إذا نظرنا إلى الشرق الأوسط في عام 2018 فسنرى الصورة قاتمة تمامًا ولن أكون متشائمًا إذا قلت بأن نهضة بلدان كثيرة في هذا الجزء من العالم قد تكون معدومة نتيجة للصراعات والنزاعات السياسية والعسكرية، فهناك بلدان تحاول أن تسير في خطط عشوائية للوصول إلى أهدافها في التطوير والتنمية، وهناك دول تحاول فقط أن تبقى على الخريطة وألا تصبح قطع متناثرة بمسميات جديدة في خريطة الشرق الأوسط الجديد.
بلدان تلتهمها الصراعات الطائفية والسياسية والعسكرية وبلدان تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات والصراعات الدولية وبلدان أخرى تحولت إلى حقل تجارب لشركات الأسلحة العالمية من خلال الدول التي تتبناها لتستعرض أقوى أسلحتها البرية والبحرية والجوية، هذا إذا لم نتحدث عن حروب الاستخبارات الخفية وما يحدث في الظل من صراع الأيديولوجيات السياسية العالمية.
إذا استعرضنا تاريخ القارة الأوروبية بداية من عصور الظلام ومحاكم التفتيش ومن ثم الثورة الصناعية إلى الحرب العالمية الأولى والثانية ومن ثم الدخول في الألفية الثالثة والانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة علميًا وصناعيًا وعسكريًا؛ سنجد في هذه السلسلة المترابطة شبهًا كبيرًا بما تمر به منطقة الشرق الأوسط
وبذلك يكتمل المشهد المأساوي لشعوب المنطقة بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة، وإذا نظرنا إلى المستقبل فيبدو أنه سيكون أسوأ بكثير من الحاضر والماضي، وغالبًا ما تكون شعوب تلك البلدان المتصارعة هي الخاسر الأكبر في المعارك السياسية والعسكرية، فهنا اللون الرمادي لن يفيد شيئًا، وانكفاء كل فرد على أسرته وأعماله لا يمكن أن يجنّبه الكارثة، الجميع في أتون الحرب، فالشعب بطبقاته الثرية والفقيرة كافة، المثقفة والجاهلة منغمسًا فيها، لا يمكن لأحد تجنب المواجهة، فما الحل؟!
إذا أردنا مناقشة الأمور بطريقة فلسفية واستعراض كلمات ومصطلحات، فبإمكاني كتابة مئات الصفحات دون أي فكرة واضحة، ولكن سأستعرض تجربة بسيطة مرت على شعوب أوروبا “القارة العجوز”، ويمكن أن نستقي من خلال تلك التجربة خريطة طريق نسير عليها للبداية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدمار الذي يحدث.
إذا استعرضنا تاريخ القارة الأوروبية بداية من عصور الظلام ومحاكم التفتيش ومن ثم الثورة الصناعية إلى الحرب العالمية الأولى والثانية ومن ثم الدخول في الألفية الثالثة والانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة علميًا وصناعيًا وعسكريًا؛ سنجد في هذه السلسلة المترابطة شبهًا كبيرًا بما تمر به منطقة الشرق الأوسط.
فشعوب أوروبا عاشت لعشرات السنين في عصور الظلام والجهل والتخلف والحروب، لتنتقل بعدها إلى الثورة الصناعية التي أنتجت كمًا هائلًا من الاختراعات الصناعية وفجرت الصراعات بخصوص الموارد الطبيعية للمواد الأولية المستخدمة في الصناعة كالحديد كأبسط مثال.
هذه الثورة الصناعية الكبرى كانت كارثة على شعوب أوروبا بسبب غياب الوعي الاجتماعي والسياسي لإدارة هذه الموارد المهولة التي أصبحت متوفرة بكثرة، ونتج عن ذلك حروب طاحنة حصدت ملايين البشر، بداية من حروب القوتين العظميين في ذلك الوقت فرنسا وإنجلترا، إلى الحرب العالمية الأولى ومن ثم الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا عن بكرة أبيها تقريبًا، ولم يبق من المصانع سوى مصانع الأسلحة والذخيرة، هذا بالإضافة إلى خسارة القوة البشرية لأوروبا بموت نحو 100 مليون إنسان في الحرب العالمية الأولى والثانية على أقل تقدير.
أدركت شعوب هذه الدول بعد انتهاء الحرب بأن الثورة الصناعية دون ثورة تعليمية وسياسية واجتماعية كانت كارثة عليهم وكان الثمن كبيرًا جدًا، وبدأت دول أوروبا مجتمعة في الاهتمام بتطوير المنظومة التعليمية أولًا والحرص على أن يكون النظام التعليمي متكاملًا بشكل مثالي، فنتج عن ذلك استعادة عشرات الجامعات العريقة أمجادها وأصبح خريجوها يشغلون المناصب العليا في الحكومات والجيوش.
ثم انتقلت الخطة إلى الاهتمام بالوعي الاجتماعي والسياسي للشعوب، فسياسة القمع والترهيب لم تعد تجدي نفعًا ولذلك كان لا بد بأن تتحول الشعوب إلى محرك أساسي في صنع السياسات لحكومات دولها، وكانت النتيجة نظام ديمقراطي متكامل يشارك فيه الشعب في اختيار ممثليه وحكومته بدءًا من أصغر حي ومدينة وصولًا إلى رأس السلطة في الدولة.
وهذه الإستراتيجية أجبرت الشعوب على تنظيم الأحزاب والانخراط فيها لتكون كتلة مؤثرة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأُجبرت الأحزاب على زيادة الوعي السياسي بين الشعب وتفعيل الدعاية السياسية حتى تستقطب أكبر عدد من الناخبين ليكونوا قوتها في طريق الوصول إلى الحكم؛ ونتج عن ذلك أحزاب تنافسية بقوة كبيرة تستطيع إسقاط أقوى حكومات العالم عبر قواعدها الانتخابية.
سياسة التركيع والتجويع لم تعد تُجدي نفعًا، وهذه الشعوب لن تقبل بأن تعيش في الدرك الأسفل من العالم، والجيل الجديد من هذه الشعوب الذي انصهر في منظومة المعلوماتية والإنترنت لن يقبل بأن يشاهد نفسه في مصاف دول العالم الثالث والرابع
وأخيرًا كان الاهتمام بالقوة العسكرية التي تحمي كل ما سبق وذلك بتطوير تلك القوات وتجهيزها بأحدث التقنيات والأسلحة المتطورة ولكن قبل ذلك كله كان من الواجب تزويد هذه القوى العسكرية بالعقول المدربة القادرة على إدارتها باقتدار وحكمة، ولذلك أصبحنا نرى أكاديميات عسكرية عريقة أضحى خريجوها من أنجح القادة والأفراد في المنظومة العسكرية مثل “أكاديمية سانت هيرست البريطانية” وغيرها من الأكاديميات العالمية التي أنشئت خصيصًا لتخريج قادة عسكريين متخصصين في قيادة الجيوش المتقدمة.
هذه تجربة أوروبا بعد الحروب العالمية باختصار وعمر هذه التجربة قصير جدًا لا يتعدى 40 عامًا حتى بدأت بوادر نجاحها تظهر للعالم.
وشعوب الشرق الأوسط بإمكانها تطبيق هذه التجربة لخلق إمكانية وجود مستقبل منشود نصل إليه بعد عشرات السنين، فالطريق الذي نسير فيه لن يؤدي إلا إلى مكان واحد وهو “الهاوية” للجميع دون استثناء الشعوب والحكومات والجيوش.
وما يحدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا خير دليل على ذلك، فسياسة التركيع والتجويع لم تعد تُجدي نفعًا، وهذه الشعوب لن تقبل بأن تعيش في الدرك الأسفل من العالم، والجيل الجديد من هذه الشعوب الذي انصهر في منظومة المعلوماتية والإنترنت لن يقبل بأن يشاهد نفسه في مصاف دول العالم الثالث والرابع، بل سيسعى للتغيير ولكن باندفاع فطري مدمر وعندها ستكون الكارثة على الجميع.
كل حركة إصلاحية على مدار التاريخ بدأت بمجموعة من الأفراد وانتقلت بعدها لتكبر وتصبح عامة بين الناس، وما نحتاجه أن يبدأ كل شخص فينا بنفسه والمحيطين به الذين يمكلك التأثير عليهم وبعدها سنرى الموجة تكبر لتصبح عاصفة فكرية وسياسية واجتماعية تغير كل شيء نحو الأفضل.