شُنّت على شبكات التواصل الاجتماعي مباشرة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حملات دعائية ممنهجة نشرت وابلًا من الإعلانات الموجهة عبر أشكال مختلفة من المحتوى، سواء الأفلام الوثائقية القصيرة أم مئات من مقاطع الفيديو والصور والرسوم الكاريكاتورية والمعلومات المضللة عن الأسلمة وادعاءات التهديد الإسلامي الوشيك في أوروبا وكراهية المهاجرين، بجانب تشويه بلد بأكمله كما حدث مع قطر، وقد غُلفت هذه الحملات بخطاب الرحمة والعلمانية لتوسيع نطاق جاذبيتها وإخفاء نواياها الحقيقية.
وهذه الحملات اتخذت أشكالًا وأسماء عدة منها “أوروبا أولًا – صنع في قطر – مؤامرة ضد أوروبا – مؤامرة قطر – أنقذوا أوروبا – الدفاع عن العلمانية”. وحضورها كان عبر منصات متعددة، بما في ذلك فيسبوك وإكس وتلغرام ويوتيوب وتيك توك وويكيبيديا واللوحات الإعلانية، ومؤتمر CPAC.
أما الجغرافيا التي استهدفتها هذه الحملات، فقد كانت موجهة إلى العديد من دول الاتحاد الأوروبي خاصة المملكة المتحدة وفرنسا بجانب الولايات المتحدة، واستمرت هذه الحملات – ما زال بعضها نشطًا حتى الآن – في التلاعب بالرأي العام، وبلغت ذروتها قبل أسابيع من الانتخابات الأوروبية.
الباحثان المتخصصان في مجال المعلومات المضللة ومتابعة الحملات الدعائية المشبوهة سوهان دسوزا ومارك جونز نشرا يوم الأحد الماضي تقريرًا متعمقًا بعنوان “مؤامرة قطر”، كشفا فيه تفاصيل مثيرة بشأن حملات مضللة واسعة النطاق استهدفت المسلمين وقطر على وجه الخصوص، إضافة لعرض الباحثين التكتيكات المستخدمة لخداع ملايين الأشخاص من الجمهور المحلي والدولي في سبيل فرض أيديولوجية ووجهات نظره معينة.
وبحسب تحليل الخبيرين فإن حملات الدعاية تم تنفيذها على مرحلتين، استهدفت الموجة الأولى (يناير/كانون الثاني – مارس/آذار 2024) فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية ولبنان والسعودية. ثم قبل أسابيع قليلة من انتخابات الاتحاد الأوروبي استهدفت الموجة الثانية (مايو/أيار – يونيو/حزيران 2024) المملكة المتحدة، وبلجيكا، وفرنسا، والسويد، وكرواتيا، ومالطا، وألمانيا.
وحسب تحقيق الباحثين فقد أنتجت حملات الدعاية المعادية والمكثفة محتوى باللغات العربية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية، ومن خلال استخدام الباحثين لبيانات مكتبة إعلانات فيسبوك، فقد وصلت إحدى هذه الحملات إلى ما يزيد على 41 مليون مستخدم على موقع فيسبوك فقط.
كما جرى استخدام عشرات الصفحات لتمرير ما لا يقل عن 978 إعلانًا معاديًا لقطر وللمسلمين باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية، وقد كلفت هذه الإعلانات على فيس بوك 270 ألف دولار، تم إنفاقها من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران 2024 وفقًا لتقدير جونز ودسوزا.
طبقًا للتقرير، فقد استهدفت الحملات المضللة على فيسبوك 61% من إجمالي سكان فرنسا، لذا من المحتمل أن تكون هذه أكبر حملة خداع وتضليل استهدفت دول الاتحاد الأوروبي واستغلت المناخات السياسية قبل الانتخابات الأوروبية. ومن الواضح أن هذه الحملات كانت موجهة لدعم اليمين المتطرف قبل التصويت في الانتخابات.
لكن رغم انتهاك هذه الحملات باستمرار لمعايير وقواعد الإعلان على منصات التواصل، فقد أظهرت مرونة ملحوظة، وغالبًا ما تتم استعادة الصفحات التي تمت إزالتها، أو ترحيلها إلى عناوين URL مختلفة باستخدام نفس أسماء الصفحات، ما حافظ على زخم هذه الحملات.
كذلك حاول جونز ودسوزا تتبع المصدر الجغرافي للحسابات الوهمية والصفحات على فيس بوك وعملة الإنفاق على هذه الحملات الغامضة والمشبوهة، ووجدوا أن فيتنام تشكل سوقًا سوداء لبيع صفحات وحسابات فيسبوك مقرصنة من أجل نشر الإعلانات، إذ أن جزء من الترويج للحملات المنسقة التي استهدفت الجماهير من جميع أنحاء العالم مصدره فيتنام، وغالبية إعلانات هذه الحملات على فيسبوك دفعت بالدونج الفيتنامي.
لكن الباحثَين ذكرا أن فيتنام ليست وحدها مصدر الحملات المناهضة للمسلمين وقطر، وأكدوا أن هذه الحملات تستخدم وكلاء لإخفاء الخيوط المؤدية إلى العقل المدبر للجهات الراعية التي تقف خلف الترويج لهذه الحملات، ولذا يعتبر التقرير أن هذه الحملات كانت منظمة للغاية.
وقالت مارغريتا فرانكلين، مديرة الشؤون العامة الأمنية في شركة ميتا لوكالة “فرانس برس”: “لقد عثرنا على هذه الشبكة الفيتامينية وأزلناها منذ شهرين”، مضيفة أن النتائج التي توصلت إليها ستنشر في تقرير التهديدات ربع السنوي في أغسطس/آب القادم.
وبشكل عام ومن خلال تتبع المحتوى الذي عرضه جونز ودسوزا في تقريرهما، يمكن القول إن حملات الدعاية الأخيرة ارتكزت على 4 أهداف رئيسية:
- تعزيز القيم العلمانية كمحاولة لاستهداف المسلمين والمهاجرين في أوروبا.
- إنشاء رابطة بين إيران وقطر وحماس.
- إثارة المخاوف من احتجاجات الحرم الجامعي الغربي المناهض لـ”إسرائيل” وربطه بقطر.
- اتهام قطر بنشر خطاب الكراهية وتعزيز التطرف والإرهاب مع ربط قطر بشكل تآمري بأي حادث سلبي يحدث في أوروبا.
تشويه سمعة قطر
حسب تقرير جونز ودسوزا، فالحملات الدعائية التي بدأت منذ أواخر العام الماضي هي أكبر حملة تضليل استهدفت المسلمين بشكل عام وقطر بشكل خاص. ويتتبع التحقيق استراتيجيات الحملات المختلفة التي هاجمت قطر.
فعلى سبيل المثال، دعت بعض الحملات إلى مقاطعة قطر أكاديميًا، وحثت المستخدمين على سحب الاستثمارات ومقاطعة المنتجات والمؤسسات المملوكة لقطر مثل محلات هارودز ونادي باريس سان جيرمان، وفندق نيويورك بلازا، كما أشادت بعض الحملات بالقرار الأخير الذي اتخذته جامعة تكساس إيه آند إم بإغلاق حرمها الجامعي في قطر.
فيما استهدفت الحملات الأخرى أفرادًا من العائلة المالكة القطرية، من بينهم الشيخة موزا والدة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فعلى سبيل المثال، تم إنتاج عدد من الأفلام الوثائقية القصيرة عن العائلة المالكة في قطر، منها سلسلة مكونة من 5 حلقات بعنوان “فضائح عائلة آل ثاني”، التي حملت هجمات شخصية ومواضيع بذيئة عن العائلة المالكة في قطر، بما في ذلك اتهامات مختلفة بالإجرام والانحطاط وغيرها من الفضائح المزعومة كالجنس والزنا.
وعلى وجه الخصوص استهدفت الشيخة موزا بشكل كبير من خلال حملات “الأمر بين يديك – لديك القوة”، وتوحي عناوين هذه الحملات أن الشيخة موزا تتنصل من مسؤوليتها في استخدام نفوذها المزعوم على حماس لإطلاق سراح الرهائن الذين تم احتجازهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
أما حملات “قاطعوا قطر – عار على قطر – الخنزيرة قطر” فقد صورت قطر على أنها تتماشى مع مصالح إيران وتنقل التكنولوجيا إليها، وتدعم الإرهابيين والقوى المناهضة للغرب، لكن الرسالة الرئيسية لهذه المجموعة من الحملات شجعت على العزلة الاقتصادية والأكاديمية والسياسية لقطر.
ويبدو أن استهداف قطر قد تسارع منذ أوائل عام 2024، فإضافة لحملات وسائل التواصل الاجتماعي، وصلت الحملات الدعائية ضد الشيخة موزا إلى حد الإعلان على إحدى اللوحات الإعلانية الرقمية في ميدان تايمز سكوير بنيويورك، وتعود ملكية اللوحة لشركة الإعلان العملاقة “Outfront Media” وفق تحقيقات قام بها سوهان دسوزا ومارك أوين.
لا أحد يعرف على وجه التحديد من يقف وراء الحملة ضد الشيخة موزا، لكن يبدو أن زعماء مسيحيين إنجيليين بارزين يقومون بدور نشط فيها، إذ نشرت كاثي جيفورد مقطع فيديو لها وهي تدعو الشيخة موزا إلى استخدام سلطتها وتحرير الرهائن.
صحفية أمريكية إنجيلية تناشد الشيخة موزا لإطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس.
كذلك تم عرض إعلان “عار على قطر” في أثناء المؤتمر السياسي CPAC رفيع المستوى في الولايات المتحدة، الذي شارك فيه ناشطون وسياسيون محافظون من بينهم دونالد ترامب، ودعا الإعلان إلى فرض عقوبات على قطر ووصفها بأنها تدعم الإرهاب وتشكل تهديدًا أمنيًا.
حدث ارتفاع آخر في الحملات الإعلانية منذ منتصف شهر مايو/أيار الماضي، حيث كانت هناك زيادة كبيرة في عدد الإعلانات، وظهرت موجة متجددة من النشاط على تويتر وفيسبوك لربط قطر بشبح أسلمة أوروبا، وتصويرها برعاية التطرف الإسلامي للمجتمعات المسلمة في أوروبا.
كما أثارت حملات آخرى مخاوف بشأن روابط مزعومة بين قطر ونشاط طلاب الجامعات الغربية، ومن بين المواقع الإلكترونية الجديدة التي هاجمت قطر في الفترة الأخيرة موقع “Shame on Qatar – العار لقطر” المتوفر باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، فيما يبدو أنه محاولة للتأثير على المزيد من الناس، ويتهم الموقع قطر بتمويل الإرهابيين.
موقع آخر رصده الباحثان يحمل اسم “It’s in your hands – الأمر بين يديك”، الذي يستهدف الشيخة موزا ويتهمها بدعم الإرهاب وفشلها في إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، رغم أنها لا تضطلع بأي دور رسمي في جهود الوساطة في الدوحة. وحسب سوهان دسوزا، فهذه الحملات تهدف إلى الضغط على قطر وجعل أي علاقة معها مشبوهة وخطرة، بجانب تعزيز مشاعر التشكيك حيال قطر.
في الواقع، استخدمت هذه الحملات مجموعة متنوعة من التكتيكات، حتى إن بعض هذه الحملات أنتجت أغنية ساخرة تصور قطر بأنها تسعى لهندسة استيلاء ثيوقراطي إسلامي على أوروبا.
ويشير الباحثان إلى تنفيذ هجوم كبير ومنسق على موقع ويكيبيديا منذ منتصف فبراير/شباط الماضي، وقد ركز هذا الهجوم على إعادة تعديل وتحرير المحتوى المتعلق بقطر، مثل مقالات الشيخة موزا والعديد من بيت آل ثاني الحاكم في قطر، ومقالات عن دور قطر في الحرب بين “إسرائيل” وحماس والتعاون النووي بين إيران وقطر، تم تخريب ما لا يقل عن 24 مقالة على ويكيبيديا (15 باللغة الإنجليزية، و8 باللغة العربية، وواحدة باللغة الفارسية).
وامتد الأمر أيضًا إلى مشاركة بعض الأكاديمين في هذه الحملات الدعائية ضد قطر، على سبيل المثال، نشرت الأستاذة الأمريكية بجامعة تافتس، كاترينا لانتوس على موقع X صورة لها وهي تحمل ملصقًا لحملة تستهدف الشيخة موزا، ودعت كاترينا الشيخة موزا إلى إطلاق سراح الرهائن الموجودين لدى حماس.
شبح أسلمة أوروبا: ادعاءات التهديد الإسلامي
تطرقت الحملات الأخيرة إلى مواضيع تتعلق بكراهية المهاجرين في أوروبا، وتأجيج واستغلال المشاعر المعادية للإسلام وللمسلمين، وتتضمن إحداها حملة دعاية مشحونة عاطفيًا استغلت خوف شريحة واسعة من الأوروبيين من الهجرة والتغيير الثقافي والاختلافات الدينية.
ومن خلال أسماء هذه الحملات الدعائية (إنقاذ أوروبا – الدفاع عن العلمانية – مؤامرة ضد أوروبا – أوروبا أولًا) يمكن أن نلاحظ الشعور بالمؤامرة والمخاوف بشأن التغيرات الثقافية والمشاعر المناهضة للهجرة، وحسب مارك جونز غالبًا ما تم خلط الهجرة مع الإسلام.
وإحدى هذه الحملات استخدمت العديد من الاستعارات المعادية للإسلام وللمهاجرين، ومنها على سبيل المثال إعلان يقول: “نحن الإنجليز سوف ننقرض، والمسلمون سيبنون المزيد من المساجد، لذا يجب على هذه الحكومة الدموية القادمة أن تتخذ موقفًا.. أينما يوجد مسلمون توجد مشكلة، وحتى لو أصبح العالم كله مسلمًا، فإن الطوائف المختلفة كالسنة والشيعة وغيرهم سينشغلون بقتل بعضهم البعض، فإذا كان المستقبل للإسلام فسوف يكون لدينا قتل وبؤس دائمين”.
كما انتقدت هذه الحملات بشكل كبير ما اعتبرته الأسلمة السريعة لأوروبا، ولذا تمت الدعوة في كثير من الأحيان إلى اتخاذ إجراءات جذرية، بما في ذلك تدابير عنيفة وإقصائية. بجانب إلقاء اللوم على الحكومات الأوروبية بسبب السياسات التي نُظر لها كتسهيل الطريق أمام التغيير الثقافي في أوروبا.
وفي حين كانت هناك أصوات قليلة تدعو إلى التسامح ومعارضة الإسلاموفوبيا ونبذ الكراهية، فإن غالبية التعليقات التي رصدها سوهان دسوزا ومارك جونز في هذه الحملات الأخيرة، تُعبر عن درجات متفاوتة من التعصب ضد المسلمين وكراهية الإسلام. كما يغلب عليها نظريات المؤامرة عن الغزو الإسلامي المتخيل لاستبدال السكان الأوروبيين. وتشير بيانات “Crowd Tangle” إلى أن التفاعل مع محتويات هذه الحملات المعادية للإسلام والمسلمين كان مرتفعًا عن أي وقت مضى.
حملة لبنان لا يريد الحرب
بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، استفاقت بيروت وضواحيها على لوحات إعلانية منتشرة في جميع شوارعها العامة تقول: “لبنان لا يريد الحرب”. لم تكن هذه الحملة واضحة من حيث مصدرها، رغم أن العديد من وسائل الإعلام اللبنانية تحدثت عنها. والبعض ذكر أن المُعلِن هو منظمة دولية تدعى “One Peace Global” وهي منظمة لم يسمع بها اللبنانيون من قبل.
لكن حسب تحليل الخبيرين سوهان دسوزا ومارك جونز، فهذه الحملة يديرها ائتلاف من الشباب ورجال الأعمال اللبنانيين بدعم من مدير شركة إعلانية في الخليج، وهذه الحملة تعمل بأسلوب مخابراتي، وتوجه رسائل ضمنية إلى الداخل اللبناني بشأن أهمية التطبيع مع “إسرائيل” والرضوخ لها، تحت عناوين السلام ورفض الحرب والسعي لتحقيق الاستقرار في لبنان، وفي أوقات أخرى بدت الحملة وكأنها تركز على تعزيز الانقسام في لبنان.