كانت الحرب على سوريا – وما زالت – معركة من أجل السيطرة على النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، وهي آخر فصل في حرب الولايات المتحدة الطويلة على قوى القومية العلمانية العربية؛ لإحباط التحول الحاليّ نحو توازن عالمي جديد للقوة.
بخصوص هذه العبارة يدور كتاب المؤلف والمدون الأمريكي ستيفين غوانز الصادر مؤخرًا، عن دار نشر “Bakara Books” بأمريكا، تحت عنوان واشنطن: الحرب الطويلة على سوريا “Washington’s Long War on Syria“.
الكتاب يسلط الضوء على الصراع الذي دام عقودًا طويلة بين القومية العربية والإسلام السياسي والإمبريالية الأمريكية للسيطرة على سوريا، ويستعرض مؤلفه دور الولايات المتحدة الأمريكية في فوضى الشرق الأوسط ورغبتها في الهيمنة على غرب آسيا وشمال إفريقيا.
ستيفين غوانز، مؤلف كتاب “واشنطن: الحرب الطويلة على سوريا”
جذور الحرب الطويلة
ليست الحرب الطويلة على سوريا فقط تلك التي اندلعت مع شرارة الثورة السورية عام 2011 – أي أنها أطول من الحرب العالمية الثانية – لكنها تلك التي قتل وأصيب فيها السوريون، وتحولوا إلى لاجئين ومشردين بالملايين، ودمرت بلادهم.
ويرجع ستيفن غوانز بداية الحرب الطويلة إلى خمسينيات القرن الماضي، إذ حاولت الولايات المتحدة التي عمقت الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي عولمة حلف الناتو؛ فأسست عام 1955 حلف بغداد للوقوف في وجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط، وكان يتكون إلى جانب المملكة المتحدة من العراق وتركيا وإيران وباكستان.
أما سوريا، الجمهورية، لم تكن دولة بعثية بعد، لكن كان لها وجود عربي وطني ومناهض للصهيونية، واختارت إقامة علاقات أقوى مع الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما انهار حلف بغداد عندما أطاح العراق بالنظام الملكي في 1958، وتبنى القومية العربية والاشتراكية، واعتمد البعثية “الفكر البعثي أو التيار البعثي” في 1968، وكان لسوريا ثورتها البعثية في 1963.
في وقت مبكر من عام 1957، تآمر الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ماكميلان لاغتيال كبار الشخصيات البعثية والشيوعية في الحكومة السورية، وأُوكلت الخطة إلى كيرميت روزفلت رئيس وكالة الاستخبارات المركزية في الشرق الأوسط، الذي قام في عام 1953 بهندسة الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق، لتأميم نفط إيران، فيما يعرف بـ”عملية أجاكس”.
عندما طُرد حزب البعث العربي الاشتراكي من السلطة في العراق، نصبت الولايات المتحدة الديكتاتور العسكري بول بريمر الذي عينه الرئيس الأمريكي جورج بوش رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق بعد احتلاله عام 2003
“خَطَّط روزفلت لخلق انتفاضات داخلية في سوريا، والاستعانة بالإخوان المسلمين في البلاد”، يكتب غوانز، مضيفًا “روزفلت تآمر أيضًا لخلق وتسليح الجماعات شبه العسكرية لشن حرب أهلية داخل البلاد، لكن لم يستطع محور الولايات المتحدة – المملكة المتحدة أن يكون حاضرًا في العراق والأردن، لذلك خرجت الخطة خاملة، إلا أن ملامح خطة روزفلت ستظهر لاحقًا في الثورة السورية عام 2011”.
ومن روزفلت إلى الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك الذي كشف على خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر عن مخطط للبنتاغون لـ”إخراج سبع دول من الشرق الأوسط في غضون خمس سنوات”، وبحلول عام 2002، كان الرئيس بوش قد أضاف سوريا إلى محور قائمة تغيير النظام الشريرة التي ضمت العراق وإيران وكوريا الشمالية، وذلك باستخدام مزاعم مزيفة عن أسلحة الدمار الشامل (باستثناء كوريا الشمالية) لتبرير التدخل الإنساني.
عندما طُرد حزب البعث العربي الاشتراكي من السلطة في العراق، نصبت الولايات المتحدة، الديكتاتور العسكري بول بريمر الذي عينه الرئيس الأمريكي جورج بوش رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق بعد احتلاله عام 2003، وعمل على اجتثاث حزب البعث، وطرد كل عضو في حزب البعث العربي الاشتراكي، وفرض دستورًا يمنع أي زعيم عربي علماني من الاستمرار في منصبه في العراق مرة أخرى.
ميكافيللية السياسة الأمريكية
على عكس العديد من المؤلفات المكتوبة على عجل، فإن كتاب ستيفن غوانز عن الحرب الأمريكية الطويلة على سوريا ضروري لفهم الأزمة السورية ومواجهة التهديد المتزايد لحرب كبرى.
يكشف غوانز كيف تواطأت الولايات المتحدة مع الجماعات الإرهابية لتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية “داعش”؛ لتدمير حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق وإيران وليبيا، وتثبيت مناطق تجارة حرة دائمة تخدم مصالح الولايات المتحدة عبر الشرق الأوسط.
كانت واشنطن قد شنت حروبًا طويلة على قادة الحركة القومية العربية مثل جمال عبد الناصر في مصر، وصدام حسين في العراق، ومعمر القذافي في ليبيا، والأسد في سوريا، وبحلول عام 2011 ظلت دولة عربية واحدة فقط تناضل من أجل القومية العربية وهي سوريا.
وعندما طالب الرئيس باراك أوباما رسميًا في صيف 2011 بتنحي رئيس النظام السوري بشار الأسد، لم تكن هذه المرة الأولى التي تسعى فيها واشنطن لتغيير النظام في دمشق، فقد شنت الولايات المتحدة حربًا طويلة ضد سوريا منذ اللحظة نفسها التي وصلت فيها الحركة القومية العربية المستقلة بشراسة إلى السلطة في 1963، والتزم الأسد ووالده حافظ الأسد بتلك الحركة.
قابلت واشنطن ذلك الطموح بسعيها لإزالة النفوذ القومي العربي من الدولة السورية والعالم العربي بشكل أوسع لأنها تشكل تهديدًا لأجندتها الخاصة
حتى عندما أطلق دونالد ترامب صواريخ توماهوك ضد قاعدة جوية سورية في 6 من أبريل/نيسان 2017، لم يكن يتبع سوى سياسة باراك أوباما: الغاية تبرر الوسيلة، وتمثلت في القصف، والتحالف مع أسوأ أشكال الإرهاب الإسلامي ومع الديكتاتوريات الملكية في السعودية والإمارات وأكثر من ذلك، ومنذ ذلك الحين أصبح شعار الإمبراطورية الأمريكية “الأسد يجب أن يرحل”.
كان القوميون العرب يطمحون إلى توحيد 400 مليون عربي في العالم في دولة عظمي واحدة قادرة على تحدي هيمنة الولايات المتحدة في غرب آسيا وشمال إفريقيا والتحول إلى لاعب رئيسي على الساحة العالمية متحررة من هيمنة القوى الاستعمارية السابقة والولايات الأمريكية.
قابلت واشنطن ذلك الطموح بسعيها لإزالة النفوذ القومي العربي من الدولة السورية والعالم العربي بشكل أوسع لأنها تشكل تهديدًا لأجندتها الخاصة المتمثلة في إرساء الأولوية العالمية وتعزيز مناخ الاستثمار بالنسبة للبنوك الأمريكية والمستثمرين والشركات في جميع أنحاء العالم.
الدعاية الأمريكية المضللة للحرب في سوريا
من سوريا إلى العراق وإيران ثم إلى ليبيا، فإن تفهمنا للحروب الطويلة في الشرق الأوسط على أنها تدخلات إنسانية أخلاقية تهدف إلى الديمقراطية والحضارة هي نتيجة لحملة دعاية وضعت بعناية من الولايات المتحدة وحلفائها.
يكشف مؤلف الكتاب أساليب تلك الدعاية المضللة للحرب في سوريا، وهي حرب طويلة من العدوان الذي شنته الإمبراطورية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي “الناتو” ضد الجمهورية العربية العلمانية والتعددية مثل العراق وليبيا، أحبطت خلالها مصالحها الرأسمالية المهيمنة، وقاومت اللاعبين الإسرائيليين والسعوديين والديمقراطيين وغير الديمقراطيين الآخرين في المنطقة.
لم تكن “الشعلة السورية” التي أشعلت في درعا هي شعلة الثورة، لأن النظام السوري – كما ذكرت وسائل الإعلام الرئيسية الغربية في ذلك الوقت – كان يتمتع بشعبية
يستند العامل المحدد للتشهير والانقسام على المأساة السورية في الأحداث التي وقعت في منتصف مارس/آذار 2011 في بلدة درعا الصغيرة في الجنوب، على الحدود مع الأردن، وكان سكانها السنيون نحو مئة ألف، وكانت الشرارة التي أشعلت الثورة السورية، وأطلق عليها أيضًا “مهد الثورة”.
واستنادًا إلى تحليل وسائل الإعلام الأمريكية والمصادر الأمريكية الرسمية، يوضح غوانز أن ما حدث في درعا في 17 من مارس/آذار 2011، وما بعده لم يكن “انتفاضة شعبية”، بل استفزاز مدبر من الجهاديين المسلحين، والأعداء القدامى للنظام البعثي العلماني في سوريا بمساعدة الجهاديين الذين تدربوا في الأردن من قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو وأتباعهم الملكيين العرب المحافظين، وتم تشجيعهم وتحريضهم من خلال الدعاية الأمريكية للحرب على سوريا.
لم تكن “الشعلة السورية” التي أشعلت في درعا هي شعلة الثورة، لأن النظام السوري – كما ذكرت وسائل الإعلام الرئيسية الغربية في ذلك الوقت – كان يتمتع بشعبية، وإنما كانت شعلة الحرب الإمبريالية لتغيير النظام بمساعدة الجهاديين، وما يسمى بالجيش السوري الحر الذي يخوض حربًا بالوكالة.
وعلى خلفية ما يسمى الربيع العربي الجاري في تونس ومصر وليبيا، أحرق محرضو درعا – كما وصفهم الإعلام الغربي – مقر حزب البعث المحلي، ومكتب المحافظ، وشركة الهواتف المحمولة، ورد الأسد على المتظاهرين في درعا بإعلانه سلسلة من الإصلاحات التي كانوا يطالبون بها، ولكن دون جدوى، لأن ما أرادوه هو تغيير النظام ولا شيء آخر.
في حين أن الصراع السوري المعقد يعرف على أنه النقطة المحورية لواحد من أكبر تجمعات اللاجئين في تاريخ العالم، إلا أن القليل لديهم فهم راسخ لجذور الحرب التي تجتمع فيها القوى الكبرى جنبًا إلى جنب مع بعض مجموعات المتمردين الأكثر وحشية في العالم
تستمر وسائل الإعلام في دورها المحرض، وينقل المؤلف أكثر مما يجادل عن الكثير من وسائل الإعلام الغربية مثل التايم الأمريكية ونيويورك تايمز وول ستريت جورنال والإندبيندنت، أن متظاهري درعا كانوا من الجهاديين الداعين لدولة إسلامية سنية طائفية، و”الانتفاضة” لم تحظ بأي دعم شعبي على الإطلاق، بل إنها لم تكن حتى “انتفاضة شعبية”، كما تقول الرواية المناهضة للأسد.
كان ذلك استفزازًا مخططًا له منذ البداية باستخدام أخبار مزيفة عن مجموعة من الشباب الذين قتلوا في بعض الروايات، وسجِنوا في نسخ أخرى، لطلاء الكتابة الجدارية المضادة للأسد.
الاقتصاد أولًا
في حين أن الصراع السوري المعقد يعرف على أنه النقطة المحورية لواحد من أكبر تجمعات اللاجئين في تاريخ العالم، إلا أن القليل لديهم فهم راسخ لجذور الحرب التي تجتمع فيها القوى الكبرى جنبًا إلى جنب مع بعض مجموعات المتمردين الأكثر وحشية في العالم.
وخلال الربع الأخير من القرن العشرين، شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها حملات مدمرة للغاية من الحرب الاقتصادية ضد سوريا والعراق، وهي المعادلة الاقتصادية للحرب النووية، كما يصفها غوانز، وقد فعلوا ذلك لأنهم يعارضون جهود حزب البعث الاشتراكي العربي في تحقيق تقدم في السياسة والاقتصاد تحت سيطرة أولئك الذين يعيشون ويعملون في العالم العربي.
العقوبات أداة دعائية فعالة أيضًا، وبمجرد أن تدمر الاقتصاد، يمكنك أن تلقي باللائمة في تدهوره على حقيقة أن الحكومة اتبعت سياسات اشتراكية دمرت المنطقة
في حالة العراق، جمعت ثروته النفطية بالملكية العامة للاقتصاد؛ مما أدى إلى ما يعرف باسم “العصر الذهبي”، ووفقًا لوزارة الخارجية الرسمية انتشرت المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمسارح بشكل عام ، وتطور نقص العمالة.
وكان نفس المسؤول في وزارة الخارجية قد كتب عن القذافي في ليبيا أن “دمج ثروتها النفطية مع الملكية العامة للاقتصاد مكّن الليبيين من العيش في أحلام آبائهم وأجدادهم”، لكن سرعان ما أزيل القذافي بعد أن اجتمعت شركات النفط الغربية على إقالته لأنه “كان يقود صفقة صعبة”، حتى إن القوات شبه العسكرية الكندية ذكرت أنها كانت “القوة الجوية للقاعدة”.
كان بشار الأسد قد تجاوز والده بعد وفاته في عام 2000، وبسبب امتلاكها لأياديها الكاملة في تهدئة العراق وفي أفغانستان، لم يكن تغيير النظام في سوريا أمرًا مستحيلاً، ففي عام 2003 أطلقت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على البلاد “للقيام بما يفترض أن تفعله العقوبات”، كما كتب غوانز أنها “تدمير الاقتصادات حتى يتمكن الناس العاديون من الإطاحة بحكوماتهم”.
العقوبات هي أداة دعائية فعالة أيضًا، وبمجرد أن تدمر الاقتصاد، يمكنك أن تلقي باللائمة في تدهوره على حقيقة أن الحكومة اتبعت سياسات اشتراكية دمرت المنطقة.
يبقى تقديم صورة صادقة عن الحرب الطويلة في سوريا يتطلب استكشافًا دقيقًا للتاريخ الاستعماري والجيوسياسي المعاصر
بحلول ربيع عام 2012، أجبرت العقوبات المسؤولين على التوقف عن توفير الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والتعليم في بعض أجزاء البلاد، وفي عام 2016، أفادت وثيقة مسربة للأمم المتحدة أن العقوبات تسببت في معاناة هائلة، لدرجة أنها منعت البلاد من الوصول إلى المساعدات الإنسانية.
في كل من هذه الحالات: العراق وسوريا وليبيا وإيران قبلهم، لم يكن التدخل الأمريكي من الديمقراطية أو حتى الأمن القومي في شيء، لكن محاولة لإنشاء مناطق التجارة الحرة في الشرق الأوسط ، حتى لو كان ذلك يعني تثبيت ديكتاتوريين أصوليين يفقرون ويضطهدون شعوبهم.
ويبقى تقديم صورة صادقة عن الحرب الطويلة في سوريا يتطلب استكشافًا دقيقًا للتاريخ الاستعماري والجيوسياسي المعاصر الذي لا يخشى الاعتراف بالتحديات من جميع الأطراف على أرض الواقع.