لماذا استعمل الفنان الإيطالي الشهير “ليوناردو دافنشي” تقنية المرآة في الكتابة ليكتب الحروف اللاتينية من اليمين إلى اليسار؟ هذا يبدو مرهقًا للغاية، ومُغايرًا لطبيعة اللغة وربما مرهق لليدين أولًا وللدماغ ثانيًا، ربما تكون هذه أفكارك الأولية حينما تعرف أن دافنشي كان يكتب اللاتينية من اليمين إلى اليسار، إلا أنه لم يكن يحاول تصعيب الأمر على نفسه، بل بالعكس كان يحاول تيسيره، فالبنسبة لدافنشي كانت الكتابة من اليمين إلى اليسار ملائمة أكثر لفطرة اليد والأصابع.
قلّما كان اهتمامنا بالعلم الذي يفسر لماذا يكتب البعض من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، أو من أعلى إلى أسفل أو العكس، بل انصب الاهتمام بشكل أكثر على جدلية الأيمن والأعسر في الكتابة، وذلك بسبب ارتباط الأعسر، وهو من يكتب بيده اليُسرى، بكثير من الأساطير والخرافات الدينية، فارتبط بالأفعال الشيطانية في القرن الثامن عشر في كثير من المناطق حول العالم مثل الأمريكتين وأوروبا التي قننت عقوبة الأعسر، حيث كان يُعاقب كل من يكتشف أمره بأنه أعسر بأنوع مختلفة من العقوبات.
استمرت جدلية الأيمن والأيسر كثيرًا في بلاد مختلفة، فكانت هناك جدليات دينية عند المسلمين كذلك تُفيد بأن فعل أي شيء باليد اليُسرى مثل تناول الطعام أو الكتابة فعل من أفعال الشيطان، إلا أن في الواقع لم تكن جدلية الأيمن والأعسر تلك هي الأكثر أهمية بخصوص موضوع الكتابة، بل كانت تتعلق بسؤال تساءله الكثير من خبراء اللغات والمهتمين بعلوم اللغات والأدب وهو: لماذا كُتبت أغلب الأديان السماوية من اليمين إلى اليسار؟
كتبت اللغة العربية والعبرية والآشورية واللغة الآرامية من اليمين إلى اليسار، والآرامية هي أقدم اللغات السامية الموجودة إلى اليوم وتُعتبر المصدر الأساسي لاتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار وتضم في في جعبتها لغات ما زالت موجودة إلى يومنا هذا مثل العربية والعبرية، وهناك لغات اندثرت مثل اللغة الكنعانية.
A French painter in 1929 on the practical advantages of writing in #Arabic: pic.twitter.com/z17akJIwYl
— Şeyda (@seydabil) March 25, 2018
دافنشي عن الكتابة من اليمين إلى اليسار: “توائم الكتابة من اليمين إلى اليسار الحركة الطبيعية لليد، وبالتبعية تكون الكتابة باللغة العربية بالنسبة للكتاب أسهل، ويكون الضعف في أعصاب اليدين أقل مما يكون عليه في حالة الكتابة من اليسار إلى اليمين كما هو في اللاتينية، التي اعتبرها مُغايرة لحركة اليدين الطبيعية”، وفي النهاية استنتج دافنشي أن الكتابة من اليمين لليسار لمن يكتبون بيديهم اليُمنى، والكتابة من اليسار لليمين تخص من يكتبون بيدهم اليُسرى.
لماذا دُونت لغات الكتب السماوية من اليمين إلى اليسار؟
عاشت اللغة الآرامية جنبًا إلى جنب منذ آلاف السنين مع لغات ولهجات مختلفة مما أولد منها فروعًا أنتجت لغات عديدة، إلا أن ما دّون بالآرامية وُجد في التلمود والكتاب المقدس، إذ كان حال التحدث بالآرامية في بلاد الشرق الأوسط آنذاك يشبه حال اللغة العربية الآن المُتحدث بها في كثير من بلاد الشرق الأوسط.
اللغة الأرامية “من أصول اللغة العربية” منقوشة
هناك عدة سيناريوهات متعلقة بسر كتابة لغات الكتب السماوية من اليمين إلى اليسار، أكثرها انتشارًا أن الناس اعتادوا أن يتحكموا باليد اليُمنى أكثر من اليُسرى، ولأن أغلب النصوص السماوية وبداية عصر التدوين في الحضارات المختلفة وحتى من لا يعتمد منها على دين سماوي مثل الحضارة الفرعونية بدأت بالنقش على الحجر، فكان الأسهل على النحات أن يمسك المنقاش باليد اليسرى وفي مواجهته المطرقة باليد اليُمنى لنقش النصوص، وبهذا يبدو الأمر منطقيًا أن تتحرك النصوص من اليمين إلى اليسار لأنه يُناسب حركة الكفين الطبيعية.
تبنت لغات غير سامية اتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار، مثل اللغة الحسّية، إحدى اللغات الأناضولية والفارسية والسومرية والأردية، وفروع من اللغات التركية
بدأت الحضارات تتبع طريقة “الانعكاس” أو “التطابق” في نقل النصوص، وهو ما يعني تبني نفس حركة الاتجاه المكتوبة بها النصوص، فعلى سبيل المثال، اعتاد سكان مصر وفلسطين ترجمة اللغات الهيروغليفية أو الهيري المُشتقة من الهيروغليفية أيضًا إلى اللغات السامية ونقشها، مثل الكلمة المصرية أو الفرعونية “نت” التي تعني الماء، تحولت في اللغة السامية في أثناء الترجمة إلى “ميم”، وهو ما تطور في اللغة العربية إلى “مياه” وفي اللغة اللاتينية إلى حرف “M”.
يمكن رؤية حروف هذه الكلمات المنقوشة على الحجر في المعابد المصرية القديمة الموجودة في شبه جزيرة سيناء، يوجد هناك معبد “سرابيت الخادم” الموجود بين جبال سيناء لأحد الآلهة المصرية، الذي تعود فيه النصوص المنقوشة على الأحجار للنصوص المترجمة للغات السامية من الهيروغليفية وتم فك شفرته عام 1916.
ما علاقة حركة اليدين والكتابة من اليمين إلى اليسار بالدماغ؟
هل خطر في بالك هذا السؤال من قبل؟ كيف تعمل حركة اليدين في أثناء الكتابة؟ لحركة اليدين ميكانيكية حساسة جدًا ومعقدة بين العضلات والمفاصل تسمح لعدد ضخم من الحركات المختلفة التي تقدر الكف على القيام بها، حيث توزع هذه الحركات بشكل دقيق ومناسب لحركة اليدين، ولكن اليد ضعيفة جدًا في الوقت ذاته، إذ تكون الأوتار والألياف محمية بطبقات رقيقة جدًا من الجلد والدهون في شكل يجعلها غير محمية بشكل كامل ويؤثر على قدرتها على أداء بعض الحركات.
ترتبط حركة اليدين بالسيطرة الدماغية، كما ترتبط بعلم الـ”psychopathology” وهو علم دراسة الأمراض العقلية، ولهذا فإن طريقة واتجاه الكتابة يؤثران على جوانب الإدراك في الدماغ، فعلى سبيل المثال، من يكتبون من اليسار إلى اليمين كما هو الحال في بعض اللغات اللاتينية مثل الفرنسية والإنجليزية نجد أن جوانب إدراكهم لبعض الموضوعات تختلف عمن يكتبون من اليمين إلى اليسار كما هو الحال في اللغة العربية.
نجد فيمن يكتب من اليسار إلى اليمين استجابة أسرع وأكبر للأرقام الصغيرة (مثلًا من 1-4) في الجانب الأيسر، بينما تكون الاستجابة الإدراكية أقل حينما تكون الأرقام كبيرة في الجانب نفسه وتزيد في الجانب الأيمن، بينما يكون الوضع معكوسًا تمامًا على المتحدثين باللغة العربية ويكتبون بها، فنجد استجابات قوية وسريعة للأرقام الصغيرة على الجانب الأيسر والعكس على الجانب الأيمن.
الاتجاه في الكتابة يؤثر على الأبعاد الزمانية والمكانية في الإدراكات العقلية، وهذا ينعكس بالتبعية على الأنشطة الثقافية بما يتضمنه من الكتابة والنصوص والفن
هذا يعني وجود علاقة سببية بين اتجاه الكتابة سواء كان من اليمين إلى اليسار أو العكس، أو من أعلى إلى أسفل أو العكس على جوانب الإدراك وعلاقتها بما يُعرف بـ”خط الرقم العقلي” (mental number line) فيما يُعرف بتأثير سنارك (SNARC) الذي يربط اتجاه الكتابة بالمدارك العقلية، كما أوضحت بعض الدراسات اللغوية أن اتجاه الكتابة لا يؤثر فقط على المدارك العقلية بخصوص المعلومات الرقمية المذكورة سابقًا، بل تؤثر أيضًا على المفهوم العقلي للـ”التسلسل”، حيث يكون التصوير المكاني للمعلومات داخل العقل يختلف بحسب اختلافات اتجاهات الكتابة أيضًا.
كان هذا واضحًا حينما سُئل متحدثو لغات عربية وعبرية وإنجليزية عن ترتيب صور لوجبات اليوم (الفطور، الغداء، العشاء) في صف، فمال الإنجليز لترتيبها من اليسار إلى اليمين بينما رتبها العرب من اليمين إلى اليسار بينما رتبها متحدثي العبرية بشكل مختلط.
ما اللغة الأسهل؟
عند كتابتكم بالقلم والورقة، أي اللغات تجدونها أكثر سهولة وراحة لأيديكم من حيث اتجاه حركة اليد من اليمين لليسار أو العكس؟ ✍🏻
— نون بوست (@NoonPost) April 3, 2018
شاركونا
لا يستنتج هذا التقرير أن الكتابة بلغة ما أفضل من غيرها، ولا يُفضل اتجاه كتابة ما على الاتجاهات الأخرى، ولكن هناك أدلة علمية وتاريخية تُثبت أن الاتجاه من اليمين إلى اليسار هو الأقرب والأسهل لحركة الكفين على عكس جدال جانب اللغات اللاتينية أنها الأسهل بالنسبة للناس عن الكتابة من اليمين إلى اليسار التي يظنون أنها تستغرق وقتًا أطول من الكتابة باللاتينية، إلا أن الدراسات اللغوية أثبتت العكس.
اتضح من نتائج بعض الدراسات اللغوية أن من يكتبون باللغة العربية يميلون إلى مسك القلم بطريقة صحيحة ومناسبة أكثر لوضعية الأصابع أكثر ممن يكتبون باللغات اللاتينية، إذ يميل كتاب اللغة العربية إلى مسك القلم بميل بدرجة معينة ما بين 45 – 90 درجة مئوية، بينما لا يميل كتاب اللغات اللاتينية على فعل ذلك وهو ما يرفع من احتماليتهم في مسك القلم بشكل خاطئ.
كما ساعد على ذلك استخدام الأساليب الأولية للتدوين والكتابة، ومنها النقش على الحجر والحبر على القلم أو الخشب الذي ساعد بشكل كبير على الاعتماد على الاتجاه من اليمين إلى اليسار أكثر، الذي يُحدد فيما بعد كيفية تخزين المعلومات وتسلسلها في الوظائف الإدراكية للدماغ.