من السهل أن تعرف متى تكون مرتبطًا بشخص ما وإلى مدىً ترتبط به فقط من خلال تفكيرك بكيف ستشعر في حال كنتَ بعيدًا عن ذلك الشخص، أو في حال افترقتَ عنه، فيمكنك لحظتها وضع مشاعرك في كلماتٍ ووصف عواطفك. ومع ذلك؛ إلّا أنّ معظم الأبحاث التي تهدف لدراسة الارتباط تركّز على الرضَع والأطفال الصغار، إذ يتم من خلالها ملاحظة ردود أفعالهم وتصرفاته في حال ابتعاد أمهم عنهم.
وبذكر الارتباط وعلاقة الطفل بوالديه في المراحل المبكّرة من العمر وأثر ذلك على المراحل المتقدمة، يُذكر اسم عالمة النفس الأمريكية ماري أينسورث، التي يُعتبر اسمها واحدًا من ألمع أسماء الباحثين في مجال علم نفس الطفل وتطوّره، لا سيّما مع عالم النفس البريطاني “جون بولبي”، إذ عملا جنبًا إلى جنب لدراسة سلوكيات الأطفال في صغرهم، وأثر علاقة الأمهات بهم.
مبدئًا، كان بولبي يعتبرُ أنّ القرب الجسمانيّ أو الفيزيائي بين الطفل وأمه في الفترة ما بين الشهر السادس وحتى العامين، تعوّل كثيرًا على طبيعة نظرة الطفل للعالم من حوله. ففي اللحظة التي يختبر الطفل قربه من أمه ويجده آمنًا، فإنه سيكتسب الشجاعة اللازمة التي تجعله مستعدًا لاستكشاف بيئته بعيدًا عن أمه، وسيكون مطمئنًا لوجودها حتى في حال ابتعدت أو غاب عنها. إذن فالتحوّل الرائع بين السعي نحو القرب من الأم إلى الابتعاد نحو استقلالية الذات عند الطفل هو جوهر نظرية الارتباط.
وبكلماتٍ أخرى، عندما يكون ارتباط الطفل بأمه آمنًا بشكلٍ دائم، يصبح الطفل مطمئًا وواثقًا أنّ أيّ ابتعادٍ عن الأمّ وجوارها في مرحلةٍ ما لن يشكّل خطرًا على قربه منها أو ارتباطه بها وعلى العاطفة الناتجة عن ذلك الارتباط، فالقاعدة الآمنة توفّر له راحة الاستكشاف وراحة الدنوّ متى ما أراد.
صممت أينسورث تجربتها الشهيرة “الوضع الغريب”، حيث حاولت دراسة ردود أفعال الأطفال المشاركين في التجربة عندما تتركهم أمهاتهم لفترة وجيزة في غرفةٍ غير مألوفة
وعلى الرغم من أهمية ما قدّمه بولبي، إلّا أنّ تلك النظرية لم تكلّل بالتقدم إلا حين عمل بولبي مع ماري أينسورث بعد انتقالها للعيش في لندن، حيث قاما بعدّة تجارب ودراسات حول علاقات الأطفال والأمهات الرضّع، ولاحقًا قررت إجراء بعض الأبحاث الشبيهة في أوغندا، لتستطيع تطوير النظرية بشكلٍ أفضل.
بعد عودتها إلى الولايات المتحدة للتدريس في جامعة جون هوبكنز، بدأت العمل على إنشاء تقييم لقياس الارتباط ونوعيته بين الأمهات والأطفال، وهنا صممت تجربتها الشهيرة “الوضع الغريب”، حيث حاولت دراسة ردود أفعال الأطفال المشاركين في التجربة عندما تتركهم أمهاتهم لفترة وجيزة في غرفةٍ غير مألوفة، أي الغرفة المخصصة للتجربة، ومن خلال الطريقة التي يتصرف بها الطفل ما بين لحظة انفصال الأم وعودتها، استطاعت ماري وضع عدة فرضيات حول طبيعة الارتباط العاطفيّ بين الطفل وأمه.
باختصارٍ شديد، تمّ إعداد التجربة في غرفةٍ صغيرة بواجهة زجاجية واحدة تمكّن الباحثين من ملاحظة سلوك الأطفال الذين تراوحت أعمارهم ما بين 12 و18 شهرًا. وتمت مراقبة سلوك كلّ طفلٍ على حدة في ثمان حلقات استغرقت الواحدة منها ما يقارب الثلاث دقائق على النحو الآتي:
(1) الأم والطفل والباحث في الغرفة
(2) الأم والطفل لوحدهما
(3) ينضم شخص غريب إلى الأم والرضيع.
(4) تخرج الأم من الغرفة وتترك طفلها مع الغريب
(5) تعود الأم ويخرج الغريب
(6) تخرج الأم. الرضيع يبقى لوحده كليًّا.
(7) يعود الغريب.
(8) تعود الأم ويخرج الغريب.
تجربة “الوضع الغريب”
لاحظت ماري عدة سلوكيات يأتي بها الأطفال في كلّ مرحلة من المراحل، مثل التنقل في جميع أنحاء الغرفة، أو اللعب بالألعاب دون اكتراث، أو اتباع الأم إلى الباب، والبدء بالبكاء فور خروجها، واستمرار الطرق على الباب والإشارة إليه، أو الذهاب إلى كرسيّ الأم الفارغ والنظر إليه مطوّلًا إما ببكاء أو بحيرةٍ وخوف، أو عدم الانتباه لخروج الأم أساسًا والاستمرار باللعب بالألعاب وكأنّ شيئًا لم يحدث.
هناك ثلاثة أنماط رئيسية للارتباط العاطفيّ: آمن، تجنبيّ ، وقلق. واقترحت ماري أنّ نمط ارتباط الطفل بأبويه له القدرة العالية على التنبو بتطوره العاطفي في مراحلة حياته اللاحقة
واستناداً إلى ملاحظاتها وأبحاثها، خلصت أينسورث إلى أنّ هناك ثلاثة أنماط رئيسية للارتباط العاطفيّ: آمن، تجنبيّ ، وقلق. واقترحت أنّ نمط ارتباط الطفل بأبويه له القدرة العالية على التنبو بتطوره العاطفي في مراحلة حياته اللاحقة، مؤكدة على أنّ كيفية ونتائج ذلك التطوّر ليس نتاجًا لجينات الطفل ومحدداته الوراثية بقدر ما هي نتاجٌ لتاريخ ارتباط الطفل بوالديه وتفاعلهما معه بدءًا من الولادة ومرورًا بمراحل نموه.
وفقًا لاينسورث، هنالك ثلاثة أنماط أساسية للارتباط، الارتباط الآمن “secure attachment” حيث تكون علاقة الطفل بأبويه متزنةً ومستقرة بشكلٍ منظم، يلجأ إليهما متى ما احتاج إليهما فيجدهما أمامه. والارتباط القَلِق “anxious attachment” حيث تكون العلاقة مضطربة يحضر فيها الارتباط حينًا ويغيب أحيانًا أخرى، دون أنْ يحكم علاقة الطفل بأبويه استقرار عاطفيّ واستجابات مفهومة ومتوقعة. أما في الارتباط التجنّبي “avoidant attachment“، يغيب الوالدين أو الأم عن دائرة العلاقة التي تتسم بكونها باردة جافة، فيكونان عاجزيْن عن مدّ طفلهما بحاجاته النفسية والعاطفية الأساسية.
ولتوضيح الفكرة أكثر، فالارتباط الآمن للطفل بوالديه يعمل على تكوين قاعدة آمنة وراسخة يستطيع الطفل من خلالها تنمية فضوله واعتماده على ذاته واستقلاليته وبالتالي يصبح أكثر قدرة وكفاءة على التكيف مع العالم الخارجي بما فيه من مواقف وعلاقات وما يتبعها من صعوبات أو تحديات.
وعلى النقيض من ذلك، فالأطفال الذين يرتبطون ارتباطًا قلقًا أو تجنبيًّا بوالديهم، قد يجدون صعوبة في التعامل مع الآخرين، نظرًا لغياب الثقة في علاقتهم مع والديهم، مصدر الرعاية والثقة الأساسيّ في الحياة، وبالتالي ينعكس غياب الثقة ذلك على علاقتهم بمن حولهم من أصدقاء أو زملاء أو حتى على العلاقات العاطفية والحميمية.
ملاحظاتها قد ألهمت مجموعة هائلة من الأبحاث فيما بعد، فلا تزال مصطلحاتها التي استخدمتها لتصف أنماط الارتباط يمكن إسقاطها على العلاقات الرومانسية بين البالغين، أو حتى بين الطفل وأصدقائه ومعلماته في رياض الأطفال
كما أنّ نوعيْ الارتباط غير الآمن قد يخلقان طفلًا خجولًا أو منطويًا لا يعرف كيف يتعامل مع من حوله، قد يخاف من الارتباط بهم لكنه يظلّ بحاجة لوجودهم، أو قد يميل للهرب من أيّ ارتباطات في حال تكوّنت، نظرًا لغياب الأم أو كلا الوالدين من الصورة في مراحل النموّ الأولى، ما يجعل الطفل يشعر بأنّه غير مكتفٍ أو غير مستحقٍ للعاطفة والعلاقة.
وفي حين أنّ ما قدّمته أينسورث لم يمرّ دون جدل وخلاف، فالعديد من علماء النفس عارضوها في عدة نقاط، مثل المدى الذي قد يؤثّر فيه الارتباط العاطفي بالطفولة على السلوك اللاحق في مراحل الحياة، أو حول عدم ثبات نمط الارتباط وإمكانية تغييره تبعًا للظروف والعوامل البيئية المحيطة بالأم وطفلها، إلا أنّ ملاحظاتها قد ألهمت مجموعة هائلة من الأبحاث فيما بعد، فلا تزال مصطلحاتها التي استخدمتها لتصف أنماط الارتباط يمكن إسقاطها على العلاقات الرومانسية بين البالغين، أو حتى بين الطفل وأصدقائه ومعلماته في رياض الأطفال.