بداية شهر يوليو/ حزيران الجاري، انتشرت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك وإكس، تحت عنوان “مبادرة أسر سجناء مصر السياسيين”، وبدأت الصفحة في نشر منشورات تدعو فيها، برجاء وأمل، الدولة المصرية وقيادتها للإفراج عن ذويهم، وهم السجناء على إثر قضايا سياسية، وبدأت أيضًا من أجل إيصال صوتها، في مناشدة جهات رسمية وشخصيات عامة مختلفة لحثّ النظام المصري للالتفات إلى مطالب المبادرة.
فما دوافع هذه المبادرة؟ وهل تنجح في ما فشلت فيه مبادرات وجهات أخرى سبقتها؟
أوضاع السجناء في مصر
أكملت أزمة السجناء السياسيين في مصر 11 عامًا منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013. السجون المصرية، ومن خلال حكي تجارب السجناء، فضلًا عن مئات التقارير والأبحاث والمقالات والمقابلات، هي سجون مميتة، حيث يعيش السجناء سواء السياسيين أو الجنائيين تحت رحمة حياة جحيمية تنظمها سلطة السجن، عبر منهجيات وأدوات وممارسات عقابية شديدة الإذلال، ما تجعل ومع مرور الوقت من أجساد السجناء أجسادًا خشبية مرقمة، لا أجسادًا من لحم ودم، بل تُمحى ذوات هؤلاء السجناء كي يصبحوا مجرّدين من أي ذكريات أو ممارسات خاصة بهم.
هذا الجحيم المعيشي أدّى إلى موت المئات من السجناء، فلا يمضي أي شهر إلا ونشهد حالات وفاة داخل السجون المصرية، بسبب تدهور حالتهم الصحية وعدم توفر العلاج والإسعاف اللازم لهم، فضلًا عن حالات انتحار كثيرة، وقد روى الكثير من المعتقلين السابقين رؤيتهم اتجاه الكثير من السجناء إلى إنهاء حياتهم تفضيلًا على الاستمرار ضمن حياة السجن.
منذ سنوات وإلى الآن، وبعد أن وصل السجناء إلى حالة نفسية شديدة التردي، تشابهت واختلفت طرق سعيهم للخلاص من حياتهم، من خلال شنق أنفسهم، أو تقطيع أجسادهم بأي آلات حادة مهرّبة (ملاعق حديدية، شفرات حلاقة..)، أو حتى أخذ جرعات كبيرة من الأدوية أو رمي أجسادهم من أي مكان عالٍ إن توفر لهم.
في المقابل، تحاول السلطة السجنية منع ومقاومة هذه السبل من خلال المراقبة الشديدة، كما الترهيب عن طريق العقاب والسجن الانفرادي والحرمان من الزيارة وغير ذلك.
كل هذه الظروف وغيرها ليست مقتصرة على السجين وحده، بل يعاني عشرات الآلاف من الأسر ما يعانيه ذويها داخل السجن، إذ أُنهكت الأُسر بسبب زيارات السجون والمحاكم والنيابات والجري في كل مكان وراء سجنائها، والعمل بكل السبل لإخراجهم، فضلًا عن سوء الأحوال المادية لدى هؤلاء الأسر بسبب ارتفاع تكاليف الحياة.
كل هذه الحكايات العامة والخاصة في مآسيها، دفعت أسر السجناء إلى تكوين رابطة لمناشدة النظام لإطلاق سراح ذويهم، للخلاص من القهر الذي يعيشون حياتهم تحت بأسه.
هل سيتجاوب النظام معها؟
هذه ليست المبادرة الأولى التي تدعو وتترجى النظام المصري للإفراج عن السجناء السياسيين، فقد سبقتها عدة محاولات أخرى، بداية من رسائل السجناء ذاتهم، والذين قد طلبوا من عقلاء الدولة التدخل للعفو عنهم وخروجهم من السجن لتكملة مسارات حياتهم بعيدًا عن السياسة ومفرداتها تمامًا، مرورًا بكل مطالبات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية، وصولًا إلى تشكيل الحوار الوطني ولجنة العفو الرئاسي، والتي تسبّبت مساعيها في الإفراج عن قلائل من السجناء في مصر، بالمقابل اعتقال أضعاف أعداد المفرج عنهم.
خلال تلك المحاولات السابقة، كانت ردود فعل النظام تقابَل إما بالتجاهل كما في حال رسائل السجناء، وإما بالاستجابة عبر الإفراج عن بعض الناشطين ذوي الأسماء المشهورة لدى المنظمات الحقوقية ومسؤولي حقوق الإنسان في الهيئات الأوروبية والأممية، أو حتى من خلال الإفراج عن قوائم تضم العشرات من السجناء بعد تقديمها من خلال لجنة العفو الرئاسي إلى الأجهزة الأمنية.
وفي كل مرة تتشكّل ردود فعل النظام من أجل تحقيق أهداف محددة، مثلًا تجاهل النظام كل رسائل السجناء السياسيين، لأن كان أغلبها من سجناء لدى أجهزة الأمن منتمين أو محسوبين على التيارات الإسلامية، والتي لا تنظر إليهم السلطة بأي رحمة أو تعاطف.
أيضًا كانت السلطة تفرج عن أسماء صحفيين أو ناشطين معروفين بهدف تهدئة الانتقادات الدولية لملف حقوق الإنسان في مصر، كنوع من التلاعب والتعاطي مع تصريحات ومطالب الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
ومنذ عامَين تقريبًا، حين بدأت الدولة في الإفراج، بعد موافقة أجهزة الأمن، عن قوائم تضم عشرات السجناء، كان ذلك بهدف تخفيف الاحتقان السياسي، وتجميل الوجه الاستبدادي للسلطة، كما بسبب الضغط الاقتصادي بعد فشل سياسات السلطة في التعامل مع هذا الملف.
هذا بالإضافة إلى جرّ وجوه معارضة، بشكل شكلي، إلى أحضان السلطة كي تشاركها فشلها في كافة الملفات، بجانب تحريك المياه السياسية الراكدة بشكل مزيف أيضًا، قبل دخول الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الرئيس عبد الفتاح السيسي أواخر عام 2023.
أما هذه المبادرة، والتي جاءت تحت ظل ظروف سياسية شديدة القمع والانغلاق، كما ظروف حياتية اقتصادية واجتماعية وثقافية شديدة السوء والرداءة، بدأت بتجميع آلاف التوقيعات من أهالي السجناء للمطالبة بالإفراج عن ذويهم.
كما بدأت بالتواصل مع شخصيات عامة من برلمانيين أو شخصيات تابعة للحوار الوطني أو لجنة العفو الرئاسي، كي يتبنوا مطالبهم ويساعدوا في إيصالها إلى مسؤولي ملفات هؤلاء السجناء لدى الأجهزة السياسية والأمنية، وبالفعل بدأ البعض من هؤلاء الشخصيات، مثل المحامي طارق العوضي والوزير السابق كمال أبو عيطة، في التعاطي وتبني مطالب المبادرة، ومحاولة إيصال مطالبها إلى من لهم اليد في تنفيذها.
إفراج شكلي
لكن ما يُتوقع من خلال عقلية السلطة وأجهزتها الأمنية وتاريخ ممارستهما، أنها لن تستجيب إلى مطالب المبادرة بالإفراج عن السجناء السياسيين، أو حتى النظر بشكل جدّي في قضاياهم، أو ربما وبشكل ضعيف تستجيب السلطة وتفرج عن عشرات من السجناء كل بضعة أشهر طويلة، وبالمقابل تعتقل أضعافهم، ما يجعل هذا الإفراج شكليًا بلا أي معنى واقعي.
أيضًا عدم استجابة السلطة لمطلب خروج السجناء يأتي ضمن عدم حاجة السلطة للإفراج عنهم، فهي لا تتعرض لأي ضغط داخلي من قوى معارضة سياسية تحاول إرضاءها أو التلاعب بها من خلال ملف المعتقلين السياسيين، وهذا بعد أن شهدت الحالة السياسية في مصر موتًا تامًّا بعد فوز الرئيس الحالي بالانتخابات الرئاسية، واعتقال المعارض السياسي الأبرز أحمد الطنطاوي وعشرات من أعضاء حملته وحزبه، حيث كان الأخير ومن معه الأمل السياسي الأخير في الفترة الحالية.
كما في الوقت الحالي، لا تواجه السلطة أي ضغط دولي فيما يخصّ ملف حقوق الإنسان، لا سيما قضايا السجناء السياسيين، إذ ينشغل العالم في الوقت الحالي بما يحدث من حرب إبادة قائمة ضد فلسطينيي غزة، هذا بعد ازدواجية المعايير التي انكشفت من الحكومات الغربية وبعض من المؤسسات الدولية الراعية للقانون الدولي والإنساني تجاه قضايا حقوق الإنسان غير الغربي.
لذا من المستبعد تفاعل السلطة بإيجابية مع مبادرة أسر السجناء، رغم أن انطلاقها مثّل موجة أمل جديدة للسجناء وذويهم في مشوارهم لنيل حريتهم من السجون المصرية المميتة.