كثيرًا ما نرى فيديوهات لقردةٍ أو حيوانات أخرى تساعد بعضها البعض أو تتعاطف أو تحاول التضحية بنفسها لحماية غيرها، ما يجعلنا نعتقد بحسٍ مرهف أنّ تلك الحيوانات تمتلك حسًّا أخلاقيًا عاليًّا حتى وإن كانت عاجزة عن الوعي به وإدراكه كما ندركه نحن البشر. أو حتى كثيرًا ما يقول البعض منا أن الحيوانات تمتلك أخلاقًا أكثر من بعض البشر حين وصفهم للمجرمين أو عديمي الأخلاق وما إلى ذلك، فهل حقًا تعترف الحيوانات بالأخلاق؟
كلب يحاول إزاحة صديقه الميت عن شارع سريع
يعتقد العلماء الذين ترتكز دراستهم على سلوك الحيوانات أنّ عالم الأخلاق وقواعدها يمكن استشفافه ما بين الحيوانات المختلفة كالقوارض والثدييات، بنفس الطريقة التي قد توجد بين البشر، ولكنْ قد يختلف الأمر بدرجة التعقيد وسرعة التطوّر ليس إلا.
فحتى وقت قريب، كان يُعتقد أنّ البشر هم النوع الوحيد من الحيوانات الذي يعرف الفضائل الأخلاقية ويمتلك العواطف المعقدة ويستطيع التمييز بين الصحيح والخاطئ فيما يتعلّق بالتعامل مع الآخرين، إلا أنّ العديد من الدراسات والأبحاث في العقود الأخرى، وضعت عددًا من النظريات التي تفترض أنّ الحيوانات أيضًا تعترف بعالم الأخلاق وتأخذه بعين الاعتبار في نظام حياتها.
كثيرٌ من الأبحاث والاختبارات استطاعت الكشف عن وجود تعاون داخل المجموعة الواحدة من الحيوانات لتحقيق هدفٍ مشترك أو لمساعدةِ فردٍ يحتاج المساعدة، الأمر الذي بدوره يمكن أن يعكس قدرة الحيوانات على تكوين بذرةَ الرابطة الاجتماعية بين أفراد النوع الواحد أو الأنواع المختلفة، ويرتبط بشكلٍ أو بآخر مع التقمص الوجداني عندهم.
مبدئيًا، يعرف التقمص الوجداني على أنه القدرة على إدراك مشاعر الآخرين والإحساس بها، وبالتالي تكون هذه القدرة هي السبب على نشوء العديد من العواطف التي قد يطوّرها الكائن، مثل التعاطف والأسى والمساعدة والاهتمام والمواساة. وأصل المصطلح يعود إلى الألمانية تحديدًا إلى عام 1873 حيث أدخل الفيلسوف روبرت فيشر كلمة “Einfühlung” إلى القاموس اللغوي والتي تعني حرفيًا “الشعور بما في داخل الآخر”، وتمت ترجمتها لاحقًا إلى كلمة “empathy” في الإنجليزية، ولعلّ أقرب ترجمة لها في العربية هي كلمة “تعاطف” على الرغم من أنّ الألمانية أكثر اتّساعًا وعمومية.
ترتكز فكرة دي وال أنّ تصرفات التعاطف والامتنان والمساعدة التي تبديها أنواعٌ عدة من الحيوانات وتدعم سلوكها الأخلاقي فتشير إلى أنّ الأخلاق تتعمّق بيولوجيًّا في أدمغة الكائنات.
في إحدى التجارب، أظهر الباحثون أنّ الشمبانزي يفضّل مشاركة المكافآت الغذائية التي يحصل عليها مع شمبانزي آخر، طالما كان متأكدًا من أنّ الآخر سيحصل على الطعام فعليًّا. وفي كتابه “البونوبو والملحد: البحث عن الإنسانية في الرئيسيات”، يرى الباحث المختص في دراسة الحيوانات “فرانز دي وال” أنّ لدى العديد من أنواع الثدييات ما يمكن تسميته بدافع الإيثار من حيث أنها تستجيب لعلامات الضيق عند الآخرين وتشعر بالرغبة لمحاولة تحسين وضعهم، وقد يتطور الأمر إلى مرحلة من التضحية بالنفس من أجل عضوٍ آخر في المجموعة.
ترتكز فكرة دي وال أنّ تصرفات التعاطف والامتنان والمساعدة التي تبديها أنواعٌ عدة من الحيوانات وتدعم سلوكها الأخلاقي فتشير إلى أنّ الأخلاق تتعمّق بيولوجيًّا في أدمغة الكائنات، وبالتالي فهي ليست امتدادًا للتفكير العقلاني أو الأديان كما يرى البعض، مؤكدًا أنه لا يقصد في فرضيته هذه محاولة المساس بالأديان وقيمها الأخلاقية والإنسانية.
وعلى الرغم من أن الأخلاق الإنسانية قد تنتهي بمفاهيم الحقوق والعدالة والتمييز الأخلاقي الرفيع، إلا إنها تبدأ، كما يقول دي وال بالاهتمام بالآخرين وفهم القواعد الاجتماعية لكيفية التعامل معهم. وهذا المستوى الأدنى من الأخلاق الذي يظهر عند الحيوانات، يعتبره الباحثون تداخلًا كبيرًا بين سلوك الإنسان وسلوك الرئيسيات الاجتماعية الأخرى كالقوارض والقردة والشمبانزي وغيرها.
كما يرى دي وال أنّ المرحلة التي وصل إليها البشر في سلم الأخلاق ما هيَ إلا نتيجة سرعة التطور البيولوجي الحاصلة عندهم أكثر من غيرهم من الأنواع الأخرى. ففي حين يرى الكثير من الفلاسفة أنه من الصعب التفكير في الحيوانات ككائنات أخلاقية أو تمتلك أخلاقًا، يجادل دي وال بأنّ الأخلاق البشرية قد تكون مستحيلة دون وجود قوالب بنيوية عاطفية معينة، تمّ اكتسابها بفعل التطوّر، وهو بذلك لا يؤكد بأنّ الحيوانات هي كائنات أخلاقية، وإنّما يدعو إلى النظر إليها بكونها قادرة على امتلاك بعض المبادئ التي تتشابه فيها مع عالم البشر.
فرانز دي وال يتحدث على منصة TED عن كتبه وأبحاثه حول الحيوانات وأخلاقها
إلا أنّ الفرق بالتطور ذاك لا يعني عدم امتلاك الحيوانات “خلايا المرايا” في العصبونات الانعكاسية والتي تتميز عند البشر بمسؤوليتها عن الشعور بالتعاطف مع الآخرين وتفهم وإدراك حالاتهم وأوضاعهم ومشاكلهم، فتلك الخلايا تنشط عندما يقوم الكائن بفعلٍ أو سلوكٍ ما، ليستطيع الكائن الآخر بإدراك ذلك الفعل فيقوم به أو يحاول تقمصه.
وقد وجدت العديد من الأبحاث أنّ أنواعًا كثيرة من الثدييات تمتلك ذلك النوع من الخلايا العصبية، ما يسهّل على الباحثين أكثر محاولة فهم سلوك التعاطف عند الحيوانات، أيْ أنّ ما يحدث في الدماغ من تنشيطٍ لتلك الخلايا التي تتشابه عند الإنسان، يُعطي فكرةً أكثر وضوحًا عن السلوكيات الأخلاقية عند غير الإنسان.و
وفي دراسة، توصل الباحثون أنّ الفئران المشارِكة بالبحث تعاني نفسيًا بالألم حين رؤيتها لفأرٍ آخر يعاني ألمًا جسديًّا، فقد قام فريق الباحثين بحقن عددْ من الفئران بحامض الخل الذي يسبّب حرقةً وألمًا في المعدة، ومراقبة مجموعة أخرى من الفئران كانت مهمتها فقط التواجد ومشاهدة المجموعة الأولى. وقد وجد الباحثون أنّ المجموعة المشاهِدة أظهرت ردود أفعالٍ وتعبيراتٍ جسدية ونبراتٍ صوتية تُشير إلى إحساسها بالألم وتعاطفها مع المجموعة الأولى، على الرغم من أنها لم تتعرض لمسبّب الألم ولا تعرف كيفيته.
بالمحصلة، فيرى علماء البيولوجيا والبيولوجيا التطورية أنّ اللبنات الأساسية للأخلاق ليست السلوكيات الجيدة أو غير الجيدة والقدرة على التفريق بين الصحيح والخاطئ أو بين الخير والشر كما يعتقد الفلاسفة وعلماء الدين، وإنما تتمحور فكرتهم عن الأخلاق حول القدرات الذهنية والاجتماعية لبناء المجتمعات وإنشاء الروابط مع أفرادها.