في ظل الأزمة السياسية التي تشهدها إثيوبيا منذ ثلاث سنوات وبلغت ذروتها باستقالة رئيس الوزراء السابق ديسلين هيلا ماريام، لم يكن اعتماد الدكتور أبي أحمد لرئاسة التحالف الحاكم وبالتالي رئيسًا للوزراء مفاجئًا للمراقبين.
لكن بالنظر إلى التاريخ السياسي الحديث لهذه الدولة الإفريقية العريقة، بتعددها العرقي والثقافي اللامتناهي، وبإرثها البيرقراطي الضارب في أطناب التاريخ والمتداخل بالمشهد الديني، لم يكن الانتقال السلمي للسلطة، وإن كان ضمن التحالف نفسه، حدثًا رمزيًا.
لم يكن اختيار الدكتور أبي أحمد سهلاً ولا سلسًا بكل المقاييس، حيث جاء بعد مخاض طويل، وتجاذبات حادة داخل التحالف الحاكم منذ 27 عامًا.
استمرت اجتماعات اللجنة التنفيذية والمكتب السياسي لأكثر من عشرين يومًا دون التوصل إلى إجماع بين الحرس القديم بقيادة التغراويين والقيادات الإصلاحية الشابة بقيادة لما مغرسا رئيس إقليم أوروميا، وبعد أن كان الإجماع والتوافق والترشيح بالتزكية هو المهيمن خلال السنوات الماضية، انتهى الأمر هذه المرة للاحتكام لقواعد الديمقراطية عبر جولتين من التصويت، انتهت لصالح تعزيز خط الإصلاح الشامل.
سياسيًا ينتمي الدكتور أبي لمنظمة شعب أورومو الديمقراطية OPDO (أحد الأحزاب الأربع المكونة للتحالف الحاكم)
بين الشمال المهيمن تقليديًا والجنوب المقاوم تاريخيًا
منذ تأسيسها ينتمي حكام إثيوبيا للشمال المسيحي دينًا، والتغراوي والأمهري عرقًا، وهو الذي درج على تعريف الدولة ضمن موروثه الثقافي والديني، وسعى إلى خلق كيان وحدوي مركزي، وحاول، لقرن ونصف، إذابة جميع الفوارق اللغوية والدينية في بوتقة واحدة، وخلق هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية.
ورغم محاولة النظام الحاليّ إعادة تعريف الدولة بالاعتراف بكل مكوناتها فإنه لم يتخلص من عقدة الهيمنة الشمالية سياسيًا واقتصاديًا، وفي هذا السياق يمكن فهم السيطرة الكاملة لجبهة تحرير تغراي على التحالف الحاكم وتوجيهها لدفة الحكم خلال 27 سنة الماضية رغم كونهم أقلية عرقية.
ينتمي الدكتور أبي أحمد إلى الأورومو (أكبر المجموعات العرقية مساحة وسكانًا)، ورغم أغلبيتها العرقية فإنها تعتبر أقلية سياسية في تاريخ إثيوبيا الحديث، وهي قائد المقاومة للهيمنة الشمالية على الجنوب الغني بالثروات والثقافات والأعراق.
سياسيًا ينتمي الدكتور أبي لمنظمة شعب أورومو الديمقراطية OPDO (أحد الأحزاب الأربع المكونة للتحالف الحاكم)، وتسيطر على ثلث مقاعد البرلمان، إلا أنها وإلى بداية الأزمة الحاليّة لم تكن فاعلاً سياسيًا.
بزغ نجم أبي أحمد مع بداية الاحتجاجات الشعبية في إقليم أوروميا في 2013 حيث شكل مع رئيس الإقليم لما مغرسا الثنائي الذي يقود ما يسمى في الأوساط الإعلامية بفريق لما
بالتالي لم يكن سهلاً ولا متصورًا للحرس القديم في المشهد السياسي الإثيوبي القبول بانتقال السلطة من الشمال الحاكم والمهيمن تقليديًا إلى الجنوب المقاوم والثائر تاريخيًا، لما يمثله ذلك القبول من انتصار رمزي لخط ثقافي وعرقي جاهد قرنًا من الزمان لينتقل من موضع المقاومة والتظلم إلى لائحة المشارك الفاعل.
إنها لحظة التسليم بالواقع وابتلاع علقم الحقيقة التي تقضي بأن مارد الأكثرية لن يرضى بأقل من قيادة حقيقية تناسب تمثيله السياسي والقاعدة الشعبية؛ لذا فإن اختيار الدكتور أبي ومهما يكن رمزيًا، وبغض النظر عما سيواجه مهمته من صعوبات أو تسهيلات، فإنه اختيار له ما بعده، وإثيوبيا اليوم ليست إثيوبيا الأمس.
بين الانتماء العرقي والإرث السياسي
ولد الدكتور أبي أحمد علي عام 1976، لأب أورومي مسلم وأم مسيحية، في منطقة جما، إحدى السلطنات المسلمة التي ضمت لإثيوبيا الحديثة ضمن مشروع بناء الدولة، تلقى تعليمه الأساسي والجامعي في الداخل، وانخرط في الجبهة الأورومية في شبابه وفي بداية تأسيسها عام 1990.
تدرج في العديد من المناصب الإدارية على مستوى ولاية أوروميا وعلى المستوى الفيدرالي أهمها: مدير إدارة الإسكان والتنمية المدنية في ولاية أوروميا ومدير وكالة أمن المعلومات والشبكات وملازم في قوات الدفاع الوطني، ويمكن الاطلاع على مزيد من سيرته الذاتية هنا.
هل الحرس القديم على استعداد بتقبل التغيرات الكبرى في المجتمعات الإثيوبية، وبالتالي يعطى فرصة لإنجاح الإصلاح والتغيير من الداخل، أم تغلب عليه أسطورة الهيمنة التاريخية؟
بزغ نجمه مع بداية الاحتجاجات الشعبية في إقليم أوروميا في 2013؛ حيث شكل مع رئيس الإقليم لما مغرسا الثنائي الذي يقود ما يسمى في الأوساط الإعلامية بفريق لما، إشارة إلى قيادات الصف الثاني في الحزب الأورومي في التحالف الحاكم، وهي مجموعة قيادية شابة بتوجهات تقدمية، ترى ضرورة إجراء إصلاحات راديكالية في الفكر السياسي والإداري للتحالف الحاكم، وبالتالي في الدولة الإثيوبية بكاملها.
ومع وجود بذور فكر المجموعة في الأوساط السياسية، خاصة بين الأوروميين الذين يرون في الإصلاح من الداخل سبيلاً لخلق نظام سياسي أكثر عدلاً وتمثلاً، إلا أن الظروف السياسية وقوة قيادة التحالف الحاكم المتمثلة في رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي لم تسمح للمجموعة أو لأي فكر إصلاحي جاد ومستقل بالبروز.
مع استفحال الأزمة السياسية وتواصل الاحتجاجات الشعبية تمكنت مجموعات الإصلاح من إبراز رؤيتها والمناداة علنًا بالإصلاح الشامل، مما فرض على التحالف تبني برنامج إصلاحي بلغ ذروته باستقالة رئيس الوزراء السابق ديسلين هيلامريم، وضمن هذه الإصلاحات تقدمت للمشهد السياسي الأورومي قيادات شابة طموحة، من إنتاج النظام السياسي ومن بين دهاليز حكمه، وأثبتت قدرتها الإدارية والنزاهة الشخصية، وعانت من التهميش السياسي رغم القاعدة الشعبة العريضة.
إثيوبيا على أعتاب مرحلة جديدة وأملنا كبير في أن يتمكن فريق الإصلاح من تجاوز عقبات الدولة العميقة الممانعة للتغيير بالاعتماد على خبرته بدهاليز الحكم
بكل تأكيد يمثل اختيار الدكتور أبي أحمد نقطة تحول في التاريخ السياسي لإثيوبيا، وباختياره اجتاز البلد منعطفًا سياسيًا حادًا، ولكن ما زال للقصة بقية، فما زال أمام المرشح الشاب مجموعة كبيرة من التحديات أقلها ترتيب الوضع الداخلي للتحالف كمنظمة سياسية سيطرت على كل شاردة وواردة في هذا البلد بكل تعقيداته.
الطريق إلى الأمام
هل الحرس القديم على استعداد بتقبل التغيرات الكبرى في المجتمعات الإثيوبية، وبالتالي يعطى فرصة لإنجاح الإصلاح والتغيير من الداخل، أم تغلب عليه أسطورة الهيمنة التاريخية ويلجأ إلى استخدام أدوات الدولة العميقة ووضع العصي في الدواليب؟
القراءة الأولى لتحليل نتائج التصويت داخل المكتب السياسي تفيد بأنه لم يصوت للدكتور أبي أحمد أحد من بين 45 عضوًا من أعضاء جبهة تحرير شعب تغراي، وجاء ترجيح كفته بأصوات الأمهريين، ومجموعة من حزب الشعوب الجنوبية بقيادة رئيس الوزراء المستقيل ديسلين.
وإن صحت هذه القراءة، فلنا أن نتساءل: هل امتناع التغراويين عن التأييد هو تأكيد لموقف سياسي لهم الحق فيه أم إيحاء بسلوك سياسي قادم؟
بكل الأحوال إثيوبيا على أعتاب مرحلة جديدة وأملنا كبير في أن يتمكن فريق الإصلاح من تجاوز عقبات الدولة العميقة الممانعة للتغيير بالاعتماد على خبرته بدهاليز الحكم، وعلى المطالبات الشعبية الجارفة بالإصلاح، كما أن الأمل معقود على أن يغلب الحرس القديم المصلحة الوطنية ويساهم في إنجاح مهمة الإصلاحيين للوصول بهذا البلد إلى بر الأمان.