أنتَ تتذكر أحداثًا عديدة من طفولتك أليس كذلك؟ أول يوم لك في المدرسة، رحلة عائلية، زيارة إلى بيت صديق، وغيرها الكثير. وبالتأكيد أنك تعي أنّ ثمة أشخاصًا آخرين في إطار ذكرياتك تلك، والديك أو جدتك أو أصدقاءك أو جيرانك على سبيل المثال، جميعهم شاركوا بصناعة ما تتذكره وعملوا على ترسيخه في دماغك حتى أصبح ما يمكنك أن تطلق عليه مصطلح “ذاكرة”.
الأمر بسيط كما يبدو، أنت تحتاج لمن حولك في كثيرٍ من الأحيان لتشكيل ذكرياتك. فكّر بالأمر الآن فيما يتعلّق بذكريات المناسبات الوطنية أو الدينينة التي مرّت عليك في مراحل حياتك المختلفة، هل تعتقد أنها ذكريات فردية محضة تتعلق بك وحدك؟ أم أنّ ثمة عوامل اجتماعية وسياسية وتاريخية عميقة تتدخل في الطريقة التي تتذكر فيها بعض الأحداث وتنسى الأخرى؟
تعرّف “الذاكرة الجمعية” بأنها الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها. أي أنّنا نتعامل مع الذاكرة هنا لا بكونها فعلًا فرديًّا خاصًّا ومستقلًا بنفسه، ولكن بكونها ظاهرة مجتمعية.
لطالما نظر المفكّرون والباحثون إلى الذاكرة بوصفها فعلًا شخصيًا فرديًا خاصًّا تخضع لقوانين البيولوجيا وعلم أعصاب الدماغ والوراثة، لذلك كانت دراستها دومًا حكرًا إما على علماء النفس أو الأعصاب، لكنّ ثورةً حقيقية حدثت في القرن الماضي فيما يتعلّق بعلوم الذاكرة، اقترحت أنها لا يمكن أن تحدث في إطار فرديّ بحت، وإنما تحتاج لجماعة أو مجتمع يعمل على إنشاء تلك الذاكرة، الأمر الذي صار يُعرف فيما بعد بمصطلح “الذاكرة الجمعية”.
باختصار، يمكن تعريف “الذاكرة الجمعية” بأنها الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها. أي أنّنا نتعامل مع الذاكرة هنا لا بكونها فعلًا فرديًّا خاصًّا ومستقلًا بنفسه، ولكن بكونها ظاهرة مجتمعية ذات بُعد جمعيّ تتأثر بالبيئات المجتمعية والعوامل السياسية المحيطة، والطرق التي يتم رسمها لسرد التاريخ ونقله وتغييره.
لنفهم أكثر كيف يعمل هذا النوع من الذاكرة، وكيف يختلف عن الذاكرة الفردية، فلا بدّ من الرجوع إلى أطروحات عام الاجتماع والفيلسوف الفرنسيّ “موريس هالبفاكس”، الذي كان لكتاباته ونظرياته تأثيرات واضحة وجليّة على أبحاث الذاكرة البشريّة بدءً من القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
الذكريات لدى هالبفاكس ليست تجربة متمركزة ومنحصرة داخل الفرد، بل إنها تنشأ داخل منظومة اجتماعية تستند إلى تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي.
يفترض هالبفاكس أساسًا أنّ عملية التذكر الفردية لا يمكن أن تنشأ أو أن تتم إلا ضمن إطار اجتماعيّ وثقافيّ معين؛ فعلى عكس التصورات العلمية السائدة في عصره والتي كانت تعتبر الذاكرة وعملية التذكر الفردية وظيفةً بيولوجية سيكولوجية محضة، فقد تطرّق هالبفاكس في دراساته للذكريات الشخصية للفرد داخل إطار المجتمع الذي ينتمي إليه، واعتبر أنّ الإطار الاجتماعي، والذي تنشئه ثقافة مجتمع ما، يعمل بطرقٍ عديدة ومتنوعة على صقل نسقٍ جمعيّ تلعب دورًا كبيرًا في قابلية الأفراد للتذكر والنسيان.
بكلماتٍ أخرى؛ فالذكريات لدى هالبفاكس ليست تجربة متمركزة ومنحصرة داخل الفرد، بل إنها تنشأ داخل منظومة اجتماعية تستند إلى تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي، سواء الأسرة أو الأصدقاء أو المجتمع ككل، وتتم “بالارتكاز على ذكريات الآخرين، وعلى الأطر الكبرى لذاكرة المجتمع” بحسب هالبفاكس.
ولتوضيح الأمر أكثر، خذ على سبيل المثال الطريقة التي تتذكر فيها الأجيال الفلسطينية الآنية لمحطّات تاريخية هامة في تاريخ حياة الشعب والمجتمع، مثل النكبة أو ما قبلها، على الرغم من أنّ تلك الأجيال لم تعش ذلك الحدث أو غيره ولم يشكّل احتكاكًا خاصًّا أو تجربة ملموسة حيّة في حياتهم، لكنْ وبحسب هالبفاكس نفسه، فتُعتبر الذاكرة المشتركة لجماعة بشرية معينة شرطًا أساسيًا لوجود تلك الجماعة، حيث أنها تؤسس هويتها وتكوّن مجتمعها عبر فعل التذكر، فكان لا بدّ أنْ تصبح النكبة جزءًا من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطينيّ، تتذكره الأجيال اللاحقة باعتباره انعكاسًا للهوية المجتمعية وحدثًا مفصليًا في التاريخ لا يمكن نسيانه.
كان لموريس هالبفاكس إذن السبق في لفت الأنظار للذاكرة كظاهرة مجتمعية وثقافية تنتج عن طريق التفسير وطريقة النظر للماضي المشترك الخاص بجماعة ما، وبالتالي أشار هالبفاكس إلى تفسيرالثقافة والهوية كنتيجة لفهم نشط للذات من جهة، وكامتلاك جمعي للماضي من جهة أخرى، دون تقييد الذاكرة بكونها نتاج للوراثة البيولوجية والعملية العصبية للدماغ كما عبر عنها الكثير من علماء الاجتماع مثل إميل دوركايم الذي كان أستاذًا لهالبفاكس، وعلماء النفس ونظرياتهم بدءًا من فرويد ومن تبعه.
تختلف الشعوب في ذاكرتها الجمعية؛ فمثلًا قد يتذكّر اليابانيون أحداث القنبلة النووية، على الرغم من مرور عقود عديدة عليها، أو يتذكر الشعب الصيني “قرن الإذلال” الذي أعقب حرب عام 1839، واللبنانيون يتذكرون الحرب الإسرائيلية الأولى، والشعب الأمريكيّ يتذكر أحداث الحادي عشر من أيلول، شعوبٌ أخرى تتذكر الحرب العالمية، واليهود يتذكرون أحداث الهولوكوست والممارسات النازية ضدهم، وهلمّ جرًا.
وتعدّ “الذاكرة الدينية” من أكثر الأمثلة وضوحًا على الذاكرة الجمعية التي يمكن لجماعةٍ ما ان تمتلكها، خذ الطقوس والاحتفالات والممارسات الدينية التي تهدف لإحياء ذكرى دينية ما حدثت قبل آلاف أو مئات السنين، ألا تهدف هذه جميعها إلى الحفاظ على الهوية الدينية عن طريق ممارسة أفعال تذكّرية لمجموعة من العادات والتصرفات المنتظمة؟
كيف يمكن بناء الذاكرة الجمعية إذن؟ بالحقيقة هناك العديد من الوسائل التي تعمل دورًا كبيرًا في ذلك، بدءًا من وسائل الإعلام بما فيها من برامج وأفلام وسرديات ومرورًا بالمناهج الدراسية والكتب التي تسرد التاريخ وفقًا لبعض السياسات والأهداف المعينة، والاهتمام بالمتاحف والذكريات الوطنية والشعبية بطرقٍ معينة وليس انتهاءً بتصريحات السياسيين ورجال الدولة والفاعلين فيها.
الأفراد ينسون بشكلٍ جماعيّ تمامًا كما يتذكّرون الأحداث والماضيّ بشكلٍ جماعيّ أيضًا.
وبالتالي يمكننا القول أنه لا شك أن الأحداث التي يتم تذكرها نخضع لعملية أو عدة عمليات من الانتقاء والتنقيح، ويتمثل هذا التمييز في أن بعض الأمور يتذكرها الفرد من وجهة نظهره الخاصة من منظور مُعين يخضع لإطار اجتماعي مُحدد، كما أنّ هناك أشياء أخرى لا يتذكرها وفقًا لذات الإطار الاجتماعي أيضًا.
كما تقودنا الذاكرة الجمعية إلى أنّ النسيان الجمعيّ قد يحدث أيضًا؛ فالأفراد ينسون بشكلٍ جماعيّ تمامًا كما يتذكّرون الأحداث والماضيّ بشكلٍ جماعيّ أيضًا. قد يكون الشعب الإسباني وما حدث معه قبل عدة قرون من محاولات طمس الهوية والذاكرة الإسلاميتين ونسيانهما مثالًا جيّدًا هنا.
ومن هذه النقطة تحديدًا، نستطيع القول أنّ كلًا من فعلي التذكر والنسيان الجمعيين يخضعان لتأثير وتحكّم الأنظمة والقوى السياسية عوضًا عن التأثير المجتمعي أو الاجتماعي. فكثيرًا ما يستخدم السياسيون وأصحاب القوى الفهمَ الأسطوري للماضي وأحداثه لتعبئة الذاكرة كأداة يمكن استغلالها سياسيًا للتحكم بالشعوب وحاضرهم ومستقبلهم.
تستطيع السياسة والقوى الحاكمة أن تصنع من أحداث معينة ذاكرةً تشقّ طريقها إلى وعي الأفراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضًا أن تسكت أحداثًا أخرى وتضمّها إلى قائمة النسيان.
ففي السياسة، تمارِس الذاكرة الجماعية نفوذها باتجاهين؛ أحدهما من الأسفل إلى الأعلى حيث تؤثر تفسيرات الماضي على هويات النخب السياسية، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل لأن تصريحات بعض الشخصيات الفاعلة أو المؤثرة داخل مؤسسات الدول تستطيع أن تصنع من أحداث معينة ذاكرةً تشقّ طريقها إلى وعي الأفراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضًا أن تسكت أحداثًا أخرى وتضمّها إلى قائمة النسيان بأساليب عديدة تنطوي أساسًا على التلاعب غير الظاهر بعقول الآخرين.
في التاريخ اليهود أو الإسرائيليّ بالأحرى، فقد أدرك السياسيون ورجال الدول أنّ الذاكرة الجماعية تلعب دورًا قويًّا لا يمكن إهماله أو عدم استخدامه، لذلك سعوا دائمًا إلى التلاعب بالذاكرة والتاريخ لتحقيق أهدافهم في إنشاء دولتهم وإعطائها الشرعية بين أفرادهم. لذلك فلطالما استخدموا الأساطير الدينية كوسيلة تعبوية تحفّز الذاكرة المتعلقة بالمكان والرموز، إضافةً لاستخدامهم للهولوكوست كموضوعٍ أساسيّ للذاكرة اليهودية يشرّع هجرتهم لفلسطين ويعطيهم الأحقية في أفعالهم.
الحديث في الذاكرة الجمعية يطول كثيرًا، وسيبقى دومًا يخضع لتعقيداتٍ عديدة طالما كانت الشعوب نفسها تمرّ بصيرورة معقدة وتمتلك تاريخًا يُكتب بأيديَ المتحكّمين والأقوياء والسياسات المهيمنة، لذلك فغالبًا ما يجد الفرد نفسه ضحيةً لتذكر بعض الأحداث ونسيان بعضها دون إرادةٍ منه أو تحكم. ما يعني أنّ مواجهة سياسات الذاكرة الجمعية يتطلب وعيًا تامًا بصيرورة تكون التاريخ ورسم الواقع والمستقبل، وعيًا بالتخلص من هيمنة السلطات التي تتحكم بهويّاتنا الذاتية والجمعية وتاريخنا وأساطيره، وفقًا لأهدافها ومآلاتها.