لم يقتصر تأثير تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشأن ترميم العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد على الشمال السوري فحسب وما أثارته من غضب بين السوريين، بل وصل صداها الشمال الشرقي حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وجناحها السياسي مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”.
التصريحات أثارت مخاوف “مسد” التي تخشى على وجودها في ظل الغزل السياسي التركي لنظام الأسد، ما دفعها إلى توجيه دعوات متعددة عبّرت من خلالها عن إمكانية الحوار بين الأطراف السورية، بهدف قطع الطريق على عودة العلاقات التركية-السورية.
وفي ظل تسارع وتيرة التصريحات التركية التي قوبلت بصمت رسمي من قبل النظام، وغضّ نظر أمريكي، تدور تساؤلات حول تأثيرها المباشر على “قسد” وأسباب مخاوفها.
تصريحات متسارعة
رغم أن تصريحات الرئيس التركي بشأن إمكانية عقد لقاء مع بشار الأسد وعودة العلاقات بين البلدَين الجارَين ليست بالجديدة وتعود إلى عدة سنوات، إلا أنها تسارعت خلال الأسبوعين الماضيين بعد وساطة تقودها كل من روسيا والعراق، وسط مساعٍ إلى تقريب وجهات النظر بين الطرفين وتخلي كل منهما عن الشروط التي تعيق لقاءهما.
ويشترط نظام الأسد لبدء الحوار مع تركيا انسحاب قواتها من شمال غربي سوريا والتي يصفها بأنها “احتلال”، إلى جانب محاربة ما يسميها التنظيمات الإرهابية، مقابل مطالب تركيا في تفعيل الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254.
وقال أردوغان في تصريحات نقلتها “وكالة الأناضول” التركية، الأحد الماضي: “سنوجّه دعوتنا إلى الرئيس السوري بشار الأسد (لزيارة تركيا)، وقد تكون في أي لحظة، ونأمل أن نعيد العلاقات التركية-السورية إلى ما كانت عليه في الماضي”.
وأضاف أردوغان: “وصلنا الآن إلى مرحلة بحيث أنه بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب”.
وجاءت تصريحات الرئيس التركي بعد إعلانه الاستعداد لإقامة علاقات بين تركيا وسوريا في 28 يونيو/ حزيران الماضي، قائلًا: “مستعدون للعمل معًا على تطوير العلاقات مع سوريا تمامًا كما فعلنا في الماضي”، مضيفًا: “لا يمكن أن يكون لدينا أبدًا أي نية أو هدف مثل التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا”.
التصريحات التركية قابلها ردّ وُصف بأنه إيجابي من قبل بشار الأسد، خلال لقاء جمعه بمبعوث الرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف في 6 يونيو/ حزيران الماضي بالعاصمة دمشق.
وأبدى الأسد انفتاح بلاده على “جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة مع تركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى”، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الرسمية “سانا”.
ويعود تقريب وجهات النظر بين الأسد وتركيا إلى روسيا التي تمكنت خلال السنوات الماضية من إقناع الطرفين بعقد لقاءات استخباراتية وعسكرية وسياسية، بين مدير المخابرات التركي السابق ووزير الخارجية الحالي هكان فيدان، ومدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، حيث عقدا عدة لقاءات في دمشق وأنقرة.
دعوة للحوار
التصريحات الإيجابية بين الطرفين والحديث عن إمكانية عقد لقاء بين أردوغان والأسد، أربكت حسابات “قسد” التي تخشى أن يتم اعتبارها خطرًا على البلدين يجب استئصاله، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات نوعية من خلال إغلاق المعابر والمنافذ الداخلية المؤدية إلى مناطق نظام الأسد، لكن ضغوط روسية أدت إلى إعادة افتتاحها بعد يومين.
كما وجّهت “قسد” عبر جناحها السياسي رسائل لكل الأطراف السورية، خاصة بعد الاحتجاجات التي شهدها الشمال السوري ضد السياسة التركية المنفتحة على نظام الأسد، والعنصرية التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في تركيا.
وأبدى “مسد” دعمه للاحتجاجات ضد السياسة التركية، ودعا المعارضة السورية للحوار عبر بيان أصدره في 2 يوليو/ تموز الجاري اعتبر فيه أن “انتفاضة السوريين في كل مكان، وأهدافهم ومطالبهم المحقة هي بوصلة لعمله السياسي”، مؤكدًا “أن الاحتجاجات في ريف حلب والسويداء تثبت أن لا حل في سوريا يتجاوز حقوق شعبها”.
ودعا البيان القوى السياسية السورية لتكون على قدر المسؤولية تجاه مصير السوريين، معتبرًا أن “الحوار الوطني والعاقل هو السبيل لتجاوز مأساتنا وفرض رؤية الشعب السوري على الساحة الدولية كمرتكز لأي مشروع يستهدف الحل”.
بينما اعتبر أن المحاولات التركية “لإعادة العلاقات مع نظام الأسد على حساب مصالح الشعب السوري وتضحياته، تؤكد أن خلاص السوريين لن يكون إلا بوحدتهم وتعاونهم وتجاوز خلافاتهم لمصلحة المشروع الوطني السوري الجامع”.
بدوره رحّب قائد “قسد” مظلوم عبدي بـ”كل سوري وطني على أرضه وبين إخوته في مناطق سيطرة قواته شمال شرقي سوريا”، مشيرًا إلى أن يده ممدودة لجميع السوريين، قائلًا: “مهما اختلفنا، تبقى قضية الكرامة الوطنية واستقلال القرار السوري أهدافًا أساسية توحدنا جميعًا”.
وإلى جانب ذلك حذّر 33 حزبًا يشكلون الإدارة الذاتية من التقارب التركي مع نظام الأسد، واعتبروا أنه “سيضفي الشرعية على الاحتلال التركي في شمال سوريا، وسيفتح الباب أمام التدخل الخارجي في الشأن الداخلي السوري”.
وقالوا في بيان مشترك، في 6 يوليو/ تموز الجاري، إن “أي تصالح بين أنقرة ودمشق لن يقدم أي جديد لتحسين الوضع السوري، بل سيعمق الأزمة أكثر”.
ودعا البيان “إلى عقد مؤتمر وطني جامع بمشاركة كل القوى والجهات السياسية السورية التي لم تتلطخ أيديها بدماء الشعب السوري”، إضافةً إلى “تشكيل قوة ضاغطة على النظام الحاكم للسير في طريق الحوار السوري الداخلي لحل الأزمة السورية سلميًا”.
ويرى محللون أن “قسد” بعدما تم استخدامها من قبل روسيا ونظام الأسد كورقة ضغط على الجانب التركي لتقديمه المزيد من التنازلات، فإن التقارب بين أنقرة ودمشق سيضعها ضحية التحالفات الجديدة.
في المقابل، تخشى تركيا من حصول “قسد” على حكم ذاتي قرب حدودها في أدنى الاحتمالات غير الممكنة، ما يدفعها إلى تقديم تنازلات في إطار التطبيع مع نظام الأسد، لا سيما مطلبها في تطبيق القرار الأممي، فما الحسابات التي تربك “قسد”؟
لماذا تتخوف “قسد”؟
لطالما استفادت “قسد” من هامش الخلافات التركية-السورية في إطار توسيع مناطق نفوذها، وبناء “كانتون” في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية شمال شرقي سوريا، حسب الباحث السياسي في مركز الحوار السوري أحمد قربي، الذي يرى أن عودة العلاقات التركية مع نظام الأسد تشكل خطرًا وجوديًا على “قسد”.
وقال قربي لـ”نون بوست” إن “قسد تستحضر اتفاق أضنة عام 1998 بين سوريا وتركيا، والذي بُني على حساب الأكراد، حيث تعتبر أن أي اتفاق تركي-سوري جديد قد يستهدف وجودها بشكل مباشر”.
وأضاف أن “تطبيع العلاقات قد يستدعي تعديل اتفاقية أضنة، وبالتالي السماح لتركيا بتوسع نطاق عملياتها العسكرية (بشكل شرعي) ضد “قسد”، فضلًا عن التضييق الاقتصادي والخسائر السياسية، لا سيما أن نظام الأسد يحوز الشرعية وقد يقدم للأتراك هوامش وأدوات قانونية تعطيهم نوعًا من الشرعية السياسية لاستهداف مناطقها”.
من جانبه اعتبر الباحث في مركز الشرق للسياسات سعد الشارع، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “قسد” تدرك أن أي عملية تقارب بين النظام وتركيا “يعني التقاء بالأفكار والمخططات، لا سيما أن السيطرة الجغرافية شمالًا من قبل تركيا (منقطة نبع السلام) وجنوبًا النظام السوري (غرب الفرات)”.
وفي حال تمكنت تركيا من إقناع النظام في توسيع اتفاقية أضنة إلى 30 كيلومترًا، حسب الشارع، فإن ذلك يشرعن وجود القوات التركية في الأراضي السورية، بمعنى أن “الجيش التركي يمكنه التوغل في الأراضي السورية بموجب الاتفاقية بهدف ملاحقة التنظيمات التي تعتبرها إرهابية، في إشارة صريحة إلى “قسد” باعتبارها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني”.
وأشار الشارع إلى أن التقارب وتعديل اتفاقية أضنة، وشنّ عملية عسكرية شرق الفرات تزامنًا مع عملية عسكرية تركية مرتقبة شمال العراق (كردستان)، سيؤديان إلى حصار يستهدف “قسد” التي باتت أمام خيارات محدودة جدًّا، خاصة إذا تعلق الأمر باحتمالية الانسحاب الأمريكي من سوريا.
التوجُّه نحو المعارضة
على مدى السنوات الماضية حاولت “قسد” التفاوض مع نظام الأسد بشأن مصير المنطقة برعاية روسية، خاصة في ظل الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية، لكن جُلّ المحاولات باءت بالفشل بسبب اشتراط النظام تسليم المنطقة بشكل كامل دون أي شروط، في حين تدعو “قسد” إلى شرعنة وجودها ومنحها حكمًا ذاتيًا في مناطقها.
وحسب الشارع، فإن واشنطن نصحت وضغطت على “قسد” للتفاهم مع النظام السوري، لاحتمالية أن يكون هناك انسحاب لقواتها من الجغرافيا السورية، ويعود سبب ذلك إلى أن واشنطن لا تريد أن يذهب دعهما سدىً لـ “قسد”، وتريد أن تبدأ بعملية التفاهم مع النظام خلال فترة وجود قواتها على الأراضي السورية كي لا يتم الاستفراد بها بعد خروجها.
وفي ظل انسداد أفق الاتفاق مع نظام الأسد، بدأت “قسد” تناور في عدة محاور من خلال التلميح للمعارضة بهدف استمالتها وسحبها إلى طرفها، حسب قربي، ما يعني تقوية أوراقها في مواجهة كل من تركيا ونظام الأسد.
وأشار قربي إلى ورقة “داعش” التي قد تستخدمها “قسد” في أي وقت، معتبرًا أن أي استهداف لها يعني محاولة لإعادة نفوذ “داعش”، وهو ما يعني إمكانية تقوية تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من جانبه، قال الشارع إن “التقارب بين “قسد” والمعارضة يُطرح بين الفينة والأخرى، إذ تنادي العديد من الأصوات بالتقارب بين الطرفين لأنهما معارضان للنظام السوري لكن بنسب متفاوتة حسب العلاقات”.
ويرى الشارع أن حجم الاختلاف والندية بينهما كبير جدًّا، ووصل إلى مرحلة العدائية المفتوحة مع مشاركة المعارضة في السيطرة على مناطق كانت تحت سيطرة “قسد”، ما يعني صعوبة في التفاهم والتقارب، رغم أن هناك جهات تحاول تحييد الخلافات لا سيما تلميحات السياسة الأمريكية.
ختامًا.. لا يبدو تطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد سيمرّ مرورًا عاديًا، إنما يحمل في طياته تغييرات كبيرة قد تشهدها الساحة السورية، وهو ما يعني قلب الموازين من خلال بناء تحالفات جديدة بين الدول الداعمة للأطراف العسكرية المحلية في سوريا، فمن سيكون ضحية التقارب بين تركيا ونظام الأسد؟