بعد النكبة 1948 واكب الفلسطينيون الفلاحون في القرى المجاورة لغزة العودة لها بشكل شبه يومي لسقايتها وعنايتها وتفقّد زراعتها، يتسلّلون ويتسلسلون لها، انتبه وقتها أرئيل شارون لهذا الذهاب المستمر إلى البلاد، حيث بدأت الحالة تكبر وتتخذ طابعًا إنسانيًا محرجًا للاحتلال الإسرائيلي، فشكل الوحدة 101 لتنفيذ حالة قذرة خارجة عن سياق القانون، تضمنت مهاجمة الفلسطينيين العائدين أو الذاهبين لقراهم التي هجروا منها وقتلهم، حتى انتهت الحالة وتوقفت، هكذا كتب محمود درويش عن الشهيد أحمد الزعتر الذي عاش مترددًا على أرضه بين اللجوء والغربة والعودة المتقطعة قائلًا: “وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد” أي لا تقطعوها بهجرانكم لها، وأسرجوا على حدودها قناديلكم.
أين ذهبت الرواية الأصلية؟
طبيعي ما حصل اليوم، فحين يطول أمد الاحتلال تبدأ الرواية الأصلية بالتقادم، وينشئ الاحتلال روايات فرعية يروجها عبر تجييش مناصريه ومحيطه لروايات، يقلب من خلالها الحقائق ويحول المظلوم إلى ظالم، كما حصل تمامًا في القضية الفلسطينية حين يصوِّر الاحتلال الإسرائيلي المستوطنين بـ”المدنيين” والفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين بـ”الإرهابيين” الذين يقتلون المدنيين.
مسيرات اليوم أعادت الحراك للقيادة، ونقلتها من طور رد الفعل إلى الفعل بحد ذاته
في هذه المرحلة تظهر حاجة الضعيف للمظاهرات السلمية لإعادة الرواية الأصلية إلى الناس من جديد، لا يعني ذلك أن الخيار المسلح مرفوض، بل هو الخيار الذي يغذي الحركات السلمية بعد عودة الرواية الأصلية لأصحاب الأرض والناس.
ليس بالضرورة أن تتطابق نتائج مسيرة العودة الفلسطينية لنتائج مسيرة الملح في الهند أو مسيرة سقوط جدار برلين أو المسيرة الخضراء في المغرب، لكن الضروري أن تعود الرواية الأصلية بفاعليها الجدد للواجهة من جديد، فلسطين القضية المركزية، الأرض على بعد أمتار والعودة.
أين ذهب جيل النكبة؟
تقادَم جيل النكبة الفلسطينية حتى ذهب معظمه، مع هذا التقادم تعايش الجيل الجديد بالوقائع التي تشكلت معه وغابت عنه ارتباطات التاريخ، في الوقت الذي كان عليه أن يعود لمفهوم الصراع، لا أن يعيد مفهوم الاحتلال، وهنا يلزمه مواجهة الاحتلال وإدارة صراعه بأساليب جديدة، ولعل الزخم المحيط بالحدث يعطي الحدث زخمًا أيضًا، غابت حدود القرية والمدينة، حين تعايش الفلسطيني بواقعه الجديد، تأقلم، وقدم أكبر تنازل، وغابت عنه تساؤلات مهمة طرحها أجداده: من أعدم الشبان الثلاثة في سجن عكا؟ من أين جاء عز الدين القسام لأحراش يعبد؟ وكيف قتل مصطفى حافظ؟ كيف حدثت النكبة؟
جاءت المسيرات كاشفة، راهن الجميع على إخمادها بعد قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، جاءت واضحة بحيث لا يستطيع أي رئيس أو زعيم عربي تحمل تبعيات ولائه في الصف المضاد للذاكرة الجمعية للشعوب العربية
عليه أن يعود ليرتبط جذريًا بالأحداث، ومسيرات العودة التي خرجت اليوم جاءت قبل أن تتقادم الجغرافيا كما تقادم التاريخ على الفلسطيني والعربي.
في مشهد اليوم من مسيرات العودة وحّد الغاز الذي ألقته الطائرات الإسرائيلية الجيل الجديد، ونزعت منه حدة الإيديولوجيا الداخلية تجاه نظرته للتفاصيل الحياتية والانقسام السياسي والاجتماعي، إلى منهج الذهاب المستمر نحو بلاده التي شرّد منها، هذا الحدث يخلخل من جديد عقدة الاحتلال الإسرائيلي التي صاحبته على مدار نشأته منذ التكوين حتى الآن، عقدة الشرعية باعتباره ليس مدافعًا عن أرض له، بل معتديًا على من يريد العودة لأرضه.
أين ذهبت فعالية القيادة؟
كان الاحتلال الإسرائيلي يراهن على المرحلة التي تفقد فيها القيادة الفلسطينية فعاليتها، وتفلت من يدها زمام مبادرة الأحداث، وتتشنج في حل الأزمات التي تنشطر عنها كل يوم أزمة جديدة، لكن مسيرات اليوم أعادت الحراك للقيادة، ونقلتها من طور رد الفعل إلى الفعل بحد ذاته.
فالذي يجلس في قائمة الانتظار للأحداث هو الاحتلال الإسرائيلي، وإن تطابق الفعل الشبابي مع الفعل القيادي الفلسطيني سيضع الاحتلال في موضع الضعف من جديد، وهو الذي غذى الانقسامات على طول مسار الصراع الفلسطيني العربي معه، وغذى كل الأقليات في الدول العربية لتنمو بعيدًا عن فعالية القيادة الفلسطينية بمركزية مطالبها نحو التحرر، وظهور أي قيادة جديدة تنطلق من مسار الذهاب المستمر على البلاد سيقضي على آمال الاحتلال الإسرائيلي في أي صفقات دائمة ونهائية يحاول تمريرها للخلاص من الفلسطيني.
سيستمر الحراك إلى أن يتخذ شكلًا أكثر تطورًا، وسينتقل لدول عربية وأوروبية، يحاصر من خلاله الاحتلال الإسرائيلي بشكل كافٍ لأن يتآكل بنفسه أمام أي مواجهة عسكرية قد تفرض عليه تنازلات أو حلول سريعة أو حروب خاطفة يطلب هدنة فورية لها
أين ذهبت المدركات الجمعية العربية؟
السؤال الأخير المطروح في هذا المقال، بعد سنوات الاحتلال الإسرائيلي السبعين هل نجح باعتباره جسمًا مقبولًا في البيئة العربية المحيطة، بعدما حقق تقدمًا في مجالات مختلفة ترابط فيها مع بعض مصالح العرب؟ وهل نجح في تغييب صورة الصراع عن الذاكرة الآنية التي تتشكل للأجيال العربية الجديدة؟
فقضية فلسطين برمزياتها ظلت حاضرة في بيوت العرب من الغرب إلى الشرق، لكنها غابت عن الذاكرة الجمعية الحديثة، وقد جاءت مسيرات الحدود لتعيد تنشيط اللوحات المعلقة لفلسطين والأوشحة المطرزة للكوفية السمراء والكتب المتغبّرة لمحمود درويش في بيوت الشباب العربي، أعادت المسيرات إحيائها من جديد وتطوير فعاليتها، بما يستوجب استجلاب الأدوات الجديدة اللازمة لإحياء هذا الصراع الطويل معها وبحضور المجتمع الدولي.
لا توقفوا الذهاب المستمر إلى البلاد
جاءت المسيرات كاشفة، راهن الجميع على إخمادها بعد قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، جاءت واضحة بحيث لا يستطيع أي رئيس أو زعيم عربي تحمل تبعيات ولائه في الصف المضاد للذاكرة الجمعية للشعوب العربية التي أحيتها المسيرات، ولعل توسع بقعة المسيرات نحو الضفة والداخل والخارج هو إعادة إحياء المدركات الجمعية العربية، من خلال الذهاب الفلسطيني المستمر إلى البلاد.
سيستمر الحراك إلى أن يتخذ شكلًا أكثر تطورًا، وسينتقل لدول عربية وأوروبية، يحاصر من خلاله الاحتلال الإسرائيلي بشكل كاف لأن يتآكل بنفسه أمام أي مواجهة عسكرية قد تفرض عليه تنازلات أو حلول سريعة أو حروب خاطفة يطلب هدنة فورية لها، لكن على المقاتل أولًا أن يعرف كيف ينتقل من سلميته المستمرة وذهابه المستمر نحو الحدود والبلاد إلى شكل الدفاع، وحرب 2012 خير شاهد.
فلا توقفوا الذهاب المستمر إلى البلاد.