حملت النكبة، كحدث هدام وكارثة شاملة، تداعياتها السياسية والثقافية على الشعب الفلسطيني كافة، إذ ضربت وجوده كمجموعة قومية؛ نتيجة لذلك وجد فلسطينيو الداخل أنفسهم تحت اضطهاد حكم المؤسسة الإسرائيلية، يعيشون عزلة وتهميشًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا من الحركة الوطنية الفلسطينية.
وفي صراعهم من أجل مستقبل شعبهم طورت الجماهير العربية في الداخل حركات نضالية قادها الشباب على غرار الحركات الطلابية العربية في جامعات الداخل الفلسطيني، تعيش هذه الحركات اليوم مدارها الأصعب في ظل الفاشية الإسرائيلية والترهيب وحظر النشاط الطلابي.
إن من أهم الأبعاد الثقافية للحركة الطلابية في الداخل أنها تجمع بين العمل النقابي والنشاط الطلابي، أي بين المدني الذي يرعى شؤون الطلبة، والسياسي كإطار فلسطيني يهدم سور الجامعة الإسرائيلية ويلتحم بشبعه وقضاياه.
اتحاد لجان الطلاب العرب الذي تأسس بالجامعة العبرية حرك الجماهير فعليًا لهبة يوم الأرض في 30 من مارس/آذار عام 1976
بعد عام 1970 بدأت نواة العمل الطلابي في الداخل الفلسطيني بالتشكل، فالتعليم لم يعد مقتصرًا على النخب والبرجوازيات؛ مما أتاح وصول جماعات سياسية ودينية ذات رؤى متنوعة تجتمع في الجامعات. وعلى مدار أربعة عقود لعبت الحركة الطلابية دورًا مهمًا في النضال الفلسطيني يمكن تقسيمه إلى أربعة أطوار.
مراحل الحراك الطلابي في الداخل
– مرحلة التنظيم والبلورة: بدأت أواخر الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ناضل الطلاب العرب آنذاك ضد الحكم العسكري المحتل الذي حاول عزلهم عن شعبهم العربي وضد السياسات الإسرائيلية المجحفة بحق الطلاب بالسكن الجامعي، وعملوا على تحسين ظروف الأسرى بسجن الرملة وكذلك خرجوا للمدارس العربية للتوعية بقيمة التعليم كسلاح ثقافي تحرري.
كان للطلاب العرب دور بارز في هبّة يوم الأرض عام 1976
لعبت لجنة الطلاب العرب بالقدس بعد حل “حركة الأرض” دور المنبر العربي الخالص الوحيد، والمتأثر بالناصرية الذي يبث الوعي والصمود بين جماهير الداخل المحتل ويربط الفلسطيني بالمحيط العربي، كما أنشئت حركة أدبية شعرية رفدت القضية الفلسطينية بأدب المقاومة.
برز في السبعينات وحتى أواخر الثمنينات العمل الطلابي الإسلامي الذي ساهم بنشأته رائد صلاح، انبثق عن هذه المرحلة الأحزاب السياسية، البرلمانية وغير البرلمانية
ومن الجدير بالذكر أن اتحاد لجان الطلاب العرب الذي تأسس بالجامعة العبرية حرك الجماهير فعليًا لهبة يوم الأرض في 30 من مارس/آذار عام 1976.
– المرحلة الفعالة أو الذهبية: أواسط السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات كانت النقطة المفصلية في إقامة الاتحاد القطري للطلاب العرب وكان الدكتور عزمي بشارة أول رئيس له وصاحب باع كبير في تأسيسه وكانت الريادة في حينها للحركة الطلابية في الجامعة العبرية في القدس، فقد كانت أكثر التحامًا بالحركات الطلابية في جامعة بيرزيت والضفة، فأقامت “لجنة التضامن مع جامعة بيرزيت” كرد حاسم على السياسة الصهيونية بطمس الهوية وعزل الفلسطينيين داخل كيانات منفصلة.
تميزت هذه المرحلة بكثرة المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات والنضال في قضايا محورية أبرزها قضايا الأسرى السياسيين.
عممت وقتذاك عريضة تطالب المعاهد الإسرائيلية بملاحقة الطلاب العرب باعتبارهم مؤيدون ل “م.ت.ف”، ومن أبرز وجوهها محمود محارب كناشط في صفوف الحركة الوطنية التقدمية التي نجحت عام 1977 في إدخال وعي المقاطعة لانتخابات الكنيست بين الجماهير والطلاب العرب، وهذا كان حراكًا مناوئًا لحركة جبهة الطلاب العرب التي نادت بالسلام والمساواة.
أواسط الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات، تلقى العمل الطلابي ضربة موجعة نتيجة لاتفاقية أوسلو التي أحبطت فلسطينيي الداخل وعزلتهم مجددًا عن محيطهم العربي والفلسطيني
وبرز في هذه المرحلة كذلك العمل الطلابي الإسلامي الذي ساهم بنشأته رائد صلاح، انبثق عن هذه المرحلة الأحزاب السياسية، البرلمانية وغير البرلمانية، بالشكل الذي نعرفه اليوم: التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية بشقيها الجنوبي والشمالي وحركة أبناء البلد والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وكان قادتها في حينه نشطاء في صفوف الحركة الطلابية مثل الدكتور عمر سعيد وعوض عبد الفتاح والدكتور محمود محارب وأمال رابي وعصام مخول وعايدة توما عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
– طور الخمول: أواسط الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات، تلقى العمل الطلابي ضربة موجعة نتيجة لاتفاقية أوسلو التي أحبطت فلسطينيي الداخل وعزلتهم مجددًا عن محيطهم العربي والفلسطيني، مما أدخل هذه الحركات في مناكفات سياسية وتحالفات غير مسبوقة بين الجبهة والحركة الوطنية أدى لتراجع العمل الطلابي.
وانقسمت حينها الحركة الإسلامية نتيجة لخلاف بخصوص أوسلو، فأصبحت بشقها الجنوبي حزبًا برلمانيًا له ذراع طلابي نشط في المرحلة اللاحقة، والشق الشمالي الذي أسس مجموعة منظمات مجتمع مدني وكون ذراعًا طلابيًا أساسيًا في المرحلة التالية أيضًا.
– المرحلة الحاليّة: منذ بداية القرن الواحد والعشرين حتى يومنا هذا، ما يميز هذه المرحلة أن الحركة الطلابية أصبحت واسعة الانتشار توجد تقريبًا بكل المعاهد ومؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية، وكذلك صعود الحركة الإسلامية متمثلة بحركة “اقرأ” الطلابية التي انصب نشاطها الأساسي على دفع العمل الطلابي وإحيائه من جديد عبر دفع الطلاب وتمكينهم من الدخول للجامعة وصقل ثقافتهم وفكرهم لرفع مستوى التعليم في المجتمع الفلسطيني بالداخل.
لكن حُظرت نشاطات حركة “اقرأ” وأُخرجت خارج القانون عام 2015، وذلك نتيجة لحظر نشاط الحركة ككل، إضافة لذلك، شكلت الحركة الجنوبية ذراعًا طلابيًا أطلق عليه اسم “حركة الرسالة” التي نشطت منذ عام 1997 بصيف وأسماء مختلفة بدعم من مؤسسة “القلم” التابعة للحركة الجنوبية، إلا أن الرسالة اليوم غير حاضرة في الجامعات بعد أن أعلنت عدم تبعيتها بأي شكل لمؤسسة القلم عام 2012.
احدى وقفات الطلبة العرب في جامعة “تل أبيب” رفضًا للتضييق والملاحقة الأمنية الشهر الماضي
من أبرز الحركات التي أُعيد إحياؤها: “التجمع الطلابي” المنبثق عن الحزب السياسي البرلماني، فكان للتجمع دور في صد كل برامج الأسرلة والتغريب في المجتمع عبر تعزيز الهوية الوطنية في الجامعات عبر فعاليات ومحاضرات وتنظيم احتجاجات ضد الاحتلال.
من الجدير بالذكر أنه في هذه الفترة نشطت وجوه نسائية في صفوف التجمع الطلابي مثل سهير أسعد الجامعة العبرية في القدس وهبة يزبك جامعة حيفا ونيفين أبو رحمون وخلود أبو أحمد بصفد، كما كان للتجمع حضور لافت في التصدي للتطبيع العربي في الجامعات الإسرائيلية، وعليه عوقب أعضاء من الحركة، إضافة لطلاب مستقلين آخرين، بسبب نشاطهم؛ حيث أوقفت المؤسسة الإسرائيلية تعليمهم ووضعت العثرات بطريق مستقبلهم.
التقت الظروف جميعها من مآسي العالم العربي والانقسام الفلسطيني وحالة الركود واليأس عند فلسطينيي الداخل واستشراس المؤسسة الإسرائيلية في خنق الحراك الطلابي الفلسطيني
وكان آخر المواقف حين تصدت الحركة الطلابية في جامعة تل أبيب للمطبع المصري سعد الدين إبراهيم (أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومدير مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية) الذي زار جامعة تل أبيب في نشاط تطبيع أكاديمي.
على إثر الاحتجاج أحيل الطالبان يوسف طه وطارق طه من التجمع الطلابي لـ”لجنة طاعة”، وسيبت بقضيتهم خلال الأيام القادمة، في حين اقتصر دور الحركة الشيوعية على النوادي الثقافية والعمل النقابي، وفي هذا الشأن قال علي زبيدات (ناشط عن التجمع الطلابي): “الحراك الطلابي تلقى عددًا لا بأس به من الضربات أردته مُنتكسُا مكسور الخاطر”.
إذ التقت الظروف جميعها من مآسي العالم العربي والانقسام الفلسطيني وحالة الركود واليأس عند فلسطينيي الداخل واستشراس المؤسسة الإسرائيلية في خنق الحراك الطلابي الفلسطيني ومحاولة قتله بُغية سد أُفق نُخب طريقها يتجه بالضرورة نحو قيادة نضالات الشعب الفلسطيني مُستقبلًا.
نهاية، يجب النهوض بالنشاط الطلابي في الداخل المحتل عبر تأسيس المؤسسات الطلابية، والتي يجب أن تتكلل بتأسيس لجان الطلاب العرب وهذا بالطبع يحتاج إلى قدر عالٍ من المسؤولية وسعة الثقافة وتغليب الوطني الجامع.