أصدرت محكمة أمن الدولة في أبوظبي، الأربعاء 10 يوليو/تموز 2024، أحكامًا تتراوح بين 15 سنة والمؤبد بحق المتهمين في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”الإمارات84″ بتهمة “تأسيس تنظيم إرهابي بهدف محاولة قلب نظام الحكم”، فيما تعود جذور القضية إلى عام 2013.
ويأتي هذا الحكم الجائر رغم المناشدات الدولية والحقوقية بإسقاط التهم المنسوبة والإفراج عن جميع المدانين في تلك القضية، فيما وصفه تحالف من عدد من المنظمات الحقوقية بـ”غير العادل” لما شاب المحاكمة من انتهاكات خطيرة للإجراءات القانونية والواجبة والمحاكمات العادلة.
ويرسخ هذا الحكم ما توصلت إليه التقارير الحقوقية الصادرة بحق الإمارات، التي وصفتها بأنها بيئة خصبة لانتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الحريات العامة، رغم مساحيق التجميل التي تستخدمها السلطات الحاكمة لترميم صورتها المشوهة.. فما قصة تلك القضية التي تضاف إلى سجل الدولة النفطية المشين حقوقيًا؟
“الإمارات 84”.. جذور القضية
في ديسمبر/كانون الأول 2023 حولت السلطات الأمنية الإماراتية أكثر من 80 مواطنًا للمحاكمة بتهمة تأسيس وتمويل تنظيم إرهابي وفقًا لقانون مكافحة الجرائم الإرهابية لعام 2004، وفي السابع من الشهر جرت وقائع الجلسة الأولى لتلك المحاكمة.
المقصود هنا بالتنظيم الإرهابي المزعوم هو “لجنة الكرامة والعدالة” التي أسستها جمعية الإصلاح الإماراتية المعنية بالحريات والحقوق عام 2010، وكانت تهدف إلى تحسين السجل الحقوقي داخل الدولة وتسليط الضوء على مواطن الخلل بهدف الإصلاح.
استندت المحكمة في محاكمة المتهمين إلى المادة (3) و(12) من قانون مكافحة الجرائم الإرهابية 2004، حيث وجهت إلى نصف المتهمين تقريبًا تهمة تأسيس تنظيم إرهابي، والنصف الآخر تمويل تنظيم إرهابي، وبحسب المادتين فإن عقوبة تأسيس تنظيم إرهابي تتراوح بين السجن المؤبد والإعدام، أما تمويل التنظيم فتتراوح عقوبته بين السجن المؤقت أو السجن المؤبد.
من أشهر الأسماء التي تضمنتها القائمة المدافع الحقوقي الإماراتي أحمد منصور والأكاديمي ناصر بن غيث، بجانب 3 نشطاء في المنفى: حمد الشامسي، أحمد الشيبة النعيمي، محمد بن صقر الزعابي، علاوة على عدد آخر من الحقوقيين منهم: حسين منيف الجابري، حسن الجابري، سلطان بن كايد محمد القاسمي، راشد عمران الشامسي، خالد الشيبة النعيمي، إبراهيم الياسي، محمد الركن ، عبد السلام درويش المرزوقي، فؤاد الحمادي، هادف العويس، محمد المنصوري، خليفة النعيمي، محمود الحوسني، منصور الأحمدي.
ليست قضية جديدة
– اتضح فيما بعد أن قضية “الإمارات 84” ليست قضية جديدة كما حاول الإعلام الإماراتي الترويج لها، فهي في الأصل امتداد للقضية المعروفة إعلاميًا بمجموعة “الإمارات 94” وهي عبارة عن مجموعة من النشطاء والأكاديميين وجهت لهم السلطات الإماراتية في 2013 تهمة تأسيس تنظيم سري يهدف إلى قلب نظام الحكم، بسبب توقيعهم على عريضة آنذاك تطالب بإجراء إصلاحات ديمقراطية في البلاد، وقد صدر بحق 69 منهم أحكام تتراوح بين 7 – 15 سنة.
– معظم المتهمين في قضية “الإمارات 84” ينتمون إلى مجموعة “الإمارات 94” كما أن التهم هي ذاتها دون تغيير، ما يعني أن ما حدث هو إعادة محاكمة لذات الأشخاص المحكوم عليهم من قبل، وليس تنظيمًا جديدًا كما روج الإعلام الإماراتي.
– السلطات الإماراتية بررت هذا الأمر بشأن إعادة المحاكمة بأن المتهمين كانوا قد أخفوا هذه الجريمة وأدلتها، في إشارة إلى التنظيم السري (لجنة الكرامة والعدالة) قبل ضبطهم ومحاكمتهم في القضية رقم (17) لسنة 2013 جزاء أمن الدولة.
– في أول يونيو/حزيران 2024 كشفت وكالة الأنباء الإماراتية (وام)، عن إحالة 84 متهمًا إماراتيًا إلى محكمة أبو ظبي الاتحادية لمحاكمتهم عن “جريمة إنشاء تنظيم سري آخر بغرض ارتكاب أعمال عنف وإرهاب على أراضي الدولة”، فيما حاولت المواقع واللجان الإماراتية إيهام القارئ بأن البلاد نجحت في إفشال عملية إرهابية جديدة بإلقائها القبض على تنظيم جديد كان يخطط لقلب نظام الحكم في البلاد.
– وهنا تساؤل يفرض نفسه: ما دوافع السلطات الإماراتية في إعادة محاكمة هذا التنظيم بذات التهم مرة أخرى مع إضافة أخرى جديدة؟.. رغم اقتناع البعض بتلك السردية التي عزف الإعلام على أوتارها لعدة أيام، فإنه مع مرور الوقت تبين الدافع الرئيسي من وراء تلك المحاكمة، إذ إن كثيرًا من أعضاء مجموعة “الإمارات 94” ممن صدر بحقهم أحكام في 2013 قد انتهت فترة عقوبتهم، والبعض الآخر شارفت فترة عقوبته على الانتهاء، وفي ظل رفض السلطات الإفراج عنهم كان لا بد من إعادة محاكمتهم في قضية جديدة تُبقيهم في السجن لسنوات قادمة بصورة قانونية لا تثير الانتقادات بحقهم.
محاكمات غير عادلة
– قالت 6 منظمات حقوقية من بينها “هيومن رايتس ووتش”، في بيان مشترك لها، إن المحاكمة غير عادلة وتفتقد لمعايير النزاهة والعدل وتتعارض مع أبجديات القانون الدولي، فيما قالت الباحثة في “رايتس ووتش”، جوي شيا: “هذه الأحكام الطويلة المبالغ فيها تهزأ بالعدالة وتمثل مسمارًا آخر في نعش المجتمع المدني الناشئ في الإمارات، قدمت الإمارات عشرات من أكثر المدافعين الحقوقيين وأعضاء المجتمع المدني تفانيًا إلى محاكمة جائرة مخزية مليئة بانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة وادعاءات التعذيب”.
– قال مدير “مركز مناصرة معتقلي الإمارات” محمد الزعابي: “من الواضح أن هذه المحاكمة كانت مجرد واجهة تهدف إلى إدامة احتجاز سجناء الرأي حتى بعد انقضاء مدة محكوميتهم. هذه المحاكمة تنتهك مبدأ عدم المحاكمة مرتين على الجريمة نفسها، وتتعارض أيضًا مع جميع أشكال الأعراف القانونية”.
– شهادات أقارب المتهمين كشفت هي الأخرى عما شاب المحاكمة من عوار قانوني وحقوقي وإنساني، حيث قال أحدهم إن القاضي “لقّن الشاهد ماذا يقول”، وآخر أكد أن القاضي قاطع وتدخل في أثناء الشهادة بتصويب الشاهد وإملاء أقواله عليه، فيما كشف “مركز مناصرة معتقلي الإمارات” إن أحد ضباط الشرطة سلم الشاهد ورقة، واستخدمها الشاهد بعد ذلك للإجابة على الأسئلة المتبقية.
– اتسمت المحاكمات بالسرية ومنُع المحامون من الوصول إلى الملفات والوثائق بحرية، إذ لم يتمكنوا من الحصول على نسخة مادية من الوثائق، واكتفت هيئة المحكمة باستعراضها على شاشة في غرفة آمنة تحت إشراف عناصر الأمن لاطلاع المحامين عليها كما لم يُسمح لهم بالتقاط صور للوثائق ولم يُسمح لهم إلا بتدوين ملاحظات مكتوبة بخط اليد.
– قصر مدة الجلسات، إذ لم تتجاوز الساعتين فقط، بما لا يسمح باستعراض الأدلة والوثائق ومرافعات المحامين، فيما لم يُسمح لكل المعتقلين بالدفاع عن أنفسهم، إذ انتقي بعضهم ورُفض معظمهم.
– بحسب ما كشفه المعتقل في القضية، عبد السلام درويش، فقد أبلغهم المحقق الذي حقق معهم بأن القضية محسومة سلفًا، وأنه سيتم إدانتهم في جميع الأحوال حتى يتم تبرير احتجاز المعتقلين في القضية لأكثر من سنتين رغم انتهاء محكومياتهم، فيما قال المعتقل الدكتور محمد المنصوري إن النيابة حرفت أقواله، مضيفًا: “أنا كنت مستشار حاكم رأس الخيمة ولا أحتاج أن أقوم بتأسيس جماعة أو لجنة أو مظاهرات حتى أقوم بالتغيير في المجتمع”، نافيًا صحة التسجيل الصوتي المنسوب إليه ومنوهًا إلى أن ما جاء في التسجيل هو صوت عميل أمن الدولة خليل صقر، وهو ما تم إثباته في ملف القضية الأولى.
– هذا بخلاف الحبس الانفرادي وتدهور الحالة الصحية للمعتقلين، وعدم السماح بزيارة الأهل والمحامين ولجان الدفاع، فضلًا عن الضغوط التي تعرض لها المتهمون للحيلولة دون الكشف عما يتعرضوا له من انتهاكات داخل محبسهم.
تنديد حقوقي
– نددت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بالصمت الدبلوماسي إزاء تلك المحاكمة، مطالبة في بيان لها حلفاء الإمارات بما فيهم أمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي بالخروج عن صمتهم بشأن تلك المحاكمة وضرورة إرسال مراقبين.
– كشف مدير مركز الخليج لحقوق الإنسان، خالد إبراهيم، أن محاكمة “الإمارات 84” هدفها الأساسي إبقاء الناشطين الإماراتيين في السجن والقضاء عليهم تمامًا، مضيفًا “إنهم مواطنون أبرياء قد أخلصوا لبلدهم الإمارات وحققوا إنجازات كبيرة في حياتهم تجعل من الواجب على السلطات تكريمهم بدلًا من المعاملة القاسية اللاإنسانية”.
– الناشطة في منظمة العفو الدولية، سيما واتلينغ، قالت: “أبو ظبي تسخر من العدالة من خلال إعادة محاكمة 84 إماراتيًا بشكل جماعي، معظمهم خلف القضبان بالفعل بعد أن أنهوا فترة عقوباتهم إثر محاكمة جماعية غير عادلة سابقة”، مضيفة في حديثها لمركز مناصرة معتقلي الإمارات، أنه لا يمكن إلا أن يُنظر إلى السلطات الإماراتية على أنها لا تزال خائفة من الانتقادات غير العنيفة للمتهمين، على الرغم من أنها عاقبتهم بشدة بالفعل. ولذلك فإنهم يحاولون بكل الوسائل إبقاءهم خلف القضبان من أجل إسكاتهم إلى الأبد، موضحة أن الإمارات ترسل “بوقاحة” رسالة مخيفة إلى أي شخص يجرؤ على أن يكون له رأي مختلف عن رأيها.
– الباحثة في مجموعة “منًا” لحقوق الإنسان، علقت على المحاكمة بقولها: “أشعر بحزن شديد عندما أشاهد محاكمة (الإمارات 84) الجارية والثقل الذي يشكله ذلك على عائلات الضحايا، جميع المتهمين هم من المدافعين عن حقوق الإنسان الذين قضوا (أو يقضون) أحكامًا مطولة بسبب محاكمة (الإمارات 94) السابقة لمجرد مطالبتهم بإجراء إصلاحات ديمقراطية في بلادهم”، وتابعت “تجري المحاكمة حاليًا بشكل سري، لكن التقارير الموثوقة أظهرت أن هناك انتهاكات جسيمة للحقوق في الإجراءات القانونية الواجبة وروايات عن التعذيب”، مبدية قلقها حيال التعتيم الإعلامي على هذه المحاكمة.
الإمارات بيئة خصبة للانتهاكات
– وصفت منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” الإمارات بأنها بيئة خصبة لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان من بينها معاملة العمال المهاجرين، واستخدام التعذيب، ومضايقة المدافعين عن حقوق الإنسان، والحق في حرية التعبير، وافتقار القضاء للاستقلالية.
– المنظمة قدمت حزمًا من التوصيات للدول المشينة حقوقيًا خلال الدورة الرابعة من الاستعراض الدوري الشامل للإمارات، تحث على إجراء إصلاحات في مجال حقوق الإنسان في مختلف المجالات، إذ تم تقديم 323 توصية إلى أبو ظبي التي قبلت منها 198 فقط.
– قال مركز “الإمارات لحقوق الإنسان” في بيان بمناسبة مرور 50 عامًا على إنشاء جهاز أمن الدولة في الإمارات، إن الدولة الخليجية تنتهج سياسة ممنهجة لقمع حرية التعبير وحظر الحريات العامة تحت زعم الحفاظ على الأمن في المنطقة، مضيفًا أن السلطات الإماراتية “تعرض المئات للمضايقات، أو الملاحقة غير المشروعة، أو سحب الجنسيات، أو الاحتجاز التعسفي، أو إصدار أحكام بالحبس عقب محاكمات جائرة، وذلك في سياق جهد منسق يهدف إلى تخويف الناس وإسكاتهم”.
– دعت منظمات “هيومن رايتس ووتش” و”منا لحقوق الإنسان” و”مركز مناصرة معتقلي الإمارات”، سلطات أبو ظبي إلى الوقف الفوري للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها جهاز أمن الدولة بحق المواطنين المعتقلين في السجون.
– أدرج المؤشر الصادر عن مجموعة “Article 19” الدولية المتخصصة بالحريات، الإمارات في الخانة الحمراء بعد حصولها على 6 درجات فقط من أصل مائة وتعني أن حرية التعبير تعاني من أزمة خانقة في الدولة الخليجية، لافتًا إلى أنها واحدة من أسوأ 6 دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجال تقييد الحريات وحجب المعلومات.
بهذا الحكم الجائر الصادر بحق النشطاء والمعارضين، تضيف الإمارات صفحة سوداء جديدة إلى سجلها الحقوقي المشين، داخليًا وخارجيًا، لتطيح بالمليارات التي تنفقها لأجل تحسين صورتها، ولتسقط الأقنعة المزيفة التي طالما ارتدتها الدولة الصغيرة الباحثة عن مكان إقليمي ودولي بأي ثمن.