غبار المعركة لم ينجل ولن ينجلي، فالأمر جلل لأنه يتعلق بتأسيس بلد وليس استمرار وجوده القاصر، ومن لم ير عمق المعركة فقد اخطأ التقدير، لقد كان خيار العدالة الانتقالية خيارًا ديمقراطيًا سلميًا قاطعًا لطريق العنف الثوري الذي تميزت به ثورات سابقة، اختيار التسييس الدستوري يستتبع خيار العدالة الانتقالية ويجسده واقعًا.
لكن لما وصلت الهيئة إلى كشف الحقيقة وترميم كرامة المضطهدين انفجر الوضع وتعرت النوايا والمواقف وعرف كل أناس مذهبهم، تونس منقسمة بعد بين ضحايا وجلادين والسلم الأهلي غلاف مؤقت، والمستقبل مهدد بالانفجار الثوري بما يعنيه من فوضى أو مهدد بقتل أمل الثورة والعدالة والكرامة.
الهيئة الآن في وضع قانوني
إثارة المعركة ظاهره قانوني لكن باطنه كشف مواقع سياسية وتخطيطًا عميقًا أنضج بأناة لوأد مسار العدالة الانتقالية، فقانون الهيئة يسمح لها بالتمديد في عملها لمدة سنة واحدة ويلزمها فقط بتقرير يرفع للبرلمان لتبرير ذلك وقد فعلت، لكن نواب المنظومة حرفوا النقاش القانوني وفتحوا جبهة على الهيئة وأنصارها السياسيين؛ ففرضوا تصويتًا على حق التمديد وانتهى بهم الأمر إلى رفضه لكنهم كانوا في أقلية عددية بما يجعل تصويتهم غير ذي أثر قانوني على الهيئة التي أعلنت رئيستها مواصلة العمل طبقًا للقانون المنظم لعملها وطبقًا للدستور المؤسس لها.
معركة شق برلمان المنظومة مع الهيئة معركة كسر عظم ويترتب عليها فصول أخرى من الصراع ننتظر انطلاقها في الأيام القريبة القادمة ولا نستعبد أن توظف القوة العامة لإغلاق مقر الهيئة والاستيلاء على ملفاتها رغم أن التخريج القانوني يجري الآن في الكواليس ليتم قطع رأس رئيستها واستبداله بشخصية موالية للمنظومة تكون مهمته بالأساس منع صدور تقرير الهيئة الختامي (خاصة أن الهيئة لم تطلب زيادة في موازنتها بما يستبعد حجج التقشف التي تستعملها المنظومة غالبًا للطعن في مصداقية رئيس الهيئة التي لم يثبت اتهماها بالفساد المالي).
اختارت السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة أسلوب مصادمة المنظومة القديمة بنشرها وثائق تطعن في الاستقلال والشرف السياسي للرئيس بورقيبة
لقد بدأت مجموعة الوطد اليسارية الترويج لذلك واقتراح الأسماء، فمجموعة الوطد في جوهرها مخبرو بوليس صنعهم النظام منذ السبعينيات لكسر اليسار الراديكالي ثم وظفهم لاحقًا لمحاربة كل طيف الإسلام السياسي وتدميره لصالح المنظومة وقد قاموا بهذا الدور أحسن قيام زمن بن علي.
معركة الهيئة مع شق برلمان المنظومة كشف أمرًا مهمًا هو الأسلوب الأمثل لمحاربة المنظومة حربًا قانونية، لقد تبين أن هناك أسلوبين: أسلوب التوافق الذي سارت فيه النهضة وانتهى بها في وضع القراد الملتصق بجسد النظام ويكتفي بالقليل من دمه فلا يمنعه من السير، وأسلوب سهام بن سدرين (وقبلها أسلوب الرئيس المرزوقي) الذي يدفع المنظومة إلى الارتباك وفرض محاور النقاش عليها لهزها من الداخل والطعن في مشروعية وجودها.
أسلوب السيدة بن سدين
اختارت السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة أسلوب مصادمة المنظومة القديمة بنشرها وثائق تطعن في الاستقلال والشرف السياسي للرئيس بورقيبة، وذلك قبل أيام قليلة من الإعلام بالتمديد لعمل الهيئة بعام آخر كما ينص القانون المنظم لعملها، وقد دل عملها على أسلوب في العمل السياسي يفضل مهاجمة المنظومة عوض مهادنتها.
لقد أحرج أسلوبها في العمل أنصار الهيئة (التوافقيين) وأدخل الاضطراب بل الرعب في صفوف المنظومة التي تعيش من زعامة الزعيم بصفتها برنامجًا أزليًا لتونس، فهل كانت على حق؟ نعم لقد اختارت الطريق الأصوب وإن كان الطريق الأعسر لأنه طريق الثورة لا طريق إنقاذ المنظومة.
لقد ساد في تونس نوع من الخطاب المهادن الذي يرغب في تغيير المنظومة بأخف الأضرار السياسية والأمنية وتبين بعد سنوات التوافق أن كل مهادنة لهذه المنظومة يجعلها تتسلل من مسميات مثل التوافق والوحدة الوطنية والحفاظ على المصلحة العليا للبلاد وتفرض شروط اللعب على بقية مكونات المشهد السياسي، لقد انتهى الخطاب المهادن كجزء من المنظومة إذ استوعبته وميعت مواقفه وأفقدته كل قدرة على المناورة ضدها من خارجها.
احتمال 18 من أكتوبر لم يختف من الأماني ومن الفعل غير أنه يقتضي إرادة سياسية هذه مرحلتها أو لا تواتي بعد الآن
أمام منظومة لا تخجل من التلاعب بالقانون والعبث بالمؤسسات اختارت رئيسة الهيئة البدء بالهجوم مستقوية بنص القانون وبصحة ما بين يديها من ملفات تدين مكونات كثيرة من المنظومة وتطعن خاصة في شرفها السياسي وتاريخها، وهو في تقديري الأسلوب الأمثل الذي كشف عورات جميع مكونات المشهد الذي ينافق الثورة والعدالة الانتقالية بصفتها مؤسسة من مؤسساتها.
ضمن منطق التوافق والأخوانيات والوحدة الوطنية الكاذبة ما كانت المنظومة لتقبل بأي إجراء محاسبة أمام القضاء أو حتى مجرد اعتذار المدانين للضحايا، وكانت ستجد في أسلوب المهادنة فرصة أكبر للتسلل من شقوق التوافقات لترفض نتائج التقرير النهائي المزمع إصداره في ختام أشغال الهيئة؛ لذلك جاء أسلوب بن سدرين فاضحًا ومعريًا للجميع، وجاء ثمنه أزمة دستورية ولكن أيضًا فضيحة سياسية لكل من خسر من الثورة أو حاول أن يكتسب منها دون دفع ثمن لمصادمتها، لقد عرفنا قيمة الأسلوبين ونتائجهما على المنظومة والشارع.
وتبين أي الأسلوبين موجع ومثمر لتحقيق أهداف الثورة بما يؤهل البلد لمرحلة ثورة أخرى هدفها هدم المنظومة وقوامها نضال شجاع لا يخرج عن السلمية حتى يفوت على المنظومة وضع الضحية المتباكية على سلامة الوطن
روح 18 من أكتوبر تخيم على المشهد
هذا الكلام (الفقرة) فيه من التمني أكثر مما فيه من التحليل ورغم ذلك سندفع به إلى المشهد كما لو أنه احتمال ممكن، 18 من أكتوبر 2005 التقت كل أطياف معارضة بن علي وأربكت نظامه بتحرك متماسك ضم كل الأطياف السياسية وظل ذلك حلمًا جميلاً لم يكتمل، تفتت بعض الثورة لكنه ظل احتمالاً ممكنًا أو أمنية نعود إليها لنقول لمكونتها حينها إن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم بعد.
حتى الآن تدفعنا الرؤية الواقعية إلى تخفيض سقف الآمال ولكن صعقة الثورة تدفعنا إلى رفع سقف الأحلام
في نفاش مناورة المنظومة ضد الهيئة تجمع أطياف معارضة بن علي (النهضة واليسار والقوميين والديمقراطيين) وصدروا عن موقف واحد الهيئة خط أحمر، أفشلوا الانقلاب عليها وأفرغوه من كل شرعية قانونية ووضعوا مكونات المنظومة في وضع غير دستوري وغير قانوني بل انقلابي تخريبي، وقال قائل الشارع الآمل خيرًا هذه هي الطريق فهلا سرتم فيها خطوات حتى يتم تفكيك المنظومة باجتماعكم على الأساسي وتأجيلكم للثانوي من التناقضات المفتعلة!
احتمال 18 من أكتوبر لم يختف من الأماني ومن الفعل غير أنه يقتضي إرادة سياسية هذه مرحلتها أو لا تواتي بعد الآن أبدًا والمعول على الزمن القريب أن ينتج التناقض مع المنظومة عن الهيئة اتفاقًا مع مكونات الشارع الثوري بشأن انتخابات 2019 وما يليها لبناء بلد تنجح فيه العدالة الانتقالية وتتحقق فيه أهداف الثورة.
حتى الآن تدفعنا الرؤية الواقعية إلى تخفيض سقف الآمال ولكن صعقة الثورة تدفعنا إلى رفع سقف الأحلام، فها نحن نرفعها آملين، فقد انتصرت سهام بمفردها على المنظومة ويمكن تحويل انتصارها إلى استقلال حقيقي.