ترجمة وتحرير: نون بوست
للتاريخ جانب طويل وآخر قصير، وبالنسبة للعديد من مؤيدي إسرائيل يبدو أن التاريخ بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. أما بالنسبة لي والعديد الآخرين الغارقين في الصراع الحارق بين فلسطين وإسرائيل فإن التاريخ طويل للغاية. وحديثنا مع أنفسنا بدأ يغيّر قوامها، ومع مرور الوقت، تصبح حججنا عرضة للتلف.
بصفتي فلسطينيًا أمريكيًا عاش في كل من غزة والضفة الغربية وشاهد التوسع المستمر للمستوطنات بشكل مباشر، كنت لفترة طويلة مؤيدًا لدولة واحدة مشتركة في فلسطين-إسرائيل، وهي فكرة رفضها الكثيرون باعتبارها غير قابلة للتنفيذ. والآن، بينما نشهد ما وصفه الباحثون بأنه إبادة جماعية في فلسطين، يتحوّل السؤال إلى ما إذا كان من الممكن التفكير في أن يعيش اليهود الإسرائيليون والفلسطينيون كمواطنين متساوين في مجتمع مشترك. ولكن من الصعب أيضًا تصوّر حل الدولتين – ذلك أن المستوطنات الإسرائيلية جعلت التقسيم مستحيلًا.
ما هو واضح هو أن الفلسطينيين، الذين واجهوا الوحشية لمدة 100 سنة، يحتاجون إلى حلّ. وعلى العكس من ذلك، قد تقدم المذبحة فرصة جديدة لإعادة توجيه التاريخ. لقد أطاحت الحرب بالوضع الراهن حيث أصبحت إسرائيل، الدولة الصغيرة، معزولةً ربما بشكل دائم.
وتمثل المسيرات العالمية الحاشدة المناهضة للحرب، وجلسات الاستماع التي عقدتها محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية، وطلبات المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال – التي وضعت بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت في تحالف مع سلوبودان ميلوشيفيتش – تغييرات ذات مغزى ولكنها ليست كافية. فالتقدم الحقيقي إلى الأمام يتطلب من صانعي السياسات قبول عدة حقائق أساسية رفضوا إلى حد كبير الاعتراف بها – وهي الشروط المسبقة الأساسية لإنهاء الكابوس الفلسطيني الإسرائيلي.
لن يتم القضاء على حماس
إن السؤال عمّا يجب أن يحدث في المستقبل القريب واضح: نحن بحاجة إلى وقف دائم لإطلاق النار، ويجب إعادة إعمار غزة والسماح للفلسطينيين الذين يعيشون هناك بالعودة إلى ديارهم، ويجب أن يكون القطاع حرًا في ممارسة التجارة، وأن يتمكن سكانه من السفر للدراسة أو لأي سبب آخر. مع ذلك، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن هذا سيكون مستقبل غزة. فقد ادعت إسرائيل طوال الوقت أنها تسعى إلى تدمير حماس بالجملة، وهو هدف يشاركها فيه بايدن الذي قال إنه يجب “القضاء” على الحركة، ولكن كما أوضح أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ستيفن والت “لن يتم القضاء على حماس وهذا الجزء من المجتمع الفلسطيني”.
يبدو أن اقتراح وقف إطلاق النار الأخير، الذي لا يرقى إلى مستوى إلزام إسرائيل بوقف دائم لأنشطتها في غزة، مصمّم على ما يبدو ليفشل. فالوقف المؤقت للأعمال العدائية الذي سيتبعه المزيد من المجازر والموت في غزة، حسب التصريحات الإسرائيلية، ليس وقفًا لإطلاق النار. وهكذا، يبقى لنا أن ننظر في احتمال استمرار الوجود الإسرائيلي في غزة لفترة طويلة.
إن إعادة الاحتلال المطولة ستشهد تمردًا فلسطينيًا ملتزمًا من النوع الذي تخوضه حماس بعد تسعة أشهر من المذبحة. فالإسرائيليون، سواء كانوا مجنّدين أو جنود احتياط لديهم أمور أخرى يقومون بها، فهم يعانون من حالة من الارتباك وعدم التنظيم، ويفتقرون إلى القيادة السياسية أو رؤية للمستقبل. ويبدو أن هذا الافتقار إلى القيادة هو السبب الرئيسي الذي دفع بيني غانتس – وهو وسطي بالمعايير الإسرائيلية ويميني حسب أي معايير أخرى – إلى سحب حزبه من حكومة نتنياهو. إن التاريخ في لبنان، حيث خاض حزب الله قتالًا شرسًا وناجحًا ضد الاحتلال الإسرائيلي من سنة 1985 إلى سنة 2000، له دلالته – فالإسرائيليون سيُستنزفون من قبل المقاومة المسلحة إذا لم ينسحبوا.
مع ذلك، يبدو أن هذا السيناريو – أي التمرد المحلي الطاحن – يتم تجاهله عن عمد في المناقشات السياسية حول غزة. وبدلاً من ذلك، يبدو أن النقاش في واشنطن وبروكسل يرفض على ما يبدو إمكانية استمرار حماس في لعب دور في غزة أو في السياسة الفلسطينية الإسرائيلية بشكل عام. إن الآمال بهزيمة حماس في ساحة المعركة، يعقبها استسلام سياسي، هي آمال غير واقعية – مثل الأمل في ألا يكون لحزب الليكود بزعامة نتنياهو أو حزب الصمود الإسرائيلي بزعامة غانتس أو حزب القوة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير مستقبل في الواقع. وكما أوضح مايكل ميلشتاين، الرئيس السابق للشؤون الفلسطينية في الجيش الإسرائيلي، لصحيفة “وول ستريت جورنال“: “لا يوجد فراغ. فكل مكان يُخليه [الجيش الإسرائيلي]، تملأه حماس… في الوقت الحالي لا يوجد بديل، غير حماس”.
في الواقع، إن نجاح الحركة في ساحة المعركة، الذي يُقاس بمدى قدرتها على الصمود والاستمرار في إلحاق خسائر كبيرة بالإسرائيليين المحتلين، لا يحمل علامة على أي حل نهائي. وهو الدرس الذي تعلمه الفرنسيون في الجزائر عندما سعوا إلى القضاء على جبهة التحرير الوطني الجزائرية بتكلفة هائلة في أرواح المدنيين الجزائريين. أما الأمريكيون، من جانبهم، فقد تعلموا في فيتنام أن جبهة التحرير الوطنية لجنوب فيتنام كانت أكثر ثباتًا منهم، على الرغم من قتل أكثر من مليوني مدني في تلك الحرب. ونجحت طالبان في أفغانستان في هزيمة كل من القوات الأمريكية والروسية خلال عقود متباعدة.
إن حماس حركة محلية في فلسطين وهي تستمد دعمها من المدنيين حيث يمكن لمقاتليها الاختفاء والعثور على المؤونة بين السكان الآخرين في غزة. وتشير الدلائل إلى أن العدوان الإسرائيلي الجامح قد تسبب في زيادة الدعم للحركة الإسلامية بين الفلسطينيين، مما يعزز قدرتها على البقاء.
أشارت استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية إلى أنه في أيلول/ سبتمبر 2023، لم تحظَ حماس بتأييد سوى 12 بالمائة من الفلسطينيين في الضفة الغربية و38 بالمائة في غزة. وفي شهر أيار/ مايو من هذه السنة، ارتفعت نسبة التأييد لحماس في الضفة الغربية إلى 41 بالمائة في حين لم تتغير النسبة في غزة – حيث تكون بيانات الاستطلاع أقل موثوقية بسبب العدوان الإسرائيلي الطويل – وظلت النسبة دون تغيير عند 38 بالمائة في المتوسط. وقد ارتفعت نسبة التأييد لحماس من 22 بالمائة في أيلول/ سبتمبر إلى 40 بالمائة في أيار/ مايو، مع هامش خطأ +/- 3 بالمائة.
من الواضح أن العديد من الفلسطينيين ينظرون إلى الحركتين الإسلاميتين، حماس والجهاد الإسلامي، على أنهما من بين الجهات الفاعلة الوحيدة الملتزمة بحقهم في الدفاع عن النفس. وهذا الحق بديهي بالنسبة للفلسطينيين ومؤيديهم، بغض النظر عن رأيهم في أي من الطرفين. وكما أخبرتني حنان عشراوي، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني والمتحدثة السابقة باسم الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، فإن “للشعوب الواقعة تحت الاحتلال الحق في الدفاع عن نفسها. وهو حق منصوص عليه في القانون الدولي”. كما أن تأكيد حماس حق فلسطين في الدفاع عن النفس – في تحدٍ لإسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا – يمثل أيضًا إحدى نقاط النفوذ القليلة المتاحة للفلسطينيين بعد عقود من “عملية السلام” الفاشلة.
قد يجادل أنصار إسرائيل بأن الجماعة الإسلامية قد أشارت إلى عزمها الثابت للقضاء على إسرائيل من خلال الأقوال والأفعال، خاصة من خلال هجمتها المميتة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولهذا السبب فإن المنظمة لا يمكن التفاوض معها، وهذه الحجة فاشلة من عدة أوجه. أولاً، المنطق المترتب على ذلك هو أنه لا يمكن التفاوض مع القادة الإسرائيليين في ضوء أعمال الإبادة الجماعية التي يقومون بها في فلسطين. مع ذلك، أبدى الفلسطينيون استعدادهم للتفاوض مع إسرائيل منذ عقود، ولا يزالون يفعلون ذلك.
ثم هناك ميثاق حماس لسنة 1988 الذي دعا إلى تدمير إسرائيل – لكن تم تعديله بشكل كبير في سنة 2017 للتعبير عن الاستعداد للسعي لإقامة دولة ضمن حدود فلسطين سنة 1967.
كما أشارت الحركة مرارًا وتكرارًا إلى رغبتها في وقف إطلاق النار طويل الأمد مع إسرائيل أو الهدنة، كما أفاد معهد أبحاث السلام في أوسلو. يقول داغ هنريك تواستاد، كاتب التقرير: “لا يبدو أن هدف وتفاصيل هدنة حماس تختلف اختلافًا جوهريًا عن المواقف السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال محادثات كامب ديفيد في سنة 2000”. وأخيرًا، هناك مسألة التكتيكات، فكل من حماس وإسرائيل – والهاجاناه التي سبقت جيش إسرائيل – استخدموا الإرهاب لتحقيق الأهداف السياسية. ولكن كما أظهر الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي اعتمد برنامجه السياسي جزئيًا على التفجيرات في لندن، والمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب إفريقيا، فإن الطريق الوحيد للقضاء على الإرهاب هو من خلال اتفاق سياسي، وقد أشار عالما السياسة بريندان أوليري وأندرو سيلكي في دراستهما عن تكتيكات التمرد والإرهاب إلى أن “الحكومات والمتمردين عادة ما يتفاوضون حتى وإن قالوا إنهم لن يفعلوا ذلك أبداً”. في الواقع، نجح اتفاق الجمعة العظيمة الذي تم توقيعه في سنة 1998 في جلب الهدوء إلى أيرلندا الشمالية، كما أدت نهاية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى إنهاء فصل من فصول ذلك الصراع.
الوحدة الفلسطينية أمر ضروري
تعاني الحركة الوطنية الفلسطينية حالةً من التفكك، وقد تم تفريغها وتمزيقها بسبب “عملية السلام” التي لا تنتهي. والإطار الذي كان من المفترض أن يشهد نشوء دولة فلسطينية أجبر السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على القيام بمهمة فرض الاحتلال الإسرائيلي، حتى مع توسّع نظام الفصل العنصري في جميع أنحاء الأراضي. وحقيقة سيطرة إسرائيل على السلطة الفلسطينية، والتزام الأخيرة بحماية قوات الاحتلال، هي عقبة أساسية أمام التوصل إلى حل له معنى للنزاع، ففي كل نضال مماثل – في أيرلندا، جنوب إفريقيا، البوسنة وفيتنام – كانت القيادة الوطنية التمثيلية أساسية في إنتاج نهاية للصراع. واليوم يمكن للمرء أن يسأل: من يتحدث باسم الفلسطينيين؟ الجواب هو لا أحد، ولكن هذا لم يكن صحيحاً دائماً.
تأسّست منظمة التحرير الفلسطينية، وهي ائتلاف من الحركات الفلسطينية المختلفة، في القاهرة سنة 1964 لتكون ممثلاً شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني أينما كان، وتغيرت أهدافها على مر السنين. فقد دعت منظمة التحرير الفلسطينية في الأصل إلى دولة فلسطينية في جميع أراضي الانتداب البريطاني، أو ما يعرف الآن بفلسطين-إسرائيل، وأيدت حل الدولتين كجزء من العملية التي سبقت محادثات أوسلو في سنة 1988 بعد عقود من الكفاح المسلح.
قالت عشراوي، من المجلس التشريعي الفلسطيني، إن “منظمة التحرير الفلسطينية هي خزان ذاكرة المقاومة الفلسطينية وتاريخها تمثل الفلسطينيين ككل، وتجسد هوية وتاريخ النضال”. ومع ذلك، فإن منظمة التحرير الفلسطينية لا تمثل الفلسطينيين بشكل كامل، ذلك أن حماس ومنظمة الجهاد الإسلامي ليستا عضوين فيها.
وُقّعت اتفاقات أوسلو – التي لم يدعمها جميع أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية – في 13 أيلول/سبتمبر 1993، وقسمت الاتفاقات رسميًا تمثيل الفلسطينيين: فأولئك الذين في المنفى ستستمر منظمة التحرير الفلسطينية في تمثيلهم، أما أولئك الذين في الأراضي المحتلة فستمثل السلطة الفلسطينية التي تم تشكيلها حديثًا مصالحهم، وهي مؤسسة أولية كان الهدف منها، في أكثر التفسيرات التاريخية سخاءً، تمهيد الطريق لحكومة وطنية فلسطينية في دولة فلسطين؟
واليوم، السلطة الفلسطينية فاسدة ويقودها محمود عباس البالغ من العمر 88 سنة الذي نجح في مقاومة الدعوات لإجراء انتخابات رئاسية منذ سنة 2005 عندما تم انتخابه، وبدلًا من أن تقوم السلطة الفلسطينية التي يقودها عباس بدور حركة التحرير، أصبحت السلطة الفلسطينية هيئة إدارية للامتيازات التافهة التي تمنحها سلطة الاحتلال – إسرائيل. وقد جعل الفساد والعجز ما يقارب 90 بالمائة من الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية يرغبون في استقالة عباس، ومن وجهة نظر عشراوي “نحن بحاجة إلى انتخابات” لإعادة ترتيب صفوف الحركة الوطنية.
ربما تعزى الانقسامات الفلسطينية جزئيًا إلى الانتخابات التشريعية الأخيرة التي فازت فيها حماس سنة 2006، فقد حاولت حركة فتح، المعارضة، القيام بانقلاب مدعوم من الولايات المتحدة، ولكنه فشل، وانتهى الأمر بسيطرة فتح على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بينما تولت حماس إدارة غزة. وقد شهدت السنوات التي تلت ذلك جهودًا متكررة من قبل الفلسطينيين لإنتاج حكومة وحدة تمثيلية لم تسفر عن شيء، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي تهدف إلى إبقاء الفلسطينيين مفككين.
لقد وحّدت عمليات القتل الجنونية المرِحة في غزة المجتمع الفلسطيني أكثر من أي وقت آخر في التاريخ الحديث. وقد أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيار/مايو أن 79 بالمائة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يسعون إما إلى “المصالحة أو إعادة توحيد” غزة والضفة الغربية أو “تشكيل حكومة وحدة وطنية” تكون مخولة بالتفاوض مع إسرائيل. من جانبها، جددت عشراوي دعواتها لضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى منظمة التحرير الفلسطينية قائلةً “إذا أردنا تمثيلاً شاملاً، يجب أن تكون حماس والجهاد الإسلامي والجميع جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية. وإلا فإنها لن تكون ممثلة لنا”.
ولا تزال المحادثات الرامية إلى تحقيق التوحيد جارية. وقد حاولت الصين مؤخرًا أخذ دور القيادة من الولايات المتحدة وتوسّطت في محادثات بين ممثلي حماس وفتح. وهذه الوحدة ضرورية للتوصل إلى حل عادل للصراع، لأن الجهة الوحيدة القادرة على التفاوض نيابة عن جميع الفلسطينيين هي هيئة تمثيلية.
يجب على الإسرائيليين اليهود التخلي عن امتيازاتهم
يعبّر القادة الغربيون عن إيمانهم بحل الدولتين في كل مناسبة على الرغم من أن عملية السلام ماتت فعليًا منذ عقود. ومن الواضح أن الصهيونية – بتركيزها على ضرورة أن يشكل اليهود أغلبية عددية ذات حقوق متفوقة في جميع أراضي فلسطين-إسرائيل والحفاظ عليها – هي التي قتلت اقتراح حل الدولتين. فالمستوطنات في الضفة الغربية والقدس، التي يقطنها 700 ألف يهودي إسرائيلي، الكثير منهم من بين أكثر دعاة الصهيونية تطرفًا، جعلت من المستحيل تخيل قيام دولة على تلك الأرض.
وأولئك الذين دعموا حل الدولة الواحدة جادلوا بأن الواقع الديموغرافي سيؤدي إلى نهاية الصهيونية وحقوق متساوية للجميع. لكننا كافحنا لسنوات لكي نقدم حججنا. وقال والت، أستاذ العلاقات الدولية: “لقد اعتقدت لفترة طويلة أن حل الدولة الواحدة غير قابل للتنفيذ، ولكني الآن بدأت أتساءل عما إذا كانت هذه هي الآلية الوحيدة”. لفترة طويلة، بدت الحقوق المتساوية في فلسطين وإسرائيل وكأنها الطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق شعوب مختلطة جغرافيًا وظهور أغلبية فلسطينية مع سياسة غير إقصائية وغير إبادية.
لكن حل الدولة الواحدة أو الدولتين ليست الاقتراحات الوحيدة التي قدمها أولئك الذين يسعون لسد الفجوة. من جانبها، تدعم المحللة السياسية الإسرائيلية داليا شيندلين اتحادا – اتحاد دولي مع سلطة مركزية. وشرحت قائلة “أنا أعتقد أن لليهود الحق في تقرير المصير كشعب، وأن للفلسطينيين الحق في تقرير المصير، وأن الاثنين مترابطان”.
تعيش السياسية الفلسطينية عشراوي في بيرزيت، وهي بلدة صغيرة مسيحية تاريخيا تقع في الضفة الغربية المحتلة. وهي تركز على الأسس والمبادئ الأساسية وتركز بشكل أقل على التفاصيل الفنية. وقالت: “علينا أن نبقى متحدين ونظل مركزين على الهدف: فلسطين حرة وموحدة لجميع الفلسطينيين. نحن بحاجة إلى الحق في تقرير المصير”. وأضافت “أنا لا أقلق بشأن دولة واحدة مقابل دولتين – القضية الحقيقية هي أن يكون لنا الحق في العيش بحرية وكرامة وسيادة على أرضنا”.
رفضت عشراوي المفاوضات التي أحرزت القليل من التقدم للفلسطينيين. وقالت: “هل سنجلس ونعمل على الحدود؟ هذه ليست القضية الآن، بصراحة. علينا أن نؤكد حقوقنا”. سيبقى الفلسطينيون في حالة حرب ضد الفصل العنصري والتفوق اليهودي طالما هم موجودون. لكن كيف تبدو العدالة للفلسطينيين، بعد الكثير من الموت والإصابات، من الصعب تحديد ذلك.
في عالم مثالي، عالم لم يُقتل فيه 15 ألف طفل فلسطيني – رقم لا يمكن تصوره – ستنتهي الحرب في فلسطين من خلال التحرير الحقيقي. سيُطلق سراح أكثر من 8 آلاف فلسطيني قابعين في السجون الإسرائيلية و120 إسرائيلي محتجزين في غزة ويُسمح لهم بالعودة إلى عائلاتهم. وستكون الحقوق المتساوية في فلسطين وإسرائيل أساسًا لنظام ديمقراطي برلماني قوي، يحفظ حقوق الأفراد في مجتمع متعدد الأديان والأعراق. في مستقبل بديل، مع الاتحاد الذي تروج له شيندلين، سيعيش الفلسطينيون والإسرائيليون في بلد يستند إلى “تقرير المصير لشعبين، كل منهما يطالب ببيئة إقليمية يعبران فيها ثقافيًا عن هويتهما”.
ولكن بغض النظر عن التكوين، يجب على اليهود الإسرائيليين التخلي عن الامتيازات الاستثنائية التي اكتسبوها لأنفسهم في فلسطين. لا يمكن الاعتماد عليهم لفعل ذلك دون ضغط خارجي كبير، على أي حال. وكما أخبرني الصحفي بيتر بينارت، “لم تتغير جنوب إفريقيا حتى أصبح ‘الوضع الراهن غير مقبول للنخب”.
لقد غيرت الأشهر التسعة الماضية الكثير منا، مما جعل الأفكار التي كانت تبدو في السابق قابلة للتحقيق تبدو بعيدة وغير واقعية. ويبدو من المعقول أن نعتقد أن الرعب الذي ارتكبه الإسرائيليون، والذي يفوق حجم الجرائم التي ارتكبتها حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ـ بتأييد ساحق من مجتمعهم ـ ظل محفورا إلى الأبد في قلوب الكثير من الناس.
وصفت ديانا بوتو، مفاوضة أوسلو السابقة التي تعيش في حيفا، انعدام الأمان الجسدي الذي تعيشه، والعلاقات الشخصية التي تجمدت، والتحريض العرضي على الإبادة الجماعية من قبل جيرانها اليهود. وقالت “في كل مكان تذهب إليه، ترى هذه العلامات التي تقول: “اقضوا عليهم”. وأضافت “عندما تتحدث إلى الناس عما يفعله الجيش فإنهم يتجاهلون ذلك. لقد قُتل 15 ألف طفل، وهذا هو الرد: “نعم، هذا هو الثمن”.
لقد نشر العديد من الشباب الكثير من مقاطع الفيديو لأنفسهم وهم يرتكبون جرائم حرب بحيث لا يمكن تجنبها. لقد قام الكثير من الشباب – القُصّر – بتخريب الجهود المبذولة لتوصيل الدقيق إلى غزة. ومن المستحيل أن نتصور مستقبلاً يعيش فيه الفلسطينيون والإسرائيليون جنبا إلى جنب في دولة واحدة أو اتحاد كونفدرالي دون أي حساب. ومن جهتي، لا أستطيع أن أتصور مستقبلاً لا يتطلب إعادة بناء اليسار الإسرائيلي في شكل جديد ــ مناهض للصهيونية، وصادق في التعامل مع التاريخ، ومتوافق مع الحركة العالمية من أجل حقوق الفلسطينيين. إنه ببساطة الشرط المسبق للعمل معًا لتحقيق أي نتيجة.
إن المسيرات المبهجة في تل أبيب التي سبقت تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي طالبت بالديمقراطية للإسرائيليين اليهود وحدهم، لا علاقة لها بتحرير الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون ينظرون إليها بازدراء أو انعزال. لا تطالب الغالبية العظمى من عائلات الجنود والمدنيين الإسرائيليين الذين يحتجون على حكومة نتنياهو بإنهاء الإبادة الجماعية أو بالحرية الفلسطينية. وهناك القليل من الأسباب الشائعة ولا نرى إنسانيتنا تنعكس في أعينهم. لقد شاهد العديد من الفلسطينيين الاحتفالات التي صاحبت مذبحة النصيرات ــ حيث تم تحرير أربعة رهائن إسرائيليين قياسا بمقتل حوالي 300 فلسطيني ــ في حالة صدمة، وغمرتهم مشاعر الاشمئزاز التام. مع ذلك، فإن الفلسطينيين والإسرائيليين ليسوا فريدين من نوعهم. وقد سعت رواندا وجنوب أفريقيا، التي شهدت جرائم الإبادة الجماعية والفصل العنصري، إلى العودة إلى الحياة من خلال لجان الحقيقة والمصالحة، التي تسعى إلى تحديد الأضرار وإصلاحها.
وكما أشار أستاذ العلوم السياسية أوليري، فإن هذا يتطلب أولاً نظاما سياسيا جديدا تماما. وقال إن “النمط التجريبي هو أن النظام الذي لا يُهزم لا يتنازل عن لجنة الحقيقة الشاملة، تليها العمليات القانونية التي يتم من خلالها الحكم على مسؤولي الدولة”. وهكذا فإن الأمل في المستقبل، كما هو الآن، ثابت في رؤية تتطلب إنهاء التفوق اليهودي في فلسطين. وفي الواقع، نحن على بعد سنوات ضوئية من لجان الحقيقة والمصالحة، وهي جهود مروعة في أفضل الأوقات. واليوم يتكرر معنا ما حدث في رواندا في سنة 1994، ومازلنا نستحم في الدماء الرغوية.
المصدر: الغارديان