الحراك الطلابي في مختلف عصوره كان له الدور البارز في قيادة المجتمع وتوجيهه وتوعيته بشكل إيجابي، حين يعمل على إظهار خفايا تسلط السلطة ويرفض استبدادها القمعي، على مدار التاريخ السابق لعب الحراك الطلابي السوري دوره بشكل كبير، والمتأمل في تاريخ الحراك الطلابي ضد الأنظمة القمعية على مر العصور السابقة، يجد أن الحراك ساهم بشكل رئيسي في تشكيل الوعي العام، وهو بمثابة الشرارة الأولى للانتفاضات والثورات التي أطاحت بالأنظمة القمعية وأسقطت الحكومات الفاسدة في مختلف الدول العربية وأبرزها مصر وتونس واليمن وسوريا خلال الربيع العربي الذي أسقط حكام وآخرين ما زالوا يقمعون شعوبهم إلى اللحظة.
الحراك الطلابي بشكله الخارجي هو تكتل مجموعة من الطلاب يتبنون أعمالًا توعوية للمجتمع، كما أنهم يعملون على تصحيح أفكار المجتمع الذي تعرض للاستبداد طوال سنوات مضت من التاريخ الاستعماري للبلاد العربية واستغلالها في المصالح الاستعمارية لصالح مستعمرين مارسوا جميع الآلات الإجرامية ضد الشعوب العربية، وحتى تاريخنا الحاليّ خلال الثورات العربية ضد الحاكم المستبد.
سنتطرق إلى التاريخ النضالي للحركات الطلابية السورية والحركات الطلابية الحديثة في سوريا تحت مظلة الربيع العربي، ونؤكد أن الحراك الطلابي يمر بمراحل ديناميكية متعددة، ما بين وصوله إلى أعلى ذروته، الأمر الذي يشكل نقلة نوعية في فرض مطالبه على السلطة، وهبوط مُتدن تنكسر فيه شوكته مع زيادة قمع الأنظمة بأذرعها القمعية، وما بين هذا وذاك يمر بمراحل وأطوار يتصاعد فيها تارة ويهبط فيها تارة أخرى، متأثرًا بالقبضة الأمنية وقدرته على مراوغتها بالفكر الثوري المبدع.
الحراك الطلابي السوري تاريخيًا
الحراك الطلابي ذو أصول تاريخية عميقة منذ القدم، حتى إنه برز في ظل الاحتلال الفرنسي لسوريا بعد نهاية الدولة العثمانية، وكان مؤشرًا للوعي المجتمعي، وحتى نهاية القرن الماضي، كما كانت الحركات الطلابية تنظم فعاليات وأنشطة عديدة ضد الاحتلال الفرنسي، بهدف تنمية الوعي السياسي للطلبة وتعبئتهم ضد الاحتلال، من خلال تنظيم الإضرابات وحركات الاحتجاج وتنظيم المظاهرات وتوزيع المنشورات أو العمل السري الموجه ضد الفرنسيين والمتعاونين معهم، وكان الحراك الطلابي قادرًا على قيادة المشهد السوري آنذاك.
الحراك الطلابي كان شرارة تنظم في وجه المحتلين والأنظمة الفاسدة المستبدة لشعوبها خلال فترات سجلت على مر التاريخ الطويل
الذين عاينوا الجيل السوري القديم يروون عن آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم أخبار مظاهرة كانت تجري في القرن الماضي في دمشق أو حلب، وتسقط الشيخ تاج الدين الحسني، ثالث رئيس لسوريا في ثلاثينيات القرن الماضي والذي كان مواليًا للفرنسيين، فهؤلاء يشكلون الآن الأكثرية العظمى من أهل البلاد، وهم لا يمكن أن يتصوروا صعود شاعر إلى منصة احتفال يهجو عبرها رئيس الوزارة مثل جميل مردم بك، كما فعل الشاعر الكبير عمر أبي ريشة في حفل تأبين المغفور له سعد الله الجابري، كما أنه هجا حافظ الأسد بعد مجزرة حماة في ثمانينيات القرن الماضي.
متظاهرون في دمشق حول أحد مقرات الكتلة الوطنية لمقارعة الانتداب الفرنسي عام 1935
ولا يمكن أن يصدقوا أخبار مظاهرة جرت أمام مخفرِ قريةٍ سورية، قام بها في يوم من أيام عام 1954 بعض الآباء يطالبون فيها بالإفراج عن أبنائهم الطلاب الثائرين، ولم يغادروا أمكنتهم إلا بعد أن أفرج رئيس المخفر عن الطلاب الموقوفين بضع ساعات، بتهمة الكتابة ضد الديكتاتور أديب الشيشكلي على جدران مدرسة القرية.
طلاب سوريون آخرون، قاموا في عهد أديب الشيشكلي آخر عهده من العام نفسه، بمظاهراتٍ طيّارة في الشوارع الرئيسية من أبرز المدن السورية، وفي حال تمكنت الشرطة من اعتقال بعضهم، توقيفهم لم يكن ليدوم في أكثر الأحيان أكثر من ساعة أو ساعتين، وأحيانًا كان يهرب المتظاهرون من رجال الشرطة إلى حارات مسدودة فيستقبلهم الأهالي في بيوتهم، كما كان للطلاب دور في الوقفات والإضرابات ضد ممارسات الحكومة في نقل أو إقالة مدراء المعاهد أو الثانويات في مختلف المحافظات السورية.
تمرد الحراك الطلابي ضد الحكم العسكري عام 1954 قبيل إعلان الجيش السوري الانقلاب ضد النظام العسكري من حلب وتسليم السلطة للمدنيين، في عام 1955، حينها نظمت انتخابات حرة وانتخب شكري القوتلي رئيسًا للجمهورية، كما لعب الحراك الطلابي دورًا رئيسيًا في مواجهة حلف بغداد في الخمسينيات من القرن الماضي، الذي ضم أولًا العراق وإيران وتركيا وإنجلترا عام 1955، وانضمت الولايات المتحدة إلى هذا الحلف عام 1958.
مظاهرة طلابية ضد حلف بغداد في دمشق عام 1958
كان الهدف الرئيسي من الحلف احتواء النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط من خلال إنشاء حاجز وقائي، وأدانت الأحزاب اليسارية والحركة الطلابية هذه المعاهدة، وهكذا لعب الطلاب دورًا مهمًا برفض معاهدة بغداد في التعبئة في جميع أنحاء البلاد وأيضًا من خلال مظاهرات داعمة للوحدة بين سوريا ومصر عام 1957.
مما يعني أن الحراك الطلابي كان شرارة تنظم في وجه المحتلين والأنظمة الفاسدة المستبدة لشعوبها خلال فترات سجلت على مر التاريخ الطويل، كما أن ذلك الحراك الطلابي ينبثق عن الثانويات العامة والمعاهد والشخصيات المثقفة التي يمكن أن تقود المجتمع إضافة إلى الجمعيات التأسيسية التي كانت تتقلد قيادة تلك الحركات الطلابية الوطنية.
ظل الحراك الطلابي مستمرًا حتى وصل حزب البعث إلى السلطة وتقلدها، ولم يحترم حصانة الحرم الجامعي ومكانة المثقفين في كل الجامعات السورية بأي شكل من الأشكال
وكان للحركات الطلابية أو الطلاب تكتلات حزبية برزت ونشأت في كنف أفكارهم المتأثرة بدراستهم وجامعاتهم التي درسوا بها كالجامعات الأوروبية إبان الاحتلال الفرنسي، كالإخوان المسلمون الذين اعتمدوا على طلاب درسوا في جامعة الأزهر بمصر، وكذلك الأحزاب السياسية الأخرى التي سجلت في تاريخ سوريا.
سوريا المستقلة حديثًا من الاستعمار الفرنسي هكذا كانت قبل بداية حقبة الاستبداد الحديثة، ولئن كانت قضية الديموقراطية لم تنتصر فيها تمامًا آنذاك، وبقيت نصف ديموقراطية ونصف ليبرالية لظروف تاريخية وعوامل مختلفة، مع ذلك لا يمكننا المقارنة بين ما كنا عليه في تلك الحقبة وما نحن عليه اليوم في ظل حكم الأسد من الأب إلى الابن.
تراكم وتفاقم القمع في سوريا كان صاعدًا نوعيًا وكميًا، ومع صعوده كان لا يتقدم سوى التخلف على كل المستويات الأخرى في البنية الاجتماعية السورية والاقتصاد وتوزيع الثروة الوطنية ومكانة الطبقة الوسطى وتكافؤ الفرص والعمران والطراز المعماري ونظام السير ونظافة الشوارع والمناهج التعليمية والرياضة والثقافة والفنون.
خلاصة القصة أن تخلفًا في السياسة دفع إلى تخَلِّف في كل مستويات البنية الاجتماعية المتعلقة به. حيث ظل الحراك الطلابي مستمرًا حتى وصل حزب البعث إلى السلطة وتقلدها، فلم يحترم حصانة الحرم الجامعي ومكانة المثقفين في كل الجامعات السورية بأي شكل من الأشكال، ولم يعط دورًا للمدارس وكذلك طلبتها، واعتقلت الأجهزة الأمنية الطلاب داخل قاعات المحاضرات وداخل الجامعات، وكان يمنع كل نشاط سياسي باستثناء أنشطته، وهو الحزب الوحيد الذي يتمتع بحق تنظيم المناسبات والمحاضرات والتظاهرات في حرم الجامعة والثكنة العسكرية وإصدار صحيفة في الجامعة والجيش.
حتى إن الأحزاب الحليفة للنظام، لم تتمتع بالحق في التنظيم ولم يكن لها أي وجود رسمي في هاتين المؤسستين، كما كان الحزب ينشط بإنشاء رحلات استكشافية تسمى بالشبيبة، ومعظمها كانت تمجد وتبجل العائلة الحاكمة ولم يكن ذلك النشاط يأخذ دوره الفعلي.
الحراك الطلابي السوري في كنف الربيع العربي
لقد تأثر الحراك الطلابي السوري بالربيع العربي في الدول العربية التي كانت الحركة الطلابية شرارة انطلاق الثورات فيها عام 2011، فأحد أسباب المظاهرات السورية أطفال المدارس الذين قمعوا من النظام الاستبدادي نتيجة كتابتهم على جدران مدرستهم مثلما رأوا في الدول الأخرى.
في الفترات الأولى من الحراك السلمي تم إنشاء جسم للطلبة الأحرار وسمي بـ”اتحاد طلبة سوريا الأحرار”، وكان لهذا الجسم دور مهم في إنشاء المظاهرات، وحتى بعد انتقال الثورة إلى العسكرة كان له دور بارز
لا يمكننا أن نحتم الموضوع بالطلاب الصغار إلا أن الحركات الطلابية نشأت في ظل الثورة السورية وقبل انطلاقتها بمختلف المحافظات، فقد كان العديد من الخريجين لا يجدون عمل أو حتى منزل يأويهم وتحت قمع مستمر من الآلة الحاكمة، كمحافظة درعا ومحافظتي حمص ودمشق وإدلب وحلب وحماة ودير الزور، كل تلك الحركات الطلابية كانت ناشئة بشكلها الجديد بعيدًا عن قوانين حزب البعث الذي كان يقيد تلك الحركات طوال سنوات حكمه.
جامعة حلب التي شهدت مظاهرات عديدة أولها كانت لتجمع عشرات من الطلاب يصرخون بالحرية وإسقاط النظام، ثم كبرت وكثرت التجمعات وأصبحت بالمئات حتى استدعت إدارة الجامعة الأمن الذي بقي مواظبًا ومراقبًا لحركة الطلاب، حتى إن اتحاد الطلبة كان واقفًا إلى جنب قوات الشبيحة في قمع المظاهرات السلمية.
كما أجبر الطلاب المعارضين على المظاهرات الطيارة في الحرم الجامعي، ولكن نتيجة القمع الرهيب الذي واجه الطلبة وخاصة في الساحة السورية أجبروا على ترك المظاهرات والالتحاق بركب الثورة العسكرية نتيجة قمع النظام العشوائي للشعب، فجامعة حلب على سبيل المثال كانت تضم آلاف الطلبة من الريف ومختلف المحافظات السورية.
في الفترات الأولى من الحراك السلمي تم إنشاء جسم للطلبة الأحرار وسمي بـ”اتحاد طلبة سوريا الأحرار”، وكان لهذا الجسم دور مهم في إنشاء المظاهرات، وحتى بعد انتقال الثورة إلى العسكرة كان له دور بارز، لكن نتيجة الاعتقال والتعذيب الذي تعرض له الطلبة، والقصف العشوائي الذي استهدف المدارس والجامعات والأبنية السكنية، وفقدان حقهم في الحرية، ونتيجة الحرب، اتجه معظم الشباب السوري من الطلبة طبعًا إلى الدول المجاورة إما لإكمال تعليمم أو للعمل لتدبر أمور حياتهم، كما أنهم كانوا يبحثون عن بعض من الأمان.
هذا الأمر كله له الأثر السلبي على الحراك الطلابي المطالب بإسقاط النظام، الذي كان يعمل جاهدًا على كبح جماح الطبقة المثقفة في المجتمع وتطلعاتهم، والتضييق على الطلبة وتجنيدهم، وقتل العشرات منهم واعتقال المئات وتهجير الآلاف، بسبب عدم توفر جامعات أو أماكن تعليمية في المناطق المحررة لفترات معينة، وهذه تعد أبرز الأسباب التي أدت إلى ضياع الحراك الطلابي السوري وتوجهه نحو الأمان أو العسكرة بدل بقائه وتعرضه للحكم الاستبدادي.
الحراك الطلابي لا يمكن أن يتوقف طالما السوريون مستمرين بالنضال الفكري الحر
لا وجود فعلي للحراك الطلابي بعد تدهور الأوضاع السورية، فيما يمكننا مقارنة الحراك الطلابي السابق في عهد لم يكن فيه طغاة يضيقون على شعوبهم في هذا الكم الهائل من الاستبداد، ويذلونهم أسوأ إذلال عرفته البشرية، ويمكن للحراك الطلابي أن يعود في فترات تمكنه من ممارسة نشاطاته الإيجابية في الثورات على الاستبداد والظلم ويمكنه أن يغير الكثير بمجتمعه، طبعًا هذا لا يوجد في الساحة السورية في الوضع الراهن، ولكن يبنى على فترات وأجيال قادمة يمكنها أن تقود المجتمع بعد الانفتاح الفكري والعلمي الذي ستبنى الأجيال عليه.
كما أن الحراك الطلابي لا يمكن أن يتوقف طالما السوريون مستمرين بالنضال الفكري الحر، ولكن كما أسلفنا يمكن أن يتراجع بسبب الطبيعة غير الملائمة لممارسة عمله في المجتمع، إلا أنه نشأ في الجامعات بالمناطق المحررة كجامعة إدلب التي تحتوي على هيئة طلابية تمارس عملها، إضافة إلى جامعة حلب الحرة، التي شكلت هيئة طلابية وتقوم بنشاطات كمجلات توعوية وغيرها من الأمور الإيجابية قد تتطور إن لم تواجه معوقات على ساحة عملها.