يتفق الجميع وبلغة الأرقام أن حزب العمال البريطاني حقق نجاحًا غير مسبوق ومفاجئ في الانتخابات البرلمانية التي جرت الأسبوع الماضي، إذ ظفر بفوز كاسح واقتنص 412 مقعدًا بما يمثل نحو 63%، استطاع من خلالها أن يعبد الطريق نحو تشكيل الحكومة بأريحية كاملة، منهيًا 14 عامًا من هيمنة المحافظين على السلطة.
لكن رغم هذا الاكتساح الذي لم يتوقعه أكثر المتفائلين عماليًا، فإنه لم يمر دون خسائر كبيرة، دفع ثمنها الحزب عددًا من المقاعد التي كان الفوز بها مضمونًا وبشكل مطلق، كونها معاقل تقليدية للعماليين، وكانت حرب غزة كلمة السر في هذا الثمن الذي يراه البعض باهظًا على المستوى السياسي.
حيث أطاح 4 مسلمين مستقلين بقامات عمالية لها وزنها السياسي داخل معاقلها الانتخابية، ونجحوا في حجز مقاعدهم داخل البرلمان، مرتكزين في حملتهم على دعم غزة والتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي أثار حفيظة واستفزاز نخبة الحزب التي بررت هذا الفوز بـ”التصويت الطائفي” في محاولة لطمس حقيقة تراجع حصة العماليين من أصوات الناخبين التي لم تتعد 34% فقط.
قد يرى البعض في المقاعد الأربعة التي حصل عليها مستقلون مسلمون داعمون لغزة رقمًا ضئيلًا قياسًا بالـ650 مقعدًا في مجلس العموم، لكنه تحول لافت سياسيًا يعكس عددًا من الدلالات والرسائل التي يتوقع أن يكون لها انعكاساتها على الخريطة السياسية البريطانية خلال المرحلة المقبلة، وهو ما سيضعه حزب العمال على قائمة أولوياته في ولايته الجديدة.
المسلمون المستقلون الأربعة.. من هم؟
شوكت آدم (51 عامًا)..استطاع طبيب العيون ذو الجذور الهندية أن يفوز بالمقعد البرلماني الصعب في مدينة ليستر ساوث، بعدما أطاح بوزير الظل في مكتب مجلس الوزراء جوناثان أشوورث، وأحد أبرز الداعمين للقضية الفلسطينية، فبعد فوزه في الانتخابات رفع الكوفية الفلسطينية قائلًا “هذا من أجل شعب غزة”.
كثيرًا ما انتقد آدم موقف حزب العمال إزاء الحرب في غزة ودعمه لدولة الاحتلال، قائلًا: “القضية الفلسطينية قريبة جدًا من قلب المجتمع، ولكن عندما احتاجوا إلى صوت عالٍ وواضح ومميز، كان ذلك مفقودًا”، ولم تكن القضية الفلسطينية قضيته الانتخابية الوحيدة، فهناك قضايا أخرى أولى لها اهتمامًا كبيرًا منها الدفاع عن السلام والعدالة العالميين، وحماية هيئة الخدمات الصحية الوطنية، ودعم الإسكان الميسر ومعالجة أزمة تكلفة المعيشة.
عدنان حسين (34 عامًا).. أطاح المحامي صغير السن بمرشح حزب العمال في بلاكبيرن، وزير الداخلية السابق، جاك سترو، وإن كان بفارق صغير (132 صوتًا فقط)، وعقب الفوز قال: “هذا من أجل غزة. لا أستطيع أن أنكر أنني أقف هنا نتيجة تصويت احتجاجي على خلفية الإبادة الجماعية”، وقال في بيان على الإنترنت: “أعد بأن أجعل مخاوفكم ضد الظلم الذي يتعرض له شعب غزة مسموعة في الأماكن التي فشل فيها من يسمّون بممثلينا”.
واعتمد حسين – المعروف دعمه السابق للقضية الفلسطينية – في حملته الانتخابية على دعم أعضاء المجالس المحلية الذين استقالوا من حزب العمل احتجاجًا على رد فعل الحزب على الصراع بين “إسرائيل” وحماس، كما تعهد بمساعدة الشركات الصغيرة والمؤسسات في المدينة لخلق فرص أكبر للشباب، وبالتالي تشجيع الناس على البقاء في بلاكبيرن، وعن دعم الفئات الأكثر ضعفًا.
يذكر أنه في عام 2014 وصف حسين العملية العسكرية الإسرائيلية ضد غزة بأنها “محرقة”، داعيًا إلى مقاطعة الشركات التي تدعم الكيان المحتل قائلًا “لقد تركوا غزة تحترق، وهم يكرهون غزة. الآن دعونا نجعل إسرائيل تحترق، دعونا نجعل إسرائيل تحترق” حسبما ذكرت صحيفة “صنداي تلغراف”.
إقبال حسين محمد.. استطاع المهندس في مجال تكنولوجيا المعلومات، والداعم للقضية الفلسطينية بقوة، ذو الأصول الهندية، في هزيمة المستشارة العمالية السابقة هيدز إقبال، بفارق 7 آلاف صوت تقريبًا، إذ حصل على 15641 صوتًا (بنسبة 41.1% من إجمالي عدد الأصوات) بينما حصلت المرشحة العمالية على 8707 أصوات (بنسبة 22.9% من الأصوات).
وبعد فوزه في الانتخابات وجه إقبال رسالة إلى حكومة العمال دعاها فيها إلى التخلي عن العقلية السياسية العنصرية التي تتبناها بريطانيا بشأن جرائم الحرب في غزة، والعمل بإنسانية لدعم القضية الفلسطينية ومحاسبة “إسرائيل”.
وأشار البرلماني المسلم إلى أن تركيزه الأولي سيكون “القتال من أجل وقف إطلاق النار واتفاق السلام على أساس دولتين في غزة، ومعالجة أزمة تكلفة المعيشة، والقتال من أجل إنقاذ هيئة الخدمات الصحية الوطنية ومستشفى ديوسبري، وتمويل جميع الخدمات الأساسية، وتجديد المدينة”.
أيوب خان.. نجح المحامي الداعم لغزة في إنهاء احتكار النائب العمالي خالد محمود، أول نائب مسلم في بريطانيا، لمقعد برمنغهام الذي يهيمن عليه منذ عام 2011 ، وكان قد تعرض لانتقادات حادة العام الماضي بعد نشر مقطع فيديو على منصة “تيك توك” شكك فيه بمصداقية بعض الروايات عن عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومزاعم الاحتلال بشأن ما قيل إنها جرائم ارتكبتها حماس، بما في ذلك قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب.
وكان خان قد استقال من حزب الديمقراطيين الأحرار بسبب صمته إزاء ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة، فيما كتب موقعه الإلكتروني أنه “سيترشح كمستقل بعد إحجام حزبه السياسي السابق عن إسكات صوته بشأن موضوع غزة”، هذا بخلاف ملفات أخرى وضعها كأولويات انتخابية له مثل كلفة المعيشة والبطالة والخدمات الصحية والسلوك المعادي للمجتمع.
التصويت لم يكن طائفيًا
حاول العماليون وأنصارهم تبرير خسارة المقاعد الأربع التي فاز بها المسلمون المستقلون الداعمون لغزة بشماعة “التصويت الطائفي”، بحسب وصف الصحفي ستيفن بولارد، في إشارة إلى تصويت المسلمين للمرشحين المنتمين للديانة الإسلامية، وهو المبرر الذي رفضه وانتقده البرلماني الفائز شوكت آدم الذي أطاح بعضو حكومة الظل جوناثان أشوورث.
ووصف آدم تصويت البريطانيين للنواب الأربع بأنه ممارسة لحقوقهم الديمقراطية في الأمور التي تهمهم، مضيفًا في حديثه إلى “الأوبزرفر”: “هذا مجرد مثال آخر على ذلك، عندما يُنظر إلى مشاركة الأقليات أو مشاركة المسلمين في النظام السياسي على أنها تهديد لسبب ما، في حين أن كل ما يفعلونه هو ممارسة حقهم الديمقراطي وكونهم جزءًا من العملية الديمقراطية”.
ويستدل أنصار هذا الرأي على عدم فوز كل المرشحين المستقلين المسلمين في الدوائر التي بها أغلبية مسلمة، إذ كان بإمكانهم الفوز بأريحية إذا حصلوا على أصوات المسلمين في تلك الولايات، غير أن الأصوات انقسمت بين المحافظين والعماليين والخضر وآخرين لم يشاركوا في العملية الانتخابية بالأساس.
وهناك نماذج عدة تبرهن على تلك السردية منها فشل المستقلة المسلمة الداعمة لغزة، ليان محمد، في الفوز على وزير الصحة بحكومة الظل، ويس ستريتنج، في فورد نورث، حيث يشكل المسلمون في تلك الولاية ربع عدد الناخبين، وكان بإمكان ليان لو حصلت على تلك النسبة الفوز بأريحية كاملة، وهو ما لم يحدث، إذ صوت البعض للعمال وآخرين لم يصوتوا، وبالتبعية صوت غير مسلمين للمرشحة المسلمة.
ومما يستبعد فرضية التصويت الطائفي فوز زعيم حزب العمال السابق، غير المسلم، جيرمي كوربين، المخضرم الذي قاد حزب العمال من عام 2015 إلى 2020، على منافسه عضو الحزب، برافول نارغوند، رغم الحملة الممنهجة التي تعرض لها بسبب دعمه لغزة، حيث اتهمه زعيم العمال الحالي، كير ستارمر، بـ”معاداة السامية” وأمر بإجراء تحقيق داخل الحزب بشأن هذا الاتهام في محاولة لاستمالة اللوبي اليهودي في بريطانيا.
“العمال” يدفع ثمن دعمه للاحتلال
قبل انطلاق الماراثون الانتخابي، كانت كل المؤشرات تذهب باتجاه تصويت المسلمين في بريطانيا لصالح حزب العمال ومرشحيه، كونه الحزب الأقرب أيديولوجيًا للفكر المناهض للاستعمار والداعم لحركات التحرر والاستقلال، وكان من أبرز الأحزاب الداعمة للقضية الفلسطينية، في مقابل “المحافظين” الداعمين للعدوان الإسرائيلي على غزة.
لكن فوجئ مسلمو بريطانيا في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بتصريحات صادمة لزعيم العمال، كير ستارمر، حين سألته قناة “LBC” البريطانية عما إذا كان يرى أن “إسرائيل على حق في قطع المياه والكهرباء عن غزة”، ليجيب بأن لها الحق في ذلك، وهي التصريحات التي أثارت انتقادات شديدة من الشارع البريطاني لا سيما المسلمين.
وبالكشف عن وجه العمال الجديد إزاء الفلسطينيين، بدأ المسلمون في بريطانيا يعيدون النظر في خريطة التصويت، التي تأرجحت بين المستقلين الداعمين للقضية الفلسطينية من جانب، وبعض المسلمين المنتمين للعمال لكنهم ذوو شعبية وثقل سياسي كبير من جانب آخر، فيما ارتأى آخرون الارتكان إلى عدم المشاركة.
وتشير التقديرات إلى أن عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب تراجعت بواقع 10 نقاط في المتوسط بالمناطق التي يشكل فيها المسلمون أكثر من 10% من السكان، وفق وكالة “رويترز” في رسالة سياسية مباشرة تعكس تأثير التوجه السياسي الجديد للحزب على كتلته التصويتية المضمونة تقليديًا.
ووصفت وكالة “بلومبرغ” الأمريكية في تقرير لها خسارة العمال لبعض المقاعد بـ”الصادمة” كونها معاقل تقليدية للحزب، لافتة إلى أن السبب الأساسي لخسارتهم موقفهم من غزة، ومن أبرز الخاسرين وزير في حكومة الظل العمالية جوناثان أشوورث، الذي خسر مقعده في دائرة ليسستر ساوث لصالح المرشح المستقل إقبال حسين الداعم لغزة.
ليست هذه المرة الأولى التي يدفع فيها العمال ثمن دعمه للكيان المحتل، ففي الانتخابات المحلية التي جرت في المملكة مايو/أيار الماضي تراجع تأييد الحزب بنحو 20% في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، حينها خرج زعيم الحزب ستارمر ليقول إنه استمع للمعارضين لحزبه والذين لم يصوتوا له وأنه سيعمل على معالجة مخاوفهم.
ويتأرجح موقف مسلمي بريطانيا من حزب العمال تاريخيًا تبعًا لموقف الحزب من القضايا العربية والإسلامية، إذ تشير التقديرات إلى تراجع دعم المسلمين في المملكة للحزب من 75% عام 2001 إلى 38% عام 2004 بعد دعم رئيس وزراء بريطانيا العمالي الأسبق، توني بلير، للحرب على العراق.
ثم عاودت نسبة الدعم في الصعود مرة أخرى بحلول 2015 لتصل إلى 64% بعد إعادة نظر الحزب لمواقفه وسياساته إزاء القضايا التي تهم المسلمين، لتبلغ ذروتها في عهد جيريمي كوربين حين تولى رئاسة الحزب بين عامي 2015 – 2020 حيث وصلت حينها إلى أكثر من 80%، وذلك قبل أن تتراجع مع قدوم ستارمر الداعم لدولة الاحتلال.
ماذا يعني ذلك؟
كشف فوز المستقلين المسلمين الأربعة أمام قامات العمال وفي معاقلها التصويتية في الانتخابات البريطانية عن عدد من المؤشرات والدلالات تبعث في النهاية برسالة واضحة مباشرة للحكومة العمالية الجديدة:
– أصبح لداعمي غزة ثقل برلماني نسبي، فبحساب المستقلين المسلمين الأربعة، ومعهم كوربين، يصبح العدد 5 نواب (هذا بخلاف 21 نائبًا مسلمًا آخرين في البرلمان البريطاني) أي أكثر من الثقل البرلماني للحزب اليميني البريطاني المتطرف (الإصلاح – بريكست) برئاسة بول نايجل فاراج، الذي فاز حزبه بـ4 مقاعد فقط.
– تتمتع غزة والقضية الفلسطينية عمومًا بحضور كبير لدى الشارع البريطاني، ويمكنها وحدها أن تكون نواة انتخابية قوية يُبنى عليها لحسم المعارك الصعبة والمعقدة، وهو ما لم يكن – بهذه الكيفية – في السابق، ويعود الفضل في ذلك للطوفان والمقاومة وثبوت الغزيين.
– رغم الاندماج الكبير لمسلمي بريطانيا في المجتمع الغربي لكن هذا لم يسلخهم بالكلية عن قضاياهم الفكرية والعقدية والسياسية والإنسانية المصيرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية ومن قبلها القضية العراقية، وذلك رغم مساعي ومخططات التهميش والطمس والتغريب الممارسة بحقهم.
– تكمن أهمية ما شهدته الساحة السياسية البريطانية خلال الانتخابات في بث روح الإيمان واليقين لدى مسلمي بريطانيا بثقلهم وإمكانية لعب دور مؤثر في الخريطة السياسية في المملكة إذا توحدت الرؤى والمواقف، ما يعني أن ما حدث يمكن أن يكون أرضية يُبنى عليها مستقبلًا، بما يحقق مصالح المسلمين ويمنحهم مكاسب عدة خلال المرحلة المقبلة سواء في بريطانيا أم في بلدان أوروبا بصفة عامة.
وتبقى في النهاية الرسالة الأبرز والتي بعث بها المصوتون للنواب الأربع، من المسلمين وغير المسلمين، والموجهة لحزب العمال وحكومته، بشأن ضرورة تغيير سياستها وسياسة الحزب تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة.. فهل يقرأ ستارمر الرسالة جيدًا قبل فوات الأوان؟