أغلقت شركة مفاحم جرادة في المغرب الشرقي عام 2001، وسرح أكثر من 5000 عامل، وقرر السكان وضع حد للعبة النرد: الحياة مقابل كسرة الخبز، وخرجوا في مظاهرات منذ أواخر ديسمبر الماضي مطالبين ببديل اقتصادي.
تأججت الاحتجاجات على غلاء المعيشة بعد وفاة الشقيقين الحسين وجدوان الدعيوي بإحدى “السندريات” غرقًا بالمياه الجوفية؛ وهما الضحيتان رقم 41 و42 ممن قضوا في أثناء استخراج الفحم خلال الست عشرة سنة الأخيرة.
استجابة لنداء الحراك، نفذت الساكنة إضرابًا عامًا يوم 25 من ديسمبر 2017، شل نشاط المدينة، واستمرت الاحتجاجات المنظمة في توطيد الروابط بين الناشطين وتوسيع الهياكل المفروضة على الساكنة.
وفي 14 من مارس الأخير – لما قرر عمال الفحم الاعتصام بأحد الآبار – خرجت مقاطع فيديو وصور تسجل عنف الدولة الذي استخدم فيه الدهس لتفرقة المحتجين؛ مما أسفر عن اندلاع مواجهات واعتقال أكثر من 20 ناشطًا، وصرح رئيس الحكومة قائلاً: “اعتقال الأشخاص يتم بأمر من وكيل الملك، وأنا شخصيًا غير مطلع على تفاصيل هذه الملفات”.
تكونت معقولية الحراك المحلية من ذخيرة خطابية وتنظيمية ساهم فيها أوسع عدد من الناس البسطاء
خلال لقاء عمومي لنشطاء الحركة بالشارع العام، ووسط استنكار تعنيف المتظاهرين، خاصة النساء والشيوخ والأطفال، قال أحد المتدخلين: “الناس ذهبوا إلى الغابة وابتعدوا عن الساحات، فماذا يوجد في الغابة لتنزل لقمعهم؟ مما تخاف؟ الناس معتصمون في آبار الفحم وتركتوا لك مدينتك لماذا قمعتهم؟”.
أبرز التدخل العنيف ضد معتصمات آبار الفحم، وحملة الاعتقالات، رغبة السلطة في وقف زخم الحركة الاجتماعية، كما فعلت مع حراك الريف، وإذا كانت قضية مدن الحراك قضية اجتماعية، فإن السلطة لها معركة سياسية: هدم أي حركة اجتماعية – بأي ثمن – قد تنجح في تكسير الهياكل السائدة محليًا ومركزيًا.
لم يعد المواطن بمدينة الأشباح يثير الشفقة لأنه لا يجد ما يطعم أطفاله، بل بات رمز الجدارة لدى الحركات الاجتماعية بالمغرب، إذ تبين أن حركة من أسفل تكتمل معالمها، وتجسر الروابط مع حركات أخرى في الريف وزاكورة وتيزنيت والعيون، إلخ، ولن تنتهي بالقمع أو الاحتواء، لأنها ليست موجة ولا عدوى إقليمية، والملاحظات الأولى تبرز عناصر تشارلز تيليي (Charles Telly) الرئيسية للحركات الاجتماعية:
الحملة ((Campaign: مجهود مستدام ومنظم يملي مطالب اجتماعية على السلطات، ذخيرة الحركة الاجتماعية (Social movement repertoire): اللقاءات العامة، المواكب المهيبة، الاعتصامات، المسيرات، المظاهرات، إلخ.
عروض الوقفة (WUNC): الجدارة (Worthiness)، الوحدة (Unity) الزخم العددي (Numbers)، الالتزام (Commitment) تجاه أنفسهم وقاعدتهم الشعبية.
يستمد الحراك الاجتماعي الراهن هويته من الهامش المكاني/الجغرافي
تكونت معقولية الحراك المحلية، من ذخيرة خطابية وتنظيمية ساهم فيها أوسع عدد من الناس البسطاء، ممن يشاركون في التنظيم والقيادة، خاصة من الشباب والنساء، “لا تقودنا العدل والإحسان ولا النهج الديمقراطي، نحن شعب جائع” يقول شاب من نشطاء جرادة، موضحًا وسط الحشد، كما تحث النساء الحشود على الصبر والتشبث بالمعركة إلى آخر نفس.
يستمد الحراك الاجتماعي الراهن هويته من الهامش المكاني/الجغرافي، إذ استطاع أن يتمركز على ذاته ويكسر طوق العزلة، فجذب المركز الاقتصادي والسياسي والحكومة المركزية، فتقرر احتواءه وقمعه، يتعلم نشطاء الحراك بسرعة.
وقد أدركوا سبل الاستمرار وشروط تقوية روابط الفعل الجماعي، وأتقنوا استعمالها طيلة شهور؛ فتمكنوا بمساعدة التواصل الاجتماعي – رغم تضليل الإعلام الرسمي والموالي للسلطة – من نقل حركتهم من مستوى الحملة والتعبئة المحلية، إلى المستوى الوطني وعبر وطني.
فهذا عامل كهل يهم دخول “الساندرية”، يذكر بالمطالب الأربع ويتحدث عن جدارة الحراك ووحدته والالتزام بالمعركة كدفاع عن الأرض والمجال، ويقول: “الحراك لا يقوده أحد، الحراك يقوده الله، ويطالب الملك بإيفاد لجنة تقف على حقيقة تلبية المطالب، لا أن يُرْسَل القمع للمواطنين”.
وتخاطب سيدة السلطة المتخفية، وهي توثق بكاميرا الهاتف المحمول عمليات الدهس، قائلة: “فين راك يا الوالي فين راك يا الوزير فين راك يا…”، فهم يخاطبون السلطة السياسية والاقتصادية، ويبرز ذلك أن المواطنين المحتجين تعلموا الكثير في مدن الحراك، واستعادوا الفضاء العام، وسيكون لديهم ما يقدموه للمسألة الاجتماعية.