في 13 من فبراير/شباط 1999، كانت التجربة الأبرز لتركيا في القبض على أحد المطلوبين الفارين، حيث ألقت قواتها الاستخباراتية القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، في كينيا.
ووفقًا للصحف التركية التي تُشير إلى أن الحكومة الكينية عندما علمت بوجود أوجلان في السفارة اليونانية، طالبت الأخيرة على الفور بإرساله خارج البلاد، يُستقى أن الاستخبارات الكينية، تعاونت، بشكلٍ أو بآخر، في هذه العملية، فبينما أتت 3 سيارات إلى السفارة اليونانية لنقل أوجلان إلى المطار، ركب أوجلان والسفير اليوناني ورجل الاستخباراتي اليوناني الذي كان يحميه، في سيارات منفصلة، وفي صباح ذلك اليوم 13 من فبراير/شباط، أعلنت تركيا القبض على أوجلان.
اليوم بعد مرور 19 عامًا على هذه العملية، تعود تركيا لتُجري ذات العملية بالتعاون مع الاستخبارات الكوسوفية، ففي مساء الخميس 29 من مارس/آذار، ألقت الاستخبارات التركية بالتعاون مع نظيرتها الكوسوفية القبض على 6 قيادات من جماعة غولن.
تتضارب الأنباء بشأن طبيعة العملية، إلا أن الأنباء القادمة من كوسوفو تُشير إلى أن هناك خلافًا جسيمًا بين الجناحين السياسي والأمني الاستخباراتي حول العملية، فرئيس الوزراء الكوسوفي رامشو هاراديناي، علق على العملية قائلًا: “لا أعلم أي شيء عن العملية، وسأفعل ما يجب علي فعله كرئيس للوزراء”.
مضيفًا، في تصريحه أمام الصحفيين عقب جلسة طارئة لمجلس الأمن القومي “اليوم رحل جهاز الاستخبارات الكوسوفي 6 مواطنين أتراك خارج البلاد، أنا كرئيس للوزراء لم أتلق أي معلومة عن العملية، لذا سأركن لاستخدام جميع صلاحياتي الدستورية والقانونية لمتابعة الموضوع، والنظر إن كان هناك خرق للدستور، كان على وزير الداخلية ورئيس الاستخبارات إبلاغي بالعملية، لم يكن لديهما ما يكفي من الثقة بي لمشاركتي بهذه القضية، لذا أنا لا أثق بهما“.
وضمن السياق ذاته، أفادت وزارة الداخلية الكوسوفية بأن “الأشخاص الذين تم القبض عليهم، رُحلوا إلى بلادهم بعد إلغاء إقاماتهم في البلاد، لأسبابٍ أمنية”، غير أن هذه التصريحات لم تفِ بالغرض بالنسبة لرئيس الوزراء الكوسوفي الذي أقال كلًا من وزير الداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات.
تأتي تركيا على رأس الدول الداعمة لاستقلال كوسوفو، وحوارها مع صربيا التي تشكل الدولة الأم لها، وهذا ما قد يجعل الأزمة عابرة أو داخلية على صعيد كوسوفو
تأتي العملية المذكورة على وقع انعدام الاتفاق بين تركيا وكوسوفو بشأن قضية مدارس غولن، فقد طالبت تركيا كوسوفو، في أكثر من مناسبة، بإغلاق مدارس جماعة غولن في كوسوفو، إلا أن المسؤولين الكوسوفيون أوضحوا عدم وجود نية لديهم بخصوص هذا الأمر.
في العادة، تُجرى العمليات الاستخباراتية الأمنية بالتعاون بين الدول ذات العلاقات الدبلوماسية الجيدة، لكن في كثير من الأحيان تُجري بعض الدول عملياتها الاستخباراتية في دولٍ ندٍ لها، أو دولٍ أقل منها قوةً، غير آبهةِ بالنتيجة، لجهة، على الأغلب، عدم قدرة الدولة الصغيرة على اتخاذ إجراءات احترازية صارمة ضد هذه الدولة، نظرًا لانعدام اتحاد تحالفي إقليمي يدعمها، أو ربما لوجود “تداخل وتصارع مهني” في الصلاحيات بين مؤسسات الدولة الصغيرة، كما هو ظاهر في العملية المذكورة، حيث غيّب الجناح الأمني الجناح السياسي عن تفاصيل العملية.
ولعل شن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هجومًا لاذعًا على رئيس وزراء كوسوفو، على خلفية إقالته لوزير الداخلية ورئيس الاستخبارات، وتهديده “بدفع ثمن هذا القرار” يُثبت المقاربة الثانية للعمليات الاستخباراتية الخارجية، وهي عدم اكتراث الدولة الكبرى بسيادة الدولة الصغرى.
تأتي تركيا على رأس الدول الداعمة لاستقلال كوسوفو، وحوارها مع صربيا التي تشكل الدولة الأم لها، وهذا ما قد يجعل الأزمة عابرة أو داخلية على صعيد كوسوفو، وليس ثنائية بين تركيا وكوسوفو التي تحتاج للدعم التركي، في إقناع صربيا بالاعتراف بها، وإقناع روسيا بعدم استخدام حق النقض “الفيتو” لدخول مجلس الأمن.
قد تميل تركيا للاستمرار في عملياتها الاستخباراتية للقبض على المطلوبين لها من جماعة غولن في بعض الدول الإفريقية ودول البلقان ووسط آسيا
أما الدول “الندية” كاليونان وألمانيا على وجه الخصوص، فتركيا بحاجة إلى تحسين علاقاتها الدبلوماسية معها، حيث يُذكر أنها تحتضن المئات من أعضاء جماعة غولن، بحسب موقع بي بي سي باللغة التركية، ولقد شهدنا مطالبة تركيا المستمرة لليونان بتسليمها الـ8 ضباط الانقلابيين الذين فروا إليها بعد فشل انقلاب 15 من يوليو/تموز، إلا أن تردي العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، يُعيق تفاوضهما بخصوص الأمر.
المرشح أن تركيا لا تستطيع إجراء عمليات استخباراتية في هذه الدول “العضو في الاتحاد الأوروبي”، مخافة تدهور العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وقد شهدنا الأزمة التي مرت بها روسيا على إثر أزمة تسميم الجاسوس القديم في بريطانيا.
وربما، تمتلك روسيا مكتسبات اقتصادية وجيوسياسية ودبلوماسية قوّية تصد بها التحركات الغربية ضدها، إلا أن تركيا تفتقد لهذه المكتسبات، مما قد يجعلها بحاجة لانتهاج الخط الدبلوماسي، وقد انعكست سلبية التدهور الدبلوماسي للعلاقات التركية ـ الألمانية على التعاون الاستخباراتي التركي ـ الألماني، حينما زودت الاستخبارات التركية، العام الماضي، الاستخبارات الألمانية بعددٍ من الأسماء المطلوبة لها من جماعة غولن التي تُقيم في ألمانيا، إلا أن التدهور الدبلوماسي في العلاقات بين الطرفين، أدى بالحكومة الألمانية إلى تحذير هؤلاء المطلوبين وتوفير الحماية الأمنية لهم.
وقد تميل تركيا للاستمرار في عملياتها الاستخباراتية للقبض على المطلوبين لها من جماعة غولن في بعض الدول الإفريقية ودول البلقان ووسط آسيا.
وهناك قائمة بأهم الأسماء المطلوبة من جماعة غولن للحكومة التركية، لما لهم من دورٍ كبير في العملية الانقلابية، وأبرز هذه الأسماء:
– عادل أوكسوز: يُلقب “بإمام عناصر جماعة غولن في القوات الجوية”، أدى دورًا كبيرًا في تحريك الطائرات الحربية من قاعدة “أكينجيلار” في أنقرة، يوم انقلاب 15 من يوليو/تموز 2016 الفاشل، بل ووصفه “بالصندوق الأسود” لتلك الليلة.
لا يمكن النظر إلى قضية جلب الاستخبارات التركية بعض المطلوبين من كوسوفو، على أنها قضية كبيرة قد تؤدي إلى تدهور العلاقات بين البلدين، نظرًا لحاجة كوسوفو لدور تركيا الفاعل في عملية استقلالها
– إيمرى “أمرالله” أوسلو: يُقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، يُتهم بالانتماء لجماعة غولن، وتُوجه النيابة العامة التركية له تهمة الافتراء على رئيس الجمهورية ورئيس جهاز الاستخبارات.
– أكرم دومانلي: رئيس تحرير صحيفة زمان التابعة لجماعة غولن، يُقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
– هكان شوكر: لاعب كرة قدم ونائب برلماني سابق، يُتهم بالانتماء لجماعة غولن وإهانة الرئيس، يُقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
في الختام، لا يمكن النظر إلى قضية جلب الاستخبارات التركية بعض المطلوبين من كوسوفو، على أنها قضية كبيرة قد تؤدي إلى تدهور العلاقات بين البلدين، نظرًا لحاجة كوسوفو لدور تركيا الفاعل في عملية استقلالها، وقد تتكرر عمليات تركية مشابهة في دول صغيرة أو ضعيفة.
وعلى صعيد آخر، يُلاحظ أن أهم الأسماء المطلوبة لتركيا تُقيم في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتشهد تركيا مع هذه الدول علاقات متدهورة، مما ينذر باحتمال تأخر تركيا في تحريك ملفات دبلوماسية فاعلة لاستعادة هذه الأسماء في الوقت القريب على الأقل.