ينشغل السياسيون العراقيون اليوم في مناقشات عقيمة حول طبيعة الحكومة المقبلة وهل ستكون حكومة أغلبية سياسية أم حكومة توافقية، في الوقت الذي يشهد العراق عزوف شعبي كبير عن المشاركة بالانتخابات النيابية القادمة في مشهد يوضح أن السياسيين يعيشون بوادٍ والشعب العراقي يعيش بوادٍ أخر.
وإذا شأنا تلخيص المفهومين باختصار، فإن حكومة الأغلبية يقصد بها، تشكيل حكومة من حزب أو مجموعة من الأحزاب التي فازت بأعلى الأصوات وأصبح لديها أكبر عدد من المقاعد النيابية، بينما الحكومة التوافقية هي الحكومة التي تُشكل من مجموعة من الأحزاب الفائزة تتألف فيما ببينها لتشكيل حكومة تنال ثقة البرلمان، وفي الغالب يكون تشكيل الحكومات الائتلافية عندما يعجز حزب واحد في الحصول على عدد المقاعد الكافية في البرلمان التي تمكنه تحقيق الأغلبية لتشكيل الحكومة.
تمتلك حكومة الأغلبية مميزات عديدة تساعدها بالسير قدمًا في تنفيذ مشاريعها، وستتجنب إهدار الوقت الكثير في التوافقات السياسية مع الأحزاب الاخرى لتنفيذ برنامجها السياسي، وبالتالي فإن هذا النوع من الحكومات أكثر نجاحًا حسب ما أثبتته العديد من التجارب العالمية. لكن الحكومة التوافقية على الرغم من بطء عملها، إلا أنها تعتبر حلًا مثاليًا للدول التي لديها عرقيات وطوائف واثنيات عديدة، فهي تُمثل الجميع في الحكومة.
لو توفرت الشروط التي تمكن بها اعتماد الأغلبية السياسية في تشكيل الحكومة بالعراق، فأن نقلة نوعية كان يمكن أن يشهدها البلد
كما إن هذا النوع من الحكومات نافع جدًا للدول التي ليست لها تجارب ديمقراطية عريقة وقديمة، أو أن أحزابها خرجت من رحم الطوائف والقوميات وليست أحزابًا وطنية كما هو الحال بواقع الأحزاب العراقية. وبالتالي فإن الحكومة التوافقية هي الأنسب لبلدان مثل هذا النوع وتوفر لها درجة عالية من الاستقرار، وتمنع النزاعات المسلحة بين تلك الأحزاب.
إلا أن من سلبياتها الكبيرة هي المحاصصة التي تُحتم على رئيس الوزراء مراعاتها عند تشكيل حكومته، من خلال ترشيح وزراء يمثلون كل أطياف الشعب، وفي كثير من الأحيان تُسند مناصب الوزراء أو المدراء العامين إلى من ليس له دراية في إدارة هذا المنصب، إنما فقط تطبيقًا لمبدأ المحاصصة، مما يؤثر على عمل الحكومة وتبرز المشاكل الجسيمة في إدارة الدولة بشكل عام.
هذا النوع من الحكومات يفتقر إلى معارضة قوية تستطيع تقويم عمل الحكومة، كون كل الأحزاب السياسية في البرلمان لديها من يمثلها في الحكومة، لذلك فإن الأحزاب لا تقوم بواجبها الرقابي لأداء الحكومة، وتغض الطرف عن مساوئها لصالح مكاسبها الحزبية أو الطائفية أو القومية. فإن نظام الحكومة التوافقية يغلق الطريق على الأحزاب التي تأسست على أساس وطني وغير طائفي، ويجعل من المستحيل عليها أن تصل الحكومة، حتى لو كانت مقبولة ومنتخبة من قبل الشعب، لأن نظام المحاصصة سوف يقصيها ويعترض طريقها كونها لا تمثل طائفة أو قومية محددة.
وفي الحالة العراقية اتفق السياسيون العراقيون على أعراف سياسية معينة، عملت بها كل الحكومات التي تشكَّلت منذ 2005 وحتى الآن. من خلال توزيع المناصب السيادية على الطوائف الرئيسية في العراق بطريقة المحاصصة، بالرغم من عدم وجود ما يؤيد ذلك في الدستور العراقي. باستثناء منصب رئيس الوزراء الذي يتم اختياره من قبل الكتلة الكبرى. وجرى تأسيس الحكومات السابقة بشكل توافقي وعلى أساس المحاصصة، حيث يتم اختيار نائب رئيس وزراء سني وآخر كردي، وسبعة وزراء من الأحزاب الشيعية وستة من الأحزاب السنية وأربعة من الكرد وحقيبة وزارية للمسيحيين وأخرى للتركمان ومثلها لباقي المكونات.
ما يدعو للخوف هو أن من يدعو لتشكيل حكومة الأغلبية السياسية ويتصدر المشهد بالدعوة لها، هي الأحزاب المقرّبة من إيران، مثل حزب الدعوة وأحزاب كتلة دولة القانون
ولو توفرت الشروط التي تمكن بها اعتماد الأغلبية السياسية في تشكيل الحكومة بالعراق، فإن نقلة نوعية كان يمكن أن يشهدها البلد، لأنها ستلغي المحاصصة السياسية وستلغي تغلب طائفة على أخرى أنما سيتغلب البرنامج السياسي للحزب وليس انتماء هذا الحزب الطائفي أو القومي. لكن واقع الحال في العراق الآن لا يسمح بذلك، لأن جميع الأحزاب المشاركة بالعملية السياسية إما طائفية أو قومية، وعلى هذا فإن تلك الأحزاب ليس في تطلعاتها السياسية إلا الحصول على أكبر المكاسب للطائفة أو القومية التي تمثلها.
أضف إلى ذلك أن ما يدعو للخوف هو أن من يدعو لتشكيل حكومة الأغلبية السياسية ويتصدر المشهد بالدعوة لها، هي الأحزاب المقرّبة من إيران، مثل حزب الدعوة وأحزاب كتلة دولة القانون وأحزاب أخرى مثل الفضيلة وبدر وصادقون، إضافة إلى فصائل الحشد الشعبي التي ستشارك بالانتخابات المقبلة. وعلى رأس تلك الأحزاب والكتل السياسية هو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو الذي اعطى دفعة كبيرة لحالة الاحتقان الطائفي ومارس سياسة الاقصاء بالقوة لمكونات سياسية أساسية في العملية السياسية عندما كان رئيسًا للوزراء.
الأغلبية السياسية نموذج راقي جدًا لإدارة البلد لو توفر شرط وجود أحزاب غير طائفية ولا قومية في كل الكتل الرئيسية في العراق من شيعة وسنة وكرد
ومارس المالكي الأغلبية السياسية فعليًا لفترة طويلة من حكمه، فقد رفض مرشحي كتل منافسة له لتسلم وزارات سيادية مهمة، وقام بإدارة تلك الوزارات بنفسه، ثم عين بعد ذلك أشخاص تابعين له ليديروها بالوكالة، وقلص صلاحيات المحافظين وجمع كل الصلاحيات بيده. وهذا يعني أن المالكي يريد أن يطبق نظريته بالحكم الفردي مرة أخرى كما طبقها سابقاً، لكنها هذه المرة بأغلبية طائفية تتمثل باستيلاء الطائفة الشيعية على الحكم بقيادة حزب الدعوة الذي ينتمي له نوري المالكي، وفي هذا يقول القيادي في تحالف القوى الوطنية النائب عبد الكريم عبطان إن ”أحلام حكومة الأغلبية السياسية انتهت وقتلها من يدعو لها اليوم (يقصد المالكي)، في عام 2010، عندما فازت كتلة إياد علاوي بالانتخابات وتمت إزاحتها بالرغم من فوزها بالانتخابات.
إن دعوات المالكي وترويجه للأغلبية السياسية بهذه القوة لم يأتي إلا بعد أن استطاعت الأطراف السياسية الشيعية من بسط نفوذها على العراق بطريقة شبه كاملة، وبعد أن تم تهميش كل من يعتبروهم خصومًا لهم، من العرب السنة أو الكرد، فيكفي ان يكون هناك تمثيل شكلي من المكون السني والكردي في حكومة يتم تشكيلها من حزب الدعوة ليظهر المالكي للعالم، بأنه حقق حكومة أغلبية دون اقصاء الاخرين. وستشكل هذه المرحلة إذا ما تمت، ختام الجهود السياسية الإيرانية بالاستيلاء على كل البلد سياسيًا وعسكريًا، وهو ما يفسر لنا الترحيب الكبير من قبل إيران لطرح فكرة حكومة الأغلبية السياسية.
إن الأغلبية السياسية نموذج راقي جدًا لإدارة البلد لو توفر شرط وجود أحزاب غير طائفية ولا قومية في كل الكتل الرئيسية في العراق من شيعة وسنة وكرد، فالأحزاب معظمها وللأسف طائفية فكراً وتصرّفاً، وبذلك فمن المستحيل تشكيل هذا النوع من الحكومات إلا إذا كان يراد منها أن تكون حكومة أغلبية شيعية فقط.
على الأحزاب الوطنية العراقية بالرغم من قلتها، وعلى المنظمات الدولية الفاعلة، أن تساعد الشعب العراقي للتخلص من انسداد الأفق السياسي في العراق. من خلال تعديل الدستور لزيادة صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب صلاحيات رئيس الوزراء، وأن تتغير آلية انتخاب رئيس الجمهورية لجعلها انتخاب مباشر من قبل الشعب وليس من قبل البرلمان، لكيلا يتمكن رئيس الوزراء القادم ـن يكون دكتاتورًا بسبب الصلاحيات الواسعة له. ومن المفيد جدًا أن تضغط القوى الفاعلة على تضمين قانون الأحزاب فقرة تمنع تأسيس الأحزاب على أساس مذهبي أو طائفي أو قومي.
إن ما يتم جعل المعيار الوطني هو الأساس في تشكيل الأحزاب، وهذا يعني أن أكثر من 90% من الأحزاب الحالية لا ينطبق عليها مثل هذا التشريع. إن العراق الآن بأمس الحاجة لتدخل القوى الأممية الفاعلة لتغير الحالة المأساوية التي يمر بها، فكما كانت تلك القوى هي السبب الرئيسي للحالة التي وصل إليها العراق، يجب عليها أن تقوم بدورها الأخلاقي لإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح.