخلف والفج.
وبعد انتقال المنطقة إلى فترة جديدة بعد الربيع العربي، برزت إلى الواجهة خلافات جديدة حول الأدوار المناسبة للسيدة الأولى، وهي التي تسعى سيدات مثل انتصار السيسي زوجة الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسى لاستعادتها من خلف الكواليس بعد أن كان حضورها باهتًا في الحياة العامة منذ وصول زوجها إلى السلطة عام 2014، ربما لأنها أدركت أن المقارنة بينها وبين سيدات مصر الأُولَيات قد لا تكون منصفة.
وبعد إعدادها وإجراء تدريبات لها على الحديث والحركة والإتيكيت والبروتوكول، بدأت في الظهور أكثر في الحياة العامة، فتراها تبدأ كما بدأت سيدات مصر الأُولَيات: تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتواجد في المناسبات العامة، وتستقبل وترافق زوجات الرؤساء، وتدعم المبادرات الوطنية لتمكين المرأة بينما تندد النسويات المصريات بمواد قانون الأحوال الشخصية الجديد، ولا يخلو الأمر من ترسيخ الدور السلطوي الذكوري الذي يمثله السيسي، بالإضافة إلى استفزاز المصريين بمظاهر الترف والبذخ التي اعتادتها سابقاتها.
وفي النهاية، سيصل هذا النظام إلى نهايته كغيره من الأنظمة الاستبدادية التي سبقته، ويسقط وتسقط معه السيدة الأولى بمؤسساتها التي أنشأتها ورعتها.