رغم أن الحركة الطلابية العربية بدأت بكتابة تاريخ بصبغة سياسية في 9 من مارس 1932، أو ما أصبح يسميه التاريخ “معركة استقلال الجامعات”، فإن اليمن كان يعاني خلال تلك الفترة الزمنية من الفقر والتخلف بسبب هشاشة الدولة حينها وتمزق اليمن إلى سلطنات تزيد على 17 دولة في البلد الذي كان مجزأ ولا يعرف التعليم الحقيقي، حيث انشغلت السلطات بالسطو المسلح على قبائل أخرى.
ولم تكن هناك دولة بالمعنى الصحيح تعمل على تأسيس البنية التحتية والمقومات الأساسية للدولة يتمثل ذلك ببناء المدارس والمستشفيات وشق الطرقات، لذا غابت عن اليمن حينها الحركة الطلابية قبل الاحتلال وبعده، حتى عند الاستقلال.
لم يكن حينها لليمني حق التعليم أو العيش الكريم، وكان ذلك محصورًا فقط في جنوب اليمن لأبناء كبير السلطنة أو المشائخ، وفي شمال اليمن، كان مسموح فقط للإمام أو السيد الذي كان يحكمه، وتسعى مليشيا الحوثي إلى إعادة وتكريس ذلك النظام حاليًا على اليمنيين، وترسيخ مبدأ السادة والعبيد.
قال المتخوفون من الغد، إن هؤلاء الطلاب يريدون أن يتحرروا من الصلاة والصيام، وقال الآملون في المستقبل: لعل هؤلاء الفتيان والصبيان مفاتيح المستقبل النهائي
تأثير الطلاب في الحياة السياسية
كانت الإمامة ترفض فكرة أن تعمم التعليم في عموم الجمهورية العربية حينها، لأن تعليم الشعب وتوعيته سيكون سببًا في انهيار حكمها بحسب وجهة نظرها، إلا أنه كان هناك إصرار من الأسر الغنية أو القريبة من الحكم في اليمن على تعميم التعليم ولو بمناطق محدودة، بعدها استطاعت إقناع الملكية في اليمن بإنشاء مدرسة في صنعاء، وأخرى في تعز، ومن نوعين من التعليم.
وبعد سنوات من فتح مدارس محدودة في صنعاء وتعز، اندلعت ثورة سبتمبر في اليمن عام 1962، بعد أن استطاع مجموعة من الطلاب توعية أغلب البيوت الريفية وعمال مصانع الغزل والنسيج وعمال المطاعم والفنادق.
مظاهرات ثورة سبتمبر في اليمن
في المظاهرة الطلابية التي اتقدت في يونيو عام 1962، ترددت عدة حكايات ومفاهيم عن الشباب، وعما يحملون من مواعيد، قال المتخوفون من الغد، إن هؤلاء الطلاب يريدون أن يتحرروا من الصلاة والصيام، وقال الآملون في المستقبل: لعل هؤلاء الفتيان والصبيان مفاتيح المستقبل النهائي. وقال الذين يصنفون بلا انتماء: “الشباب شعبة من الجنون، هؤلاء أبناؤنا يريدون أن يعلمونا”.
كان طلاب الثانوية المتوسطة ودار المعلمين والتحضيرية بصنعاء وطلاب المدرسة الأحمدية بتعز والمتوسطة بحجة والحديدة من طبقتين متقاربتين: من صغار الموظفين ومن أبناء الباعة وأصحاب الحرف
فقد أثارت تلك المظاهرة أفكارًا وتساؤلات مبعثها كلها الاستغراب والأمل لأن تلك المظاهرة ضمت في جموعها أفواجًا من غير الطلاب، فتحولت من طلابية إلى شعبية مكتسحة حاولت اقتحام الكلية الحربية التي تم تأسيسها بعنصرية خالصة، وأرادت اكتساح الإذاعة وبرهنت على أنها تمثل إرادة الشعب وتصطخب باسمه على مدى ست ساعات، وبعد ثلاثة أشهر من تلك التظاهرة انفجرت ثورة الـ26 من سبتمبر كاستجابة لذلك النداء الذي أطلقته المظاهرة الطلابية في صميم الشعب.
وبعد خمس سنوات من قيام الثورة كان للطلاب مواقف نسجت مواقف وأخبار تشبه المواقف والأخبار التي أثارتها المظاهرة الطلابية التي كانت خيوط فجر الثورة، إذ تحدث كثير من المحاربين الإماميين عن أولئك الصبيان الذي تسموا بالمقاومة الشعبية وقاتلوا في عدة جبهات.
قال أحد المحاربين المعاديين: “هؤلاء الصغار يطمعوننا في أسلحتهم، وعندما نقترب منهم نجدهم أشجع المحاربين مع أن بعضهم أقصر من بندقيته”، وقال محارب آخر: “خسرت عشرين مقاتلًا أطمعتهم بنادق المقاتلين الصغار”، وقال ثالث ورابع ما قاله الأول والثاني، لأن الطلاب الذين تظاهروا في 1962 هم الذين شكلوا المقاومة الشعبية إلى جانب عمال مصنع الغزل والمطاعم في أواخر 1967 وبداية 1968، فكما أثارت مظاهراتهم العجب، أهاجت مقاومتهم التعجب، ولم يكن هذا غريبًا، فقد كانت المظاهرة والمقاومة نتيجة للتحولات الثورية في الحياة الطلابية مطلع الخمسينيات.
كان الطلاب في مطلع الخمسينيات من طبقتين، غالبية طلاب دار العلوم من أبناء الموظفين الكبار ومن البيوت العالية التي تليها، وكان طلاب الثانوية المتوسطة ودار المعلمين والتحضيرية بصنعاء وطلاب المدرسة الأحمدية بتعز والمتوسطة بحجة والحديدة من طبقتين متقاربتين: من صغار الموظفين ومن أبناء الباعة وأصحاب الحرف.
هؤلاء الطلاب الذين تظاهروا عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، تحولوا إلى طلاب كليات عسكرية وأمنية ثم كانوا الثوار
وكان التمايز بين طلاب دار العلوم والمدارس الأخرى التي كانت بشكل “معلمة” وليست كالمدارس الحاليّة متطورة، واضحًا، لأن طلاب دار العلوم كانوا يدرسون منهجًا يرشحهم للمحاكم الشرعية أو للتدريس بنفس الدار أو إدارة المناطق وما يدنو من تلك الوظائف أو يعلو، على حين كان يتخرج الطلاب الآخرون في صنعاء وتعز إلى أعمال دونية كوظيفة اللاسلكي أو كمعلمين أو كتبة في الدوائر العسكرية والمدنية.
أبرز وجوه الحركة الطلابية تاريخيًا
لم يذكر مؤلفو التاريخ شخصيات من الطلاب الثائرين في اليمن، ولو الشيء اليسير، لكن بعد تنقيب مضنٍ، وجدنا أن اللواء يحيى المتوكل كان أحد أفراد الحركة الطلابية.
يقول المتوكل في حديث مطول معه تناول سيرته إنه نشأ في بيئة غريبة، إذ كان معظم الرجال من سكان المدينة يعملون في مدن أخرى، إما جنود أو موظفون أو عمال، ولم يكن يعيش في المدينة إلا الأطفال والنساء والشيوخ، وأول علاقته بالتعليم كانت في أحد كتاتيب مدينته شهارة، واقتصر التعليم في ذلك الكتّاب كعادة كل الكتاتيب، على قراءة القرآن وتعلّم مبادئ الدين، وحين بلغ الثامنة من عمره انتقل إلى مدينة “المحايثة” التي كان يعمل فيها والده.
ذهب يحيى مع أخيه الأكبر محمد إلى صنعاء عام 1954، حيث انتسب فيها إلى المدرسة التحضيرية، وقد وجد ضالته في المدرسة من خلال النقاشات التي كان يجريها المدرسون المصريون فيما بينهم ومع تلامذتهم، وكانت نقاشات ترمي إلى الانطلاق نحو العلوم الحديثة التي كان ينشد يحيى الوصول إلى امتلاكها.
عام 1957 انتقل إلى المدرسة الثانوية، (ولم يكن لينتقل إليها، لولا أن والده كان حاكمًا شرعيًا ومن المقربين إلى الحكم)، وفى تلك المدرسة بدأت تتكون اهتماماته العامة بالتدريج، وكان يساعده في ذلك اختلاطه بالطلاب المتقدمين عليه في السن والدراسة.
بعد الثورة السبتمبرية في اليمن، تم إنشاء المدارس وتخصيص المراحل الدراسية وانتشر التعليم في عموم اليمن، وكانت الحركات الطلابية، فقط تنادي إلى تحسين التعليم، وليس لها علاقة بالسياسة
كان أولئك الطلاب يناقشون فيما بينهم كل ما كان يتصل بالقضايا العامة في اليمن وسائر البلدان العربية، لا سيما ما كان يجري في مصر من أحداث وتحولات كبرى، وكان أهم حدث بالنسبة إليه وإليهم في تلك المرحلة هو العدوان الثلاثي على مصر، حيث شارك المتوكل في أول مظاهرة احتجاجًا على اعتقال علي عبد الغني الذي صار في مرحلة لاحقة واحدًا من الوجوه الوطنية الأساسية في البلاد، بصفته أحد أهم أركان حركة الضباط الأحرار.
المتوكل طالبًا في بداية ستينيات القرن الماضي
هؤلاء الطلاب الذين تظاهروا عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، تحولوا إلى طلاب كليات عسكرية وأمنية ثم كانوا الثوار، ومن حلوا محلهم في صفوف الثانوية المتوسطة هم طليعة شعب الثورة لأنهم استقبلوا الثورة بالمظاهرات الترحيبية وبالأخص في تعز (وسط اليمن).
أما مظاهرات صنعاء فمنع قيامها حظر التجول في الساعات الأولى من قيام الثورة، ولما تألبت الهجمات الاستعمارية الرجعية على ثورة سبتمبر تلاحقت أفواج الشباب إلى معسكر الثورة؛ فشكلوا يومئذ ما يسمى بالحرس الوطني الذي أسس قواعد الجيش الجمهوري، وجاءت جموعه من كل بيوت الشعب في شطري اليمن.
وعندما استهدف القوات الداعمة للملكية حينها، إسقاط صنعاء في ديسمبر 1967، مستغلًا رحيل المصريين، تحولت كل القوى الشبابية إلى مقاومة شعبية (مليشيا)، وكان في الطليعة طلاب الستينيات الذين وقفوا إلى جانب الثوار الذين كانوا طلابًا، فأظهرت المقاومة الشعبية في حرب السبعين يومًا أنها لا تقل شجاعة وخبرة عن ثوار سبتمبر ورجال الأمن والقبائل المتجمهرة.
في 2011، كان للحراك الطلابي دور بارز في الثورة التي نادت بتغيير نظام الحكم في اليمن، فلأول مرة في تاريخ البلاد، تخرج مظاهرات طلابية تنادي علنًا بإسقاط نظام حاكم
فعلى مدى 20 عامًا، تدفق التيار الطلابي في مجرى الثورة منذ كانت إمكانًا إلى أن صدعت حقيقة إلى أن استنفرت بنيها للذود عنها، فكانوا جوب النداء ومحاصري الحصار في حرب الـ70 يومًا التي تألقت ثورة من الثورة، وأتمت شوط النصر.
الحراك الطلابي اليوم
بعد الثورة السبتمبرية في اليمن، تم إنشاء المدارس وتخصيص المراحل الدراسية وانتشر التعليم في عموم اليمن، وكانت الحركات الطلابية، فقط تنادي إلى تحسين التعليم، وليس لها علاقة بالسياسة، عدى تلك التي كانت في المعاهد العلمية التي أسسها التجمع اليمني للإصلاح التي كانت تنادي بإصلاح الحكم وانتقاد فساد المسؤولين.
لكن في 2011، كان للحراك الطلابي دور بارز في الثورة التي نادت بتغيير نظام الحكم في اليمن، فلأول مرة في تاريخ البلاد، تخرج مظاهرات طلابية تنادي علنًا بإسقاط نظام حاكم.
في 11 من فبراير، بدأت الاحتجاجات من جامعة صنعاء بمظاهرات طلابية وأخرى لنشطاء حقوقيين نادت برحيل صالح وتوجهت إلى السفارة التونسية، رافقها اعتقال عدد من الناشطين والمتظاهرين في 23 من يناير 2011، لكن في الأخير تحقق لهم ما أرادوا عندما وقّع علي عبد الله صالح على وثيقة سياسية تبنتها دول مجلس التعاون الخليجي لإقامة انتخابات رئاسية مبكرة بمرشح وحيد ولعامين فقط.
الحراك الطلابي لم يعد لديه الجرأة لأن يخرج ويضحي ويطالب بالحرية، هذا فيما يخص اليمن، لكن الأمل ما زال قائمًا إذا لم يتم غسل عقول الشباب اليمني بسلاح التعليم الذي يعمل عليه حاليًا الحوثي، نتيجة الطائفية
لكن لم يستطع الحراك الطلابي مواصلة ذلك النشاط بعد انتهاء الجمهورية الأولى بنهاية حقبة صالح، وفشلوا في المحافظة على النشاط الثوري، والحداثة في حركتهم كانت سببًا فيما وصل إليه اليمن اليوم.
فالحركة الطلابية والأحزاب السياسية والنشطاء السياسيون، تحالفوا مع من تظاهروا وقاتلوا ضدهم من أجل الجمهورية في ستينيات القرن الماضي (سلالة الحوثي)، وظنوا أن التعليم والحداثة التي وصل إليها اليمن في زمن الجمهورية، غيرا الإماميين، لكن الحوثيين استغلوا ذلك وانقلبوا على الجمهورية ويسعون حاليًا لإعادة اليمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حينما كان الشعب اليمني مجزأ إلى شرحيتين، السادة والعبيد.
الحراك الطلابي لم يعد لديه الجرأة لأن يخرج ويضحي ويطالب بالحرية، هذا فيما يخص اليمن، لكن الأمل ما زال قائمًا إذا لم يتم غسل عقول الشباب اليمني بسلاح التعليم الذي يعمل عليه حاليًا الحوثي، نتيجة الطائفية.
برز الحراك الطلابي الجامعي اليمني بشكل كبير في ثورة 2011
ولا يبدو أن الحراك الطلابي قد ينجح خلال الفترة القليلة القادمة على إحداث أي تغيير، لأنه ما زالت مآسي بلدان ثورات الربيع العربي، تدوي حتى الآن، فسوريا لم تنه الحرب فيها، وليبيا تغيرت مجريات أمور البلاد وانتهى فيها العيش الرغيد، وفي تونس ومصر أجهضت تلك الثورات بسبب أخطاء الحكام الذين وصلوا إليها، وفي اليمن من ثار الشعب عليهم في ستينيات القرن الماضي عادوا من جديد نتيجة الانفتاح عليهم في 2011، والسماح لهم بالدخول إلى صنعاء، وكانت نتيجة ذلك هو سقوط الجمهورية، تلك الأحداث ولدت انطباعًا شعبيًا وطلابيًا نحو حركات الإسلام السياسي، تردعهم عن التفكير بالحراك مرة أخرى، لكن ذلك قد يعود ثلاثين أو أربعين سنة.
الثورات الحاليّة أو ما بات يعرف بثورات الربيع العربي عجزت عن الاحتفاظ باستمرار حريتها، وذلك لتجدد الشعب الذي تتزايد حاجاته بتكاثر بيوته حتى يتجلى واقعه أبعد من أحلام الثوار
مستقبل الحراك
قد يرى البعض أن الندم في السياسة يجب ما قبله كما قيل في الإسلام، وقد يرى البعض أن أفدح الفوادح هو الجهل، وأن معرفة كل شيء أهدى إلى أحسن الأشياء كما كان يقول أفلاطون إن سبب كل خطأ آت من نقص المعرفة، فإذا قيل له فلان من العارفين، قال “ليس بينه وبين المعرفة قرابة” وهذا أدق إلماح إلى المعرفة ومشاكلة الإنسان بها لكي لا يتحقق الانتفاع بها، كما هو أرهف إشارة إلى غياب المعرفة ووقوع الخطأ بسبب ذلك الغياب.
ليس المهم وجود أنظمة تتآمر ووجود أنظمة تسلح على التآمر فما دام هناك طمع في الاستيلاء، فهناك رغبة في المقاومة ورغبة المقاومة تخلف أدواتها كعادة كل حاجة.
إننا الآن بعد ثورات وقبل ثورات، وهذه النقطة الوسط تفرض علينا تقصي أغوار الثورات محايديين لا ممتدحين، ودارسين غير قادحين، لأن الموضوعية الخالصة هي التي تعطي الدليل.
الشعوب أو الشباب والحركات الطلابية ستبقى وهج التغيير السياسي في الوطن العربي وقادرة على تغيير التاريخ، إذا ما زال الدم العربي أو الحر ينبض في شرايينه
الثورات الحاليّة أو ما بات يعرف بثورات الربيع العربي عجزت عن الاحتفاظ باستمرار حريتها، وذلك لتجدد الشعب الذي تتزايد حاجاته بتكاثر بيوته حتى يتجلى واقعه أبعد من أحلام الثوار.
صحيح أن المؤامرات سمة دائمة، لكن إذا الشعب أراد الحياة يومًا لا بد أن يستجيب القدر، وهذا بمعنى أن الشعوب أو الشباب والحركات الطلابية ستبقى وهج التغيير السياسي في الوطن العربي وقادرة على تغيير التاريخ، إذا ما زال الدم العربي أو الحر ينبض في شرايينه.
لكن في زمن يبدو أن السلطات في كل البلدان العربية عملت على تمييع التعليم حتى لا يستطيع الطالب أن يفكر بالحرية أو يتفكر بما آلت إليه الظروف الصعبة في البلاد، ففي التفكير ما يفسد العيش الهنيء للأنظمة العربية، وقد تتأخر الحركات الطلابية في الانتفاضة من أجل الحرية، وربما قد تنعدم إلا إذا كان هناك مستجدات.