يوم الأربعاء 28 من مارس/آذار 2018 تنفس المسلمون في كيبيك – كندا الصعداء، ولم يكونوا الوحيدين الذين تنفسوا الصعداء وإنما شاركهم هذا الشعور معظم المهتمين بالشأن العام في كيبيك، ففي هذا اليوم اعترف مرتكب مجزرة مسجد كيبيك الكبير بذنبه أمام القضاء، فماذا يعني هذا الاعتراف بالنسبة لأسر ضحايا الاعتداء أولاً وبالنسبة لمسلمي كيبيك ثانيًا وللمجتمع الكيبيكي ثالثًا؟
سواء اعترف هذا القاتل بذنبه أم لم يعترف، فإنه لن يستطيع أن يغير في حياة ضحاياه شيئًا، فالاعتراف أو عدم الاعتراف بالذنب، لن يعيد ليتيم أباه الذي حصده رصاص الحقد والكراهية في المسجد، ولن يعيد لأرملة زوجها الذي غيَّبه رصاص إرهاب هذا القاتل الحاقد.
كما أن الاعتراف بالذنب أمام القضاء لن يعيد لأيمن دربالي قدرة الوقوف على رجليه أو الأكل بيديه، أيمن هو الشهيد الحي الذي استطاع استعمال قدراته الجسدية لآخر مرة في حياته عندما توضأ لصلاة العشاء مساء يوم الـ29 من يناير/كانون الثاني ووقف على قدميه لآخر مرة في حياته في صلاة العشاء، لحظات قليلة قبل أن يدخل هذا القاتل إلى المسجد ويزرع سبع رصاصات في جسد أيمن، هذه الرصاصات الآثمة جعلت من أيمن روحًا بلا جسد مدى الحياة، لا يستطيع هذا المجرم الآن أن يفعل أي شيء يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل يوم عدوانه الدموي على المسجد، وكأن شيئًا لم يكن وكأن الأمر لا يتعدى كونه منامًا مرعبًا.
صحيح أن ألكساندر بيسونات لا يستطيع أن يعيد لليتيم أباه وللأرملة زوجها ولأيمن جسده، ولكن اعترافه بالذنب أنزل عن ظهور هؤلاء حِملاً ثقيلاً، كما يعرف الجميع كندا بما فيها كيبيك دولة قانون، ومن بديهيات القانون في كندا كل متهم بريء حتى تثبت إدانته أمام محكمة محايدة وصاحبة صلاحية ومعترف بها.
صرح هذا القاتل وقت اعترافه بذنبه أمام القضاء، أنه ليس إرهابيًا وليس إسلاموفوبيا ولكنه كان يعاني من الخوف ومن ميول انتحارية وأن شيطانًا كان يسكنه وهذا الشيطان تمكن منه في نهاية المطاف ففعل فعلته التي أودت بحياة ستة من الأبرياء ودمرت حياة العشرات من الأسر!
وفي القانون الكندي، كما في الشرع الإسلامي، على من ادَّعى البينة، وبالتالي لو لم يعترف ألكساندر بذنبه لحتَّم ذلك على محاميي الاتهام إثبات ذنب ألكساندر بيسونات دون أي شك معقول؛ هذا يعني أنه كان سيترتب على محاميي الاتهام، ليثبتوا إدانة هذا القاتل أن يطلبوا من الضحايا وأسرهم المثول أمام المحكمة للإدلاء بشهاداتهم.
هل بالإمكان تصور مثول هذه العوائل المنكوبة أمام القضاء أسبوعًا بعد أسبوعٍ وشهرًا بعد شهرٍ وربما عامًا بعد عامٍ؟ ومن الشهود سيكون الأشخاص الذين عاشوا المجزرة ورأوا بأم أعينهم القاتل وشاهدوا دماءهم ودماء أخوانهم تزهق وشعروا أن ملك الموت كان على بعد خطوات منهم وتخطاهم إلى أخوة لهم قضوا نحبهم في تلك الليلة العصيبة.
ومن الذين كانوا سيعيشون كابوس المحكمة أيضًا أهل هذا القاتل الذين سقط ابنهم ضحية حملات الحقد والكراهية التي كان يروِّج لها بعض السياسيين والإعلاميين في المرحلة التي سبقت المجزرة ولا يزال البعض، ولكن بطريقة أقل من الماضي، يروِّج لها حتى الآن، لو لم يعترف هذا القاتل بذنبه لكان على أبويه، إذا قررا حضور الجلسات أن يشاهدا الدموع في عيون ضحايا ابنهم ويعيشا الألم الذي سببه ابنهما للعديدين من الرجال والنساء والأطفال.
إذًا اعتراف هذا القاتل بذنبه أمام القضاء أزال عن هؤلاء الناس المنكوبين، ضحاياه من المسلمين وأبويه اللذين دمر حياتهما أيضًا عندما دمر حياة ضحاياه من المسلمين، إمكانية إجبارهم على الوجود في نفس المكان مع من دمَّر حياتهم والنظر إليه ومشاهدة فيلم الرعب الذي شاهدوه ليلة المجزرة، على القضاء الآن تحديد العقوبة التي سيفرضها على هذا القاتل عقابًا على جريمته وعبرة لمن قد تسول له نفسه اقتراف جريمة شنعاء من هذا القبيل.
لقد صرح هذا القاتل وقت اعترافه بذنبه أمام القضاء، أنه ليس إرهابيًا وليس إسلاموفوبيا ولكنه كان يعاني من الخوف ومن ميول انتحارية وأن شيطانًا كان يسكنه وهذا الشيطان تمكن منه في نهاية المطاف ففعل فعلته التي أودت بحياة ستة من الأبرياء ودمرت حياة العشرات من الأسر، وقال إنه نادم على فعلته وطلب العفو من ضحاياه.
وهذه ترجمة حرفية لبعض ما صرح به بيسونات للقاضي بحضور أسر الضحايا:
يقول إنه ليس إرهابيًا، أليس قتل الأبرياء إرهابًا؟ أم أن تعريف الاٍرهاب موقوف على المسلمين فقط؟ إذا كان القاتل مسلمًا فهذا إرهاب أما إذا كان القاتل غير مسلم وكان الضحايا مسلمين فهذا ليس إرهابًا!
“أنا شخص جرفه الخوف والتفكير السلبي وشكل اليأس الرهيب، لطالما كان لدي أفكار انتحارية وهوس بالموت، الأمر أشبه أنني أقاتل مع شيطان انتهى به الأمر معي، وانتهى بالفوز ضدّي، أتمنى أن أتمكن من العودة في الوقت المناسب وتغيير الأشياء، في بعض الأحيان أشعر أن كل هذا حلم مروع، كابوس طويل، أتمنى أن أعتذر عن كل الأذى الذي فعلته لكم، لكنني أعلم أن فعلتي لا تُغفر”.
إذًا بيسونات يقول إنه ليس إرهابيًا وليس إسلاموفوبيا ولكن جرفه الخوف وكان يعاني من أفكار انتحارية! وكما أن الكثير من المسلمين يلومون إبليس على الكثير مما يؤتون من السيئات، فإن بيسونات كذلك صرح أنه كان يصارع شيطانًا انتهى به الأمر للانتصار عليه.
يقول إنه ليس إرهابيًا، أليس قتل الأبرياء إرهابًا؟ أم أن تعريف الاٍرهاب موقوف على المسلمين فقط؟ إذا كان القاتل مسلمًا فهذا إرهاب أما إذا كان القاتل غير مسلم وكان الضحايا مسلمين فهذا ليس إرهابًا! إن هذا المنطق مرفوض والإرهاب إرهاب كائنًا من كان مطلق الرصاص وكائنة من كانت الضحية، الاٍرهاب لا دين له ولا قومية له وإنما جريمة على الجميع إدانتها وعلى القضاء معاقبة مقترفها.
بيسونات يقول إنه ليس إسلاموفوبيا وإنما جرفه الخوف وكان يعاني من أفكار انتحارية، ما الإسلاموفوبيا؟ أليس الخوف والتخويف من الإسلام والمسلمين؟ وإذا كان يعاني من أفكار انتحارية، لماذا لم ينتحر بنفسه ويترك الآخرين أحياءً؟ لقد قتل ستة أبرياء وجرح العشرات ودمر حياة العديد من الأسر ولكنه أبقى على حياته الشخصية ويريد أن يقنع الآخرين أنه كان يعاني من أفكار انتحارية.
وإذا لم يكن إسلاموفوبيا، لماذا اختار المسجد مسرحًا لجريمته؟ لماذا لم يطلق الرصاص على المارة في الشارع مثلاً أو في مرقص أو دار سينما أو كنيسة أو سوق تجارية؟ لقد اختار المسجد وأطلق النار على العشرات من الأشخاص، رجال وأطفال، وليس بينه وبين أي من هؤلاء الضحايا معرفة شخصية سابقة، كل ما كان يعرفه عن هؤلاء الأشخاص أنهم مسلمون ويؤدون صلاتهم في المسجد.
صحيح أن اعتراف القاتل بذنبه أمام القضاء سيوفر على الضحايا وعوائل الشهداء عناء مشاهدة فيلم الرعب من جديد ولكن هذا ليس إلا مجرد خطوة صغيرة جدًا على درب حماية المواطنين الآمنين، المجتمع بحاجة لمعرفة الأسباب الحقيقية للجريمة لرسم سياسات جدية وفاعلة لحماية كل أبنائه مسلمين وغير مسلمين
كما أن الشجرة تعرف من ثمارها والأفعال تدل على دوافع فاعليها فإن جريمة ألكساندر بيسونات تخبر الكثير عن دوافعه.
لقد قال بيسونات إنه نادم على فعلته وطلب العفو من ضحاياه، الكثيرون يشككون بصدق نواياه، يظن هؤلاء المشككون أن الاعتراف بالذنب وإعلان الندم وطلب العفو ليس إلا وسيلة لتخفيف العقوبة بعد أن أقنعه محاموه أنه يصعب التغلب على العقبات التي تواجههم للدفاع عنه أمام الدلائل المتراكمة ضده التي تثبت جريمته وبشاعتها.
وهكذا لم يكن له مناص من الاعتراف بذنبه وإعلان ندمه وطلب العفو من ضحاياه كوسيلة لتخفيف العقوبة التي قد تصل إلى 150 عامًا وراء قضبان السجن، قد يكون المشككون على صواب في شكهم ولكننا لسنا في رأسه ولا نستطيع أن نشق عن قلبه.
لنذكر في هذا المقام حادثة أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قتل مشركًا بعد نطقه بالشهادة معلنًا إسلامه لأن اسامة ظن أن هذا المشرك نطق بالشهادة ليعصم دمه بعد أن داهمه الموت بسيف أسامة المسلط فوق رأسه، عندما عاد أسامة وصحبه إلى المدينة وأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام بما حدث غضب الرسول غضبًا شديدًا وقال لأسامة: “ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟” فقال أسامة: “قالها متعوذًا” أي ليحتمي بها حفاظًا على حياته، فأجابه الرسول: “أشققت عن قلبه؟”، ونحن أيضا لا نستطيع أن نشق عن قلوب الناس، نسمع كلامهم ونوكل سرائرهم إلى الله، ولكن سواء كان بيسونات صادقًا في ندمه أم متعوذًا لا بد أن يأخذ القضاء مجراه ولا بد أن ينال هذا القاتل الجزاء الذي يستحقه.
إن أفضل ما يستطيع أن يقوم به بيسونات الآن ليثبت صدق نواياه وندمه على ما فعل هو التعاون مع التحقيق والمساعدة في الكشف عن دوافعه الحقيقية لارتكاب جريمته وتدمير حياة الأبرياء، فالكلام العام الفضفاض عن الندم وطلب العفو لن يجدي نفعًا ولن ينطلي على أحد، فمعرفة الدوافع الحقيقية ضروري جدًا ليس فقط لمواساة الضحايا وتضميد الجراح، ولكن لحماية المجتمع من أخطار العنف والاٍرهاب.
إن جو التخويف من المسلمين وتجييش الرأي العام ضدهم قبل المجزرة كان له بلا شك أثر بالغ على تفكير هذا القاتل، لهذا فإن هذا القاتل، إذا كان فعلاً صادقًا في ندمه، مطالب الآن بالتعاون مع القضاء والمساعدة في الكشف عن دوافعه الحقيقية
صحيح أن اعتراف القاتل بذنبه أمام القضاء سيوفر على الضحايا وعوائل الشهداء عناء مشاهدة فيلم الرعب من جديد ولكن هذا ليس إلا مجرد خطوة صغيرة جدًا على درب حماية المواطنين الآمنين، المجتمع بحاجة لمعرفة الأسباب الحقيقية للجريمة لرسم سياسات جدية وفاعلة لحماية كل أبنائه مسلمين وغير مسلمين.
هناك الكثيرون ممن يريدون اختيار الطريق السهل والاختباء وراء ألكساندر بيسونات على أنه المسؤول الوحيد عن الجريمة وهذا خطير جدًا وسيؤدي إلى عواقب وخيمة، فالذين لا يتعلمون من تجاربهم سيقضون حياتهم يكررون نفس الأخطاء، يجب أن يعرف الجميع أن جريمة ألكساندر بيسونات لم تنتج عن فراغ، فمجزرة الـ29 من يناير/كانون الثاني 2017 ما قبلها ولها ما بعدها،
إن جو التخويف من المسلمين وتجييش الرأي العام ضدهم قبل المجزرة كان له بلا شك أثر بالغ على تفكير هذا القاتل، لهذا فإن هذا القاتل، إذا كان فعلاً صادقًا في ندمه، مطالب الآن بالتعاون مع القضاء والمساعدة في الكشف عن دوافعه الحقيقية.
يحب ألا يغيب عن الأذهان أيضًا أن الحملة ضد الإسلام والمسلمين لم تتوقف مساء يوم المجزرة، فبعد المجزرة تلقى المسجد الكبير في كيبيك رسائل كراهية، وتعرضت العديد من المراكز الإسلامية في كيبيك للاعتداء والتخريب، وكانت حملة الكراهية والعنصرية التي رافقت الاستفتاء على إنشاء مقبرة إسلامية في مدينة سانت أبولينار في ضواحي العاصمة كيبيك، وكان أيضًا إشعال الحريق في سيارة رئيس مجلس إدارة مسجد كيبيك الكبير.
كل هذه الأمور حدثت وأليكساندر بيسونات قابع وراء جدران السجن، لذا لا يمكن الاختباء ورائه والادعاء أن كل شيء قد انتهى بمحاكمته وتنفيذ العقوبة به، إن ألكسندر بيسونات قبل أن يكون قاتلاً كان ضحية، قبل أن يزرع رصاصه الآثم في صدور الأبرياء تلقى في رأسه رصاصًا من نوع آخر، تلقى كلمات سامة موبوءة أشد خطرًا من الرصاص، لهذا لا بد للمجتمع، لحماية نفسه وحماية الأجيال القادمة، من معرفة الأسباب الحقيقية والعمل على وضع حد لخطاب الحقد والكراهية والتمييز بين المواطنين، فنار الكراهية إذا اشتعلت لا تبقي ولا تذر وتلتهم في طريقها الجميع ولا بد للجميع من وضع حد لها لبناء المجتمع الآمن الذي ينعم فيه كل أبنائه بالأمن والأمان.