لليوم الثالث على التوالي لا تزال أصوات الجماهير الفلسطينية الغاضبة تصدح بكل قوة من على حدود قطاع غزة من أقصى شماله حتى جنوبه، ترسم بصمود وتحدي شبابها وشيوخها ونسائها وأطفالها ملحمة نضالية قد تُسطرعنوانًا جديدًا في تاريخ مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي”.
17 شهيدًا وأكثر من 1600 إصابة كان هذا الثمن الأول الذي دفعه الفلسطينيون كضريبة دفاعهم عن أرضهم، في مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت الجمعة الماضية لإحياء الذكرى الـ42 لـ”يوم الأرض”، قرب السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة، لكن تلك الأرقام لن تبقى ثابتة ومرجحة للارتفاع خلال الأيام المقبلة في ظل المجازر المستمرة التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين.
ورغم بشاعة المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين التي وثقتها عدسات الكاميرات والصحافة بالصوت والصورة، فإن الدول العربية لا تزال تلعب دور “النائم” وتغمض عينها عما يجري بفلسطين، فيما حقق مجلس الأمن الدولي فشلًا جديدًا بإدانة “إسرائيل” على جرائمها في غزة.
وأمام كل تلك التحديات التي تُحيط بالفلسطينيين من كل جانب، تخرج العديد من التساؤلات التي تبحث عن إجابات واضحة في الساحة، ولعل أبرزها: هل حققت مسيرة العودة أهدافها وأحرجت “إسرائيل”؟ وما الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون؟ ولعل السؤال الأهم: كيف نوظف هذه الخسائر في دعم قضيتنا وفضح المحتل؟
كابوس إسرائيلي
الإجابة عن تلك الأسئلة يكمن في الجانب الآخر وهو “إسرائيل” التي تناولت كل أحداث “مسيرة العودة” دقيقة بدقيقة، في ظل تخوفات أن يمتد لهيب غضب الفلسطينيين إلى الداخل ويصل لأماكن حساسة وخطيرة يصعب حينها إخماده.
مع تجمع الآلاف على حدود قطاع غزة، تساءل الإعلام العبري، عن إمكانية اجتياز هذا العدد للحدود، وكيف يمكن لجيش الاحتلال التعامل مع تلك الأعداد في حال اجتازت السياج الفاصل، خاصة في ظل فشل أسلوب استخدام القوة المفرطة
وأبدى الإعلام العبري، نظرة مختلفة للمسيرات، معربًا عن مخاوف المسؤولين الإسرائيليين من إقدام هذه الأعداد على اقتحام الحدود الشرقية لقطاع غزة، غير آبهين بالقوة العسكرية الإسرائيلية المفرطة التي يتعامل بها جيش الاحتلال مع المتظاهرين.
وقدرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أعداد المشاركين في مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة بنحو 45 ألف فلسطيني، وصل عدد منهم إلى السلك الفاصل بين قطاع غزة وأراضي الـ48.
وتساءل الإعلام العبري، عن إمكانية اجتياز هذا العدد للحدود، وكيف يمكن لجيش الاحتلال التعامل مع تلك الأعداد في حال اجتازت السياج الفاصل، خاصة في ظل فشل أسلوب استخدام القوة المفرطة، والتهديد ضد المتظاهرين.
وفي هذا السياق، قال موقع “واللاه” العبري إن رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، أرسل رسالة تحذير لـ”إسرائيل” مفادها أن غزة لن تموت جوعًا، حيث إنه وصل للحدود رفقة زوجته وأطفاله”.
وأضاف الموقع: “ليس كما يقولون إن قادة حماس يرسلون المتظاهرين ويختبئون في الأنفاق، وهذه هي النقطة المهمة أمس بالنسبة لحماس، لقد نجحت في رسائلها من مسيرات العودة.
هذا وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: “أحداث الساعات الأخيرة على حدود غزة، تتطلب من “إسرائيل” التعامل مع القطاع بحسم وحساسية في الوقت ذاته، خاصة أن هذه المسيرات تحدث في أوقات حساسة جدًا، وقابلة للانفجار”.
اعتبر الإعلام العبري، أن المناطق الحدودية مع قطاع غزة تحولت إلى ما يشبه “المهرجان”
بدوره، قال الخبير العسكري في صحيفة “إسرائيل هيوم”: إن مسيرات العودة الفلسطينية، شكلت تحديًا حقيقيًا وجادًا للقوات العسكرية الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن هناك تقديرات لدى الجيش، بأن تكون حركة حماس لديها رغبة بتدهور الوضع الميداني خلال هذه المسيرات، مستدركًا: “لكنهم يعترفون بأن هذه الأوضاع الأمنية، قد تتدحرج وتخرج عن السيطرة، مما يجعلهم يتحضرون للسيناريو الأسوأ والأكثر تطرفًا”.
وأضاف “المسيرات أدخلت “إسرائيل” مرحلة من عدم اليقين تجاه الوضع المتفجر بغزة، والخشية من التدحرج لمرحلة التصعيد التدريجي الآخذ بالاتساع مع مرور الوقت، لا سيما أن هذه المظاهرات لها أبعاد إستراتيجية”.
واعتبر الإعلام العبري، أن المناطق الحدودية مع قطاع غزة تحولت إلى ما يشبه “المهرجان”، الأمر الذي يزيد من احتمالية أن يقدم الآلاف من الفلسطينيين الذين تدفقوا على الحدود لاجتيازها في يوم ما، السيناريو الذي يرى فيه الاحتلال كابوسًا، يصعب التعامل معه أو حتى ردع تلك الآلاف بالقوة أو بغيرها من الوسائل.
وقالت “القناة 20” العبرية، إن حركة حماس نجحت في جلب الآلاف من سكان قطاع غزة إلى الحدود بنقاط التماس الخمسة مع الجيش الإسرائيلي، منوهةً إلى أن جيش الاحتلال يستعد لاحتمال عدم انتهاء الاضطرابات، واستمرارها على الأقل خلال الأيام القادمة إلى أن يهدأ الوضع في المنطقة.
وأجبرت هذه المظاهرات الاحتلال الإسرائيلي على استنفار قواه الأمنية والعسكرية كافة، ونشر مزيد من جنود الاحتلال والآليات لمتابعة ورصد كل ما يجري على الحدود، في الوقت الذي كانت فكرة اجتياز تلك الحدود من آلاف الفلسطينيين الهاجس الأكبر بالنسبة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
كما انتقد سياسيون إسرائيليون، التعامل العنيف من جيش الاحتلال مع المظاهرات السلمية، حيث قالت زعيمة حزب (ميرتس) الإسرائيلي تمار زاندبرج: “من حق الفلسطينيين التظاهر”، داعيةً جيش الاحتلال للتوقف عن إيذاء الأبرياء.
هذه المسيرات ستعيد قضية اللاجئين إلى مركزية التغطية،في ظل التراجع العام للقضية الفلسطينية
فيما قال آفي يسخاروف إن أحداث اليوم على حدود غزة يمكن تلخيصها في جملة واحدة، أن حماس حققت إنجازًا كبيرًا في الرأي العام الفلسطيني بقدرتها على تحفيز الجماهير بقيادة مسؤوليها، وأن هذه بمثابة تدريبات ليوم الخامس عشر من أيار/مايو الذي يصادف الذكرى السبعين للنكبة.
المعادلة الصعبة
وفي ورقة تقدير موقف، كتب مركز القدس للدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني، أن مسيرات العودة تربك حسابات “إسرائيل” وتجعلها تعيد حساباتها في التعامل مع قطاع غزة.
وقال الكاتب عماد أبو عوّاد الذي أعد الورقة إن هذه المسيرات ستُساهم في إرباك حسابات المنظومة السياسية والأمنية الإسرائيلية، معتمدًا على عدة أسباب أولها من الناحية الدعائية، تُمثل هذه المسيرات أمام العالم، مطالبة بحق طبيعي ومشروع، تقرّه غالبية مواثيق الأمم المتحدة، المنحازة إلى “إسرائيل”.
كما أن هذه المسيرات ستعيد قضية اللاجئين إلى مركزية التغطية، ويأتي ذلك في ظل التراجع العام للقضية الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه التشويش على العديد من المشاريع التي تهدف إلى القضاء على الحق الفلسطيني بالعودة، مشاريع تتبناها وللأسف بعض الأطراف العربية.
ومن الناحية الأمنية، وهي الأهم، قد تُشكل المسيرات تهديدًا أمنيًا على “إسرائيل”، حيث ترى قوى الأمن أنّ إمكانية قيام بعض المتظاهرين باختراق السياج والاحتكاك مع الجنود، قد يؤدي إلى مخاطر أمنية، رغم أنّ منظمي المسيرات أعلنوا سلميتها.
ويقول المختص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور: “تخوفات الاحتلال من غزة عالية بالأساس، ولكن مؤخرًا بدأ الحديث وعلى مدار الساعة عن تخوفات من مسيرة العودة وعلى كل المستويات”، موضحًا أن ما تتخوف منه “إسرائيل” هو” أن تتحول هذه المسيرة إلى عملية تسلل جماعي واختراق الحدود، وهو ما جعل ليبرمان يوم أمس يوجه حديثه للقطاع ويقول “إننا نصبنا مئات القناصة ولن نتردد في إطلاق النار”.
رغم سلمية مسيرة العودة، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي 17 فلسطينيًا وجرحت أكثر من ألف جراء قمعها للمسيرة، في “يوم الأرض” الخالد
وقال منصور إن التخوف لم يقتصر على ما يمكن أن تتطور إليه في القطاع وإنما أيضًا في الضفة الغربية والقدس على وجه التحديد”، مضيفًا: “إسرائيل” بالعادة تعتبر يوم الأرض تاريخ حساس ويمكن أن يشكل شرارة اشتعال، وزادت هذه التخوفات مع إعلان مسيرات العودة في القطاع”.
ولكن “إسرائيل”، بحسب منصور، كانت حذرة في التعاطي إعلاميًا مع الأمر، فلم يكن هناك إعلان عن نشر جنود خوفًا من إرباك الجبهة الداخلية، والتوقعات أن يتم التعامل مع تطورات الأمور وفقًا للوضع الآني وحسب تطورات الوضع في الميدان.
وشارك عشرات آلاف الفلسطينيين في القطاع الجمعة باليوم الأول لمسيرات العودة التي انطلقت في خمس نقاط على الحدود الشرقية للقطاع، وسط دعوات لأبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل عام 1948 والشتات للمزيد من الانتفاض والمواجهة في وجه الاحتلال.
ورغم سلمية مسيرة العودة، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي 17 فلسطينيًا وجرحت أكثر من ألف جراء قمعها للمسيرة، في “يوم الأرض” الخالد.
و”يوم الأرض”، تسمية تُطلق على أحداث جرت في 30 من مارس 1976؛ احتجاجًا على مصادرة سلطات الاحتلال مساحات واسعة من أراضٍ فلسطينية، استشهد فيها 6 فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
هل انتصر الفلسطينيون؟
رغم تهديدات الاحتلال الإسرائيلي واستخدامه للقوة المفرطة في قمع مسيرة العودة الكبرى، فإنها تمكنت من تحقيق أهدافها وإنجازاتها، وإيصال رسائلها للاحتلال وللمجتمع الدولي عبر التأكيد على حق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أراضيه التي هُجر منها عام 1948، ورفضه لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية كافة، بحسب محلل سياسي.
يقول الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الصواف: “مسيرة العودة كانت إيجابية وناجحة بامتياز، وجسدت عنوان الوحدة الوطنية، وأكدت على الحقوق الوطنية الفلسطينية، وضرورة إنهاء الاحتلال والمعاناة الإنسانية التي يمر بها قطاع غزة نتيجة الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ 11 عامًا”.
يعتقد المحلل السياسي أن قرار مسيرة العودة بحد ذاته قد لقي ردود فعل إيجابية في الشارع العربي
ويرى أن مسيرة العودة كانت ناجحة بامتياز، وقد حققت ما تسعى إليه، عبر التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره بشكل لا يقبل التأويل، وأكدت بطلان صفقة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وكل مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
ويضيف “المسيرة أكدت أن سلاح الشعب الفلسطيني أقوى من أي سلاح آخر، وأن الفلسطينيين كان لديهم قرار، وقد بدأوا بتنفيذه فعليًا عبر انطلاق مسيرة العودة التي ستنتهي عندما يعلن لحظة الصفر والدخول إلى أراضيه التي هجر منها”.
وعلى الصعيد العربي، يعتقد المحلل السياسي أن قرار مسيرة العودة بحد ذاته قد لقي ردود فعل إيجابية في الشارع العربي، الذي سيتيقن أن الشعب الفلسطيني سيحقق أهدافه بالعودة، ومن المتوقع أن يشهد الشارع العربي تفاعلًا أكبر مع هذا القرار.
وأما على الصعيد الدولي، فيرى الصواف أن هناك انحيازًا دوليًا للاحتلال الإسرائيلي، ورفضًا لمسيرة العودة، وكانت هناك تساؤلات عن مدى نجاح الشعب الفلسطيني في التحشيد لمسيرة العودة، وهل سيصل الحدود، وهنا أعتقد أن الرسالة وصلت لهم.
وعلى المستوى الفلسطيني، فإن المسيرة حملت عنوان الوحدة الوطنية، وجسدت رسالة لكل المنقسمين أن وحدة الشعب الفلسطيني أقوى من أي شيء، بحسب المحلل السياسي.
كما توقع المحلل السياسي فهمي شراب، أن تثمر المسيرة مزيدًا على الأطراف كافة من أجل إنصاف الشعب الفلسطيني بحقوقه، مضيفًا “لهذه المسيرة تداعيات كبيرة؛ لكونها حشودًا كبيرة غير متوقعة وغير مسبوقة أيضًا، لإدراك المشاركين بأهمية وعظم هذه الفعالية”.
وأكد أن هذا الحشد الضخم يصب في صالح تعزيز ملف اللاجئين الذي يراد تهميشه، متوقعًا أن تشهد المسيرة تحركًا على الصعيد الدولي والإسرائيلي يمكن أن يصب في مصلحة الفلسطينيين إذا استمروا في هذا الجهد.
وختم شراب حديثه: “إسرائيل الآن في حيرة من أمرها، كيف ستواجه هذه الحشود الضخمة، والسياسة الجديدة التي تحملها نمط جديد من النضال اللاعنفي، وهو ما يمثل إحراجًا وتآكلاً في شرعية الاحتلال أمام العالم”.