انتخب الفرنسيون ورتبوا أمرهم على التعايش العسير داخل الديمقراطية وسينجحون كما نجحوا دومًا في التعايش بين يسار ويمين، فهذه ليست تجربتهم الأولى حيث ينتصر الإجماع السياسي على سلامة البلاد رغم الاختلاف الظاهر في السياسات. الاختلاف الظاهر والاتفاق الباطن على فرنسا قوية واحتلالية أو قوة هيمنة دولية لا يمكنها العيش دون الاستيلاء والسيطرة والتحكم في مستعمراتها القديمة (وقولنا القديمة هو من قبيل التبسيط، ففرنسا لم تخرج من مستعمراتها).
هنا لا يختلف اليمين عن اليسار وشواهد التاريخ كثيرة، إنما نود أن نبدد أوهامًا عربية وخاصة، أوهامًا تروج في بلدان شمال إفريقيا بأن اليسار الفرنسي أقل ميلًا إلى الهيمنة على المستعمرات القديمة من اليمين، وأنه قد يعمل على دعم الديمقراطية في إفريقيا وشمالها بالخصوص، هذه “القد” يروجها عرب متفرنسون أكثر من الفرنسيين، عرب هواهم فرنسي لكنهم لا يقلدون فرنسا في ديمقراطيتها.
شواهد من التاريخ
حكم اليسار فرنسا زمن كانت محتلة لإفريقيا (ثلاثينيات القرن العشرين) ولم يزد دور اليسار في المستعمرات على أن لطف وجه المحتل بهوامش حرية مراقبة بالقوة (لم يفعل ذلك في الجزائر الفرنسية). لم يعلن نهاية الاحتلال طبقًا لخطاب اليسار السائد حينها، ولم ينحز إلى الطبقة العاملة المفقرة في المستعمرات، بل واصلت حكومته نهب الخيرات وقمع الشعوب المحتلة بينما كانت تروج صحفه حينها خطاب العدالة والاشتراكية وحقوق الإنسان.
في فترة الجبهة الشعبية استولت فرنسا على أكثر الأراضي خصوبة في تونس، وطردت سكانها من أجل ترميم اقتصادها الخارج منهكًا من الحرب العالمية الأولى ومن أزمة 29 الاقتصادية، وكل قيادات العمل الوطني في المستعمرات حينها أملت خيرًا وفاوضت على الاستقلال، لكن يسار فرنسا كان فرنسيًا فقط وباع الأوهام لنخب تعشقه ولا تفهمه.
نفس النخب الواهمة لا تزال في مقدمة المشهد السياسي في المستعمرات وهي تزغرد لانتصار اليسار في مواجهة الفاشية اليمينية، وبها أمل أن يساعدها اليسار في إسقاط الديكتاتورية الحاكمة، فهل تعمل هذه النخب على تقليد الفرنسيين في حماية بلدهم وصيانة ديمقراطيتهم؟
لم نر ذلك طيلة القرن العشرين، ونحن الآن نوشك على ربع قرن آخر من الفرجة على الديمقراطية الفرنسية والإعجاب بها يزداد وتقليدها يقل، حتى نصل في كل موعد انتخابي ديمقراطي عندهم إلى الفرح بعدم طرد أبنائنا المهاجرين، وهذا أقصى أمانينا منهم، أن نصدر لهم قوة عاملة ذات خبرة وألا يتم طردها لنغنم التحويلات بالنقد الأجنبي، أما أن تحدث ديمقراطيتهم تعديلًا في التبادل غير المتكافئ، فهذا دونه نخبة لم تولد بعد.
فرنسا نموذج ديمقراطية لأهلها فقط
فرنسا نموذج يتكرر في بقية البلدان الديمقراطية الغربية، شعوب تحكم نفسها بأنظمة مستقرة يجري فيها تبادل السلطة بأيسر الطرق، فتزداد أنظمتهم استقرارًا ويبتكرون أساليب وسياسيات لمزيد من القوة الداخلية، لكنهم يغضون الطرف، بل يتعمدون عدم الانتباه إلى سياسات الاستيلاء على الفائض الاستعماري من إفريقيا وغيرها بمقابل دعم أنظمة غير ديمقراطية بل فاشية معادية للإنسان.
لقد دعموا بن علي في تونس طيلة ربع قرن وعرضوا عليه السلاح والجنود حتى آخر ساعة من حكمه، وهم الأعرف بأنه ديكتاتور ولص فاسد، دعموا عسكر الجزائر في العشرية السوداء ولا يزالون يدعمون الملك المغربي منذ عقود ولا يرونه نظامًا قمعيًا، ويمكن أن نوسع الأمثلة إلى إفريقيا حيث تخطط فرنسا الانقلابات وتنصب العساكر من أجل ضمان مصالحها، وعلى فرنسا نقيس الإنجليز والطليان والبلجيك، ديمقراطيون لشعوبهم احتلاليون لغيرهم بلا خجل، وفوق ذلك يصدرون حقوق الإنسان معلبة ويستوي في ذلك اليمين واليسار.
كيف يستقيم لهم الأمر إذ يتمتعون بالديمقراطية ويصنعون أنظمة تقمع شعوبها؟
ما كان لتلك الديمقراطيات العريقة أن تنجح وتستمر لولا الفائض الاستعماري الذي تنهبه فرنسا وأخواتها من البلدان المفقرة المقموعة، هذا يعري ويفضح تلك الديمقراطيات، لكنه يفضح قبل ذلك النخب المحلية المبهورة بالنموذج الفرنسي وتود أن تعيش فيه ولا تنقله إلى بلدانها فتحد به من القهر والاحتلال وتنقذ ثرواتها وتبني اقتصادياتها.
وجب أن نذكر هنا بالذات أن تلك النخب هي صناعة فرنسية ببرنامج تعليمي مفروض بالقوة وباللغة الفرنسية وعبر مناورات خبيثة يتم بمقتضاها فرز الأنجح ليكون في جامعاتها، فتصنعه على هواها إلا من وعى وما أقلهم، وهنا مرة أخرى يستوي اليسار واليمين الفرنسي/الغربي دون أي شعور بالذنب من تفريغ البلدان من نخبها التقنية والفكرية.
التاريخ الاستعماري الفرنسي مضاف إليه دعم الديكتاتوريات جعل أجر مهندس تونسي حديث التخرج في بلاده 300 يورو على الأقصى بينما يقبض 4 آلاف يورو بمجرد انتقاله إلى شركة فرنسية، وفرنسا تعرف وتغنم وتزيد من الضغط السياسي.
لفرنسا وجه واحد
سواء حكمها اليمين المتطرف أم حكمها اليسار الثوري، فإن لفرنسا وجه واحد تزينه بلونين كلما احتاجت لتعيد تسويق الهيمنة، لكن في هذه المرحلة لدينا وقت كاف لنختبر هذا اليسار العائد إلى السلطة، فهناك اختبار حقيقي في فلسطين.
نظريًا وحسب الخطاب الانتخابي، فإن فرنسا ستعترف بدولة فلسطين، لكن هل يكفي الاعتراف بالدولة لتطهر ضميرها الاستعماري؟ هناك جنود فرنسيون في جيش الكيان كما كان هناك جنود فرنسيون مع حفتر لتخريب الثورة الليبية، وهناك سلاح فرنسي بيد الجيش الصهيوني، فهل تصل ثورية اليسار إلى قطع المدد على الاحتلال، هنا الاختبار الفعلي لخطاب اليسار الثوري، فالاعتراف بالدولة ودعم المحتل هو نفاق نعرفه منذ ما قبل العدوان الثلاثي على مصر.
نكتب بقين من قرأ التاريخ السياسي الفرنسي وتمعن فلسفة دولة احتلالية قاهرة لا يمكنها البقاء إلا بنهب ثروات الشعوب، لذلك فإن تبديد الوهم من نيل مكسب ولو بسيط من وصول اليسار إلى السلطة (وهو وصول نسبي، فالسلطة لا تزال مقسمة بينهم وبين اليمين الفاشي).
في الأسبوع القادم (14 يوليو/تموز) تحتفل فرنسا بذكرى ثورتها وسنتابع خطاب اليسار وقد اطمئن إلى وضعه بأصوات المهاجرين المرعوبين من التهجير ونحن على يقين بسماع تراجعات تكتيكية عن الخطاب الانتخابي وتمييع الحماس لفلسطين بدعوى عدم توافر أغلبية وكلام من قبيل لدينا الوقت لتفعيل الاعتراف، إلخ.
وجب تبديد الوهم العربي وخاصة الوهم المتفشي في شمال إفريقيا بديمقراطية فرنسا وميلها أخيرًا إلى دعم الديمقراطيات الوليدة. إن أقصى ما قد يقوم به هذا اليسار هو إعادة وضع قضايا المثلية وقضايا الجندر والمساواة في الميراث وحقوق البربر والسود وحقوق الكلاب فوق طاولات التداول السياسي في بلد مثل تونس، حيث تجد في تونس بالذات سماعين لفرنسا لو دخلت بهم جحر ضب لدخلوه خلفها، هذا تاريخ لن يتغير من فرنسا بل يتغير من هنا. من البلدان التي تفقد أبناءها في البحر هربًا من قهر آبائهم وأجدادهم على أمل خلاص أخير.