في إحدى مقالاته، ركّز المفكر الفلسطيني الدكتور إدوارد سعيد على أنّ الذاكرة تشكّل أهمية بالغة في في مسائل الهوية والانتماء والسُلطة، وأنّ دراسة التاريخ التي تعدّ أساس الذاكرة، لا يجب أن تكون دراسة حيادية تكتفي بسرد الوقائع والأحداث، وإنما علينا محاولة فهم الطريقة التي يُسرد فيها وكيف كان بإمكان السلطات التلاعب بأحداث الماضي، بإبراز بعضها وطمس بعضها الآخر، لغاياتٍ سياسية سلطوية تهدف للتحكم بالمجتمعات.
هنا يربط سعيد بين قوة الذاكرة الجمعية في التأثير على الأحداث والوقائع. وكما ذكرنا في المقال السابق، فإنّ الذاكرة الجمعية هي ظاهرة ذات بُعد جمعيّ تتأثر بالبيئات المجتمعية والعوامل السياسية المحيطة، إضافةً للطرق التي يتم رسمها لسرد التاريخ وروايته التي لا يمكن ألا تتعرض لمحاولة التغيير والإخفاء.
كما تلعب العديد من الوسائل دورًا كبيرًا في ذلك، بدءًا من وسائل الإعلام بما فيها من برامج وأفلام وسرديات، مرورًا بالمناهج الدراسية والكتب التي تسرد التاريخ وفقًا لبعض السياسات والأهداف المعينة، أو الاهتمام بالمتاحف والذكريات الوطنية والطقوس والاحتفالات الشعبية بطرقٍ معينة، وليس انتهاءً بتصريحات السياسيين ورجال الدول والفاعلين فيها التي تلج عقول الأفراد وتصبح جزءًا من ذكرياتهم وتاريخهم.
يكاد التاريخ والواقع يخلو من أيّ دولة لم تحاول استغلال أساطيرها وتقاليدها التاريخية بحيث تصبح جزءًا من ذاكرة مجتمعاتها. وقد طوّرت “إسرائيل” على وجه الخصوص قراءة وطنية، نستطيع أنْ نصفها بالذكية، للتاريخ اليهوديّ وما يحتويه من أساطير ووقائع حول العصور القديمة والحقبة الحديثة، في محاولات بناء الدولة وشرعنة الاحتلال.
على مدى العقود الماضية، حاولت السياسيات الإسرائيلية باستغلال أحداث تاريخية معينة لتصبح بكونها نقاط تحوّل مهمة في التاريخ تتبنى أبعادًا أسطورية أو دينية أو سياسية. ولعلّ أهمّ تلك الأحداث هي المتسادا أو “المسعدة” كما تُسمى باللغة العربية، والمحرقة اليهودية أو الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية.
المتسادا: حين يتحول الهروب والانتحار إلى أسطورة بطولية
في كتابها الصادر عام 1995 “جذور متسادا: الذاكرة الجمعية وصناعة الإرث القومي الإسرائيلي”، تتطرق الكاتبة ياعيل زربافيل إلى الكيفية التي تحوّلت فيها هذه الحادثة من قصة مخفية لا يعرف عنها معظم اليهود إلى أسطورة أساسية في التاريخ اليهوديّ ومجاز سياسيّ في الوقت المعاصر، محاولةً ربط هذا التحول بقوة الذاكرة الجمعية كأداة يمكن استخدامها في أيدي السياسيين وكاتبي التاريخ.
لم تكن المتسادا تشكّل جزءًا من ذاكرة اليهود ولم تكن كتب تاريخهم تتطرق إليها أو كانت تراها بصورة سلبية، خاصة وأنّ الشريعة اليهودية تعتبر الانتحار كبيرة من الكبائر
والمتسادا هضبة استراتيجية تقع في الجانب الجنوبيّ للبحر الميت، في العربية تسمى “مسعدة” أو “مصعدة” نسبةً إلى الصعود. أقام هيرودس الكبير على قمتها موقعًا عسكريًا ضخمًا لجأت إليه مجموعة كبيرة من اليهود إبان الثورة اليهودية ضد الرومان، بقيادة زعيمهم العازر بن يائيل، وحين أدركوا أن لا أمل لهم في النجاة قرروا الانتحار الجماعي كي لا يقعوا عبيدًا في يد الجيش، فقام الرجال بقتل النساء والأطفال قبل أن يشرعوا بقتل بعضهم البعض، وبذلك تكون المسادا قصة حول انتحار ما يقارب الألف فردٍ هربًا من مصيرهم.
الغريب أنّ تلك الحادثة فعليًا لم تكن تشكّل جزءًا من ذاكرة اليهود ولم تكن كتب تاريخهم تتطرق إليها أو كانت تراها بصورة سلبية، خاصة وأنّ الشريعة اليهودية تعتبر الانتحار كبيرة من الكبائر، ولا تسمح بدفن المنتحر في أيّ من المقابر اليهودية. لكن مع صعود الحركة الصهيونية في بدايات القرن العشرين؛ بدأت العديد من الكتابات تروّج لها بوصفها واقعة بارزة في التاريخ اليهوديّ تحمل مجازاتٍ ورموزًا فعّالة عن الكفاح والبقاء ورفض الخنوع وما إلى ذلك.
تمّ إعادة إحياء المتسادا في الذاكرة الشعبية اليهودية بكونها روح البطولة والتضحية ورمزًا لعناء البحث عن الحرية والكرامة الوطنية التي اختفت من ذاكرة اليهود
وبالتالي أصبحت المتسادا نقطة تحوّل كبيرة في التاريخ الإسرائيلي، وواحدًا من أكثر المواقع السياحية جلبًا للسياح العالميين في فلسطين، بعدما تمّ إعادة إحيائها في الذاكرة الشعبية اليهودية بكونها روح البطولة والتضحية ورمزًا لعناء البحث عن الحرية والكرامة الوطنية التي اختفت من ذاكرة اليهود في الوقت الذي كانوا فيه في “المنفى”.
الهولوكوست: يحقّ للضحية كلّ ما تفعله
لم تكن المتسادا الوسيلة الوحيدة التي استطاعت السياسات الإسرائيلية من خلالها التلاعب بالذاكرة الجمعية للأفراد وحسب، فعلى مستوىً أكثر حداثةً واستجدادًا، كان من الممكن جدًا استخدام المحرقة اليهودية أو الهولوكوست كذاكرة مؤلمة في عقول اليهود، والتلاعب في معناها ومآلاتها لأهدافٍ سياسية بحتة تخدم القوى والأيديولوجيات.
فقد استخدمت الحكومة الإسرائيلية الهولوكوست عن عمدٍ بوصفه طريقةً فعالة ومؤثرة لتعزيز الهوية القومية الإسرائيلية بعد سنوات من عدم الاكتراث بها إبان تواجد اليهود وتوزّعهم على دول العالم، وتعبئتهم وتحفيزهم لمغادرة ما يصفونه بالمنفى والعودة إلى أرض الميعاد بحسب وصفهم.
لعبت الذاكرة الجمعية للهولوكوست، وبتأثير سياسيّ تعبويّ، دورًا كبيرًا في ترسيخ شعور “الضحية” الذي يلازم اليهود.
وعلى الرغم من كلّ ذكريات التعذيب والموت والمهانة التي عانى منها اليهود في أوروبا في ذلك الوقت، إلا أنّ السياسات أعادت صياغة الهولوكوست على أنه مرحلة سيتم من خلالها استبدال وطنٍ بوطنٍ آخر، وبالتالي إضفاء الشرعية على كلّ الممارسات اللاحقة التي تبعت ذلك لإبعاد الفلسطينيين عن أرضهم وما رافقه من محاولات قتلٍ وتعذيب ومجازر جماعية.
كما لعبت الذاكرة الجمعية للهولوكوست، وبتأثيرٍ سياسيّ تعبويّ، دورًا كبيرًا في ترسيخ شعور “الضحية” الذي يلازم اليهود، بكونهم عانوا أشدّ أنواع العذاب في أوروبا، وذاقوا مرارة الرفض والكره، وبالتالي فبات ذلك الشعور مرجعًا لهم يعطيهم الأحقية والشرعية في هجرتهم إلى فلسطين وممارسة الأفعال اللإنسانية ضد سكانها.
إذن تكشف التغيرات الحاصلة في كلٍ من ذكريات المتسادا والهولوكوست في الثقافة الإسرائيلية عن العلاقات الديناميكية المعقدة بين كلٍ من التاريخ والذاكرة الجمعية، الأمر الذي يلعب فيه السرد دورًا كبيرًا ومهمًا، نظرًا لإمكانية تغيير الأحداث كالإضافة إليها أو حذف بعضها أو إعطائها طابعًا رمزيًّا مغايرًا لما كانت عليه في البداية.
وهكذا تستمر الذاكرة الجمعية بطرقها المختلفة في لعب دور رئيسي في تصنيف وتفسير وإدخال المعنى التاريخيّ إلى الحياة المعاصرة، وتُعطي تفسيرًا واضحًا للكيفية التي يحاصر فيها التاريخ الذاكرة، وتحاصر الذاكرة فيها التاريخ، بحيث يصبحان جزءًا لا يمكن تجزئته ولا يمكن النظر إلى أحدهما بمعزلٍ عن الآخر.