يقول الأديب الألماني الشهير يوهان غوته: “أولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن اللغات الأجنبية لا يعرفون شيئًا عن لغتهم”، فاللغات حلقات متواصلة يتأثر بعضها من بعض وينهل كل نبع من غيره، وقلما تجد لغة كانت أو لهجة لم تكن في الأصل مستمدة في كثير منها من لغات أو لهجات الأخرى.
وتنطبق مقولة الأديب الألماني على اللغة العربية بشكل كبير، وذلك لكثرة ما تأثرت بلغات أجنبية أخرى، سواء كانت لغة الدول التي احتلتها أو الدول الجارة جغرافيا وتاريخيًا، هذا بخلاف لهجات سكان الدول الأصليين للبلاد التي فتحها العرب قديمًا، وتأثر بها العرب بعد ذلك في حديثهم.
اللهجة العامية المصرية على وجه الخصوص إحدى أكثر اللهجات العربية والعالمية تأثرًا باللغات الأخرى، وهو ما يجسد الفجوة الواسعة بينها وبين اللغة العربية الفصحى، حيث تضمنت مئات بل آلاف الكلمات والألفاظ التي تعود جذورها إلى أصول أجنبية متعددة، وهو ما أثراها وجعلها إحدى أكثر اللهجات العربية انتشارًا.
الفارسية والتركية الأكثر توغلاً
تتضمن العامية المصرية العديد من الألفاظ الأجنبية من لغات متعددة، إذ إن هناك نحو 13 لغة أجنبية تشكّل أصول أكثر من 1500 كلمة في عامية المصريين، تتصدرها اللغة الفارسية التي تشكل أكثر من 30% من الألفاظ الأجنبية المستخدمة، تليها اللغة التركية التي تشكل ما بين 3 – 4% من تلك الألفاظ، ثم اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية، حسبما أشار الدكتور عبد الوهاب علوب، في مؤلفه (معجم الدخيل في العامية المصرية) الصادر عن المركز القومي للترجمة.
سيطرة الألفاظ الفارسية على العامية المصرية ليس مردوده احتلال الفرس لمصر كما هو شائع بين الناس، إذ إن الفترة التي وقعت فيها مصر أسيرة احتلال الفرس لم تكن طويلة بالشكل الذي يسمح للمصريين أن يقتبسوا ألفاظهم من المحتل، هذا بخلاف محدودية الاختلاط بين مصر وإيران، كما أشار علوب لـ”نون بوست”.
بينما أرجعها إلى أن اللغة التركية التي كان يتحدث بها العثمانيون الذين سيطروا على حكم مصر فترات طويلة من التاريخ، من القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا، كانت الألفاظ الفارسية تشكل فيها قرابة 30% منها، وهو ما انتقل تلقائيًا للمصريين وتأثرت بها لهجتهم الداخلية.
لا توجد لغة أو لهجة في العالم لم تستخدم ألفاظًا من لغات أخرى، فالإنجليزية الأمريكية تضم ألفاظًا من الإسبانية والإيطالية وحتى من لغة السكان الأصليين للولايات المتحدة
ألفاظ مصرية من أصول أجنبية
تناول علوب في معجمه عشرات الألفاظ المستخدمة في العامية المصرية ذات أصول أجنبية، سواء كانت فارسية أو تركية أو إنجليزية أو حتى إيطالية، مستعرضًا المعنى المستخدم في اللهجة المصرية وما يرادفها في لغاتها الأصلية.
أبله: لقب يطلقه التلاميذ المصريون على معلمتهم واصله تركي (abla) لمناداة الشقيقة الكبرى.
أوضة: تعني في المصرية العامية “الغرفة” وهي تركية الأصل (ODA) وتعني نفس المرادف.
بلطجي: تعني في مصر مستخدم العنف خارج القانون وأصلها تركي من مقطعين “بلطة” و”جي” أي حامل البلطة أو الفأس، وأخذ المصريون عن التركية إضافة الجيم والياء مثل كفتجي وعربجي وكبابجي.
طشت: تعني في العامية المصرية إناء غسيل، وهو نفس ما تعنيه في أصلها الفارسي.
بلكونة: تعني الشرفة المطلة من المبنى وأصلها فارسي “بالكانة”.
لهط: تعني بالعامية التهم الطعام كله وأصلها سرياني وتعني أكل بشراهة.
أليط: تعني بالعامية المصرية الشخص المغرور وأصله من الإنجليزية elite بمعنى الصفوة.
إسمنت: تلك المادة المستخدمة في البناء أصلها بالانجليزية CEMENT.
بانيو: أصلها تركي بمعنى حوض الاستحمام.
أستاذ: تعني المعلم في العامية المصرية وأصلها فارسي.
الترابيزة: بمعنى (الطاولة) وهي يونانية الأصل τραπέζι (ترابيزي).
أهبل: هي كلمة يونانية أصلها “هابلوس” ومعناها ساذج.
الفارسية والتركية الأكثر تأثيرًا في العامية المصرية
تبادل أم غزو ثقافي؟
تباينت وجهات النظر حيال تفسير هذه الظاهرة، بين من يراها غزوًا ثقافيًا من المحتل حيال الدول المستعمرة، ومحاولة فرض ثقافته بالقوة، ومن يراها نوعًا من التبادل الثقافي الناجم عن الاحتكاك بين الشعوب، وعمق العلاقات فيما بينهم، وهو ما ذهب إليه صاحب “معجم الدخيل في العامية المصرية”.
استند علوبة في رؤيته إلى أنه لا توجد لغة أو لهجة في العالم لم تستخدم ألفاظًا من لغات أخرى، فالإنجليزية الأمريكية تضم ألفاظًا من الإسبانية والإيطالية وحتى من لغة السكان الأصليين للولايات المتحدة وذلك نتيجة مخالطة المهاجرين واتساع الحدود مع المكسيك التي تتكلم الإسبانية، كما أن اللغة الفارسية المستخدمة في إيران تمثل اللغة العربية أكثر من 25% منها.
كما أضاف أن كثيرًا من الألفاظ التركية التي تعمقت في جذور العامية المصرية حتى داخل صفوف الجيش قبل 1952، مثل يوزباشي أي رئيس العشرة وبكباشي أي رئيس الألف أو حتى ياور وجمعها ياوران وجاء منها كبير الياوران، معظمها من أصل فارسي، الذي بدوره تأثر بشكل كبير باللهجة العربية، وهكذا.
هناك نحو 13 لغة أجنبية تشكّل أصول أكثر من 1500 كلمة في عامية المصريين، تتصدرها اللغة الفارسية التي تشكل أكثر من 30% من الألفاظ الأجنبية المستخدمة
كان هذا قديمًا لكن مع تحول المصريين للهجة الأمريكية بدلاً من اللهجات الأخرى في الآونة الأخيرة، كشف أن هذا يعد نوعًا من أنواع التغريب الواضح، حيث استبدلوا الكلمات الأجنبية المستخدمة في قاموسهم الداخلي بالإنجليزية الأمريكية، فعلى سبيل المثال، تم استبدال كلمة “ماكياج” الفرنسية بكلمة “ميك آب” وكلمة “كاراج” بكلمة “باركينغ”.
مخاطر عدة حذر منها البعض جراء تلك الازدواجية اللغوية لا سيما على الوعي الإدراكي للأطفال والطلاب، فحين يستخدمون ألفاظًا في بيوتهم وحياتهم اليومية تختلف تمامًا عن تلك المستخدمة في قاعات الدراسة في المدارس يصابون بما يسمى “الفصام اللغوي”، وينظرون للغتهم الأساسية “العربية” على أنها لغة متقعرة وصعبة.
صادق أتاغول أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة غازي عنتاب التركية، يؤكد ما سبق بقوله إن اللغة التركية تأثرت على مر التاريخ بشكل كبير باللغتين العربية والفارسية، حتى بلغت نسبة المصطلحات العربية المستخدمة فيها قرابة الـ70%، والسبب في ذلك يعود للتقارب الجغرافي والتأثير الحضاري للدول الناطقة بهاتين اللغتين على القبائل التركية.
مضيفًا أنه بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923، أسس مصطفى كمال أتاتورك مجمع اللغة التركية، وكانت مهمته آنذاك تحويل اللغة العثمانية إلى التركية الحديثة، فحذف المعنيون الكلمات ذات الأصول العربية والفارسية، واستبدلوها بكلمات تركية وفرنسية وإنجليزية، وغيروا أحرف الكتابة من العربية إلى الأحرف اللاتينية، ومع ذلك لم تنجح كل تلك المحاولات بتطهير اللغة التركية من اللغة العربية، وما زالت الكلمات العربية تشغل نحو 30% من اللغة التركية الحديثة.