ترجمة وتحرير: نون بوست
أسفل القبة الذهبية لضريح الإمام علي، تنتشر المباني المتهالكة لمدينة النجف، المدينة العراقية المقدسة للمسلمين الشيعة، التي تستقبل جحافل الزائرين المقدر عددهم بالآلاف. وفي حين ينحني الزوار العرب بتؤدة أثناء عبورهم بمحاذاة الضريح، يجلس الإيرانيون تحت القبة مرتلين أناشيدهم الآسرة، في حين يضرب المصلون الباكستانيون على صدورهم بشكل إيقاعي.
مع وجود قدر ضئيل من الموارد والثروات، قد تبدو النجف بمثابة مكان لا يطيب فيه العيش لغير الحجاج الشيعة. لكن ذلك لم يمنع السعودية، القوة الغنية بالنفط التي تنتمي للضفة الثانية في صلب الانقسام الطائفي للإسلام، من السعي لكسب ود متساكني المدينة التي تقع على بعد 160 كم جنوبي العاصمة العراقية بغداد. ويمكن القول إن مغازلة المملكة الخليجية السنية لصفوة رجال الدين الشيعة في العراق خلال السنة الفارطة، يعكس تغيرا وتحولا جذريا على مستوى استراتيجية المملكة العربية السعودية الإقليمية.
الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر يلتقي ولي العهد محمد بن سلمان في جدة، المملكة العربية السعودية خلال السنة الماضية
لعقود من الزمن، استغلت المملكة العربية السعودية ومنافستها الشيعية إيران الانقسام القائم منذ قرون بين الطائفة الشيعية والسنية المسلمة لتغذية صراعهما في إطار رغبتهما في بسط نفوذهما في العصر الحديث. وفي الوقت الراهن، يعمل المسؤولون السعوديون على نقل عدة رسائل إلى رجال الدين الشيعة البارزين في النجف بشكل سري. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الدين المعنيين يخشون أن يتم جرهم إلى خضم حروب بالوكالة، لكن يحدوهم الفضول للاستماع إلى ما في جعبة الرياض.
خلال السنة الماضية، قام وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير بزيارة تعد الأولى من نوعها إلى العراق منذ زيارة آخر مسؤول سعودي كبير للأراضي العراقية في سنة 1990. وبين طيات هذه الزيارة، ألمح القادة العراقيون إلى إمكانية تأدية ولي العهد، محمد بن سلمان، لزيارة إلى العراق في وقت قريب، ويذهب البعض للقول إنه من المرجح أن يضيف النجف إلى محطات الزيارة. لكن وقع هذه التلميحات لم يكن جيدا في الشارع العراقي، حيث شهدت العاصمة بغداد نهاية الأسبوع الماضي اندلاع احتجاج ضد مثل هذه الزيارة، مما أجبر وزارة الخارجية السعودية يوم السبت الفارط على إصدار بيان يفيد بأنها لم تخطط لمثل هذه الزيارة بالأساس.
في واقع الأمر، ترتفع رهانات هذا التقارب المبدئي. وفي أفضل حالاتها، يمكن لجهود الرياض لإيجاد حلفاء شيعة ضد إيران أن تكلل بانتزاع فتيل الطائفية التي عاثت فسادا في المنطقة وخلفت أثرا دموية للصراع الذي طال جميع الأنحاء. وفي أسوأ الحالات، يمكن لهذا الضغط أن يحول العراق إلى واجهة أخرى للعداوات الإيرانية السعودية، التي دارت رحاها في الآونة الأخيرة في كل من اليمن وسوريا ولبنان. حيال هذا الشأن، صرح السياسي الشيعي، علي الأديب، أن “الوضع قد يبدو هادئا الآن، لكن الصراع بين هاتين القوتين بلغ ذروته، ولا أرى أن أيا من الطرفين على استعداد للتحاور. تعد هذه المنطقة حبلى بالمفاجئات”.
لطالما شجعت البلدان الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، على إعادة ارتباط السعودية بالعراق
قطع العراق علاقاته مع الدول الخليجية المجاورة منذ حرب الخليج التي جدّت أطوارها في سنة 1991، والتي كان لاجتياح الحاكم السابق صدام حسين للكويت دور في تأجيجها. وتعثرت فرص لم الشمل وإعادة العلاقات لسابق عهدها بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، حيث تم منح الأغلبية الشيعية المكبلة لمدة طويلة جملة من الصلاحيات، الأمر الذي قابله عداء غير متوقع من الفصائل السنية، وهو ما أدى إلى توجه العديد من القادة إلى طهران. نتيجة لذلك، بادر الحرس الثوري الإيراني بدعم الميليشيات الشيعية المتشددة في العراق. وفي الأثناء، اتهم العراقيون دول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية، بالتهاون في اتخاذ إجراءات بهذا الشأن، ناهيك عن تمويل الجماعات السنية المتطرفة مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في السنوات الأخيرة، التي كانت تعمل على تأجيج الحرب الأهلية في بلادهم.
لطالما شجعت البلدان الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، على إعادة ارتباط السعودية بالعراق. وتعززت هذه الجهود خلال السنة الفارطة عن طريق زيارات قام بها القائدان الشيعيان البارزان مقتدى الصدر، رجل دين والقيادي السياسي، ورئيس الوزراء حيدر العبادي للرياض. ومن جهته، يبدو أن الأمير محمد بن سلمان تبنى هذه الاستراتيجية واعتمدها طريقة لتحدي نفوذ إيران الإقليمي المتزايد، بالتزامن مع توجهه نحو إجراء تغييرات جذرية على مستوى اقتصاد بلاده. في هذا الصدد، أورد النائب العراقي المقرب من الصدر، ضياء الأسدي، أن “المملكة العربية السعودية أدركت أنها عاجزة عن مقارعة إيران دون التعايش مع المذهب الشيعي أو التغاضي عنه. في الوقت الحالي، يريد السعوديون إخبار العالم أنهم ليسوا ضد الشيعة، لكنهم ضد الشيعة المتأثرين بإيران”.
يهتف المشجعون للمنتخب العراقي لكرة القدم خلال مباراته مع السعودية في البصرة، وهي أول مباراة بين المنتخبين على الأراضي العراقية منذ ثمانينات القرن 20. وعلى الرغم من الخسارة بنتيجة 4 – 1، وعد الملك السعودي ببناء ملعب كرة قدم يتسع لحوالي 100 ألف متفرج في العاصمة بغداد
يمكننا القول إن هذه المقاربة تتماشى مع أفكار بعض الشيعة الذين يشعرون بالقلق إزاء الدور القوي والمتنامي الذي تضطلع به إيران في العراق. ولطالما كان رجال الدين في النجف متيقظين لحقيقة التدخل الإيراني. وفي الأثناء، يلعب بعض السياسيين الشيعة، الذين عمدوا إلى ركوب موجة القومية العراقية بعد هزيمة تنظيم الدولة، ورقة الهوية المشتركة مع دول الخليج العربي وذلك ضمن مخططهم لنيل الدعم لتمويل عمليات الإعمار التي تقدر بحوالي 88 مليار دولار.
بالنسبة لهؤلاء السياسيين، لا يقتصر دور التنمية على إعادة بناء العراق بعد 3 سنوات من الحرب ضد تنظيم الدولة وحسب، بل تتمحور أيضا حول إنهاء دورة العنف الطائفي التي دامت لعقد من الزمن، والتي سبقت هذه الحرب. ويرى أحمد الكناني، السياسي الشيعي الذي يترأس لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي، والذي كان في السابق منحازا للأحزاب الموالية لإيران، أن أمل العراق يتجلى في تعجيل الدول العربية بالدخول في السوق المحلية، خاصة وأن البلاد تعد جزءا من العالم العربي ويجب أن تعود إلى تحالف الدول العربية.
يتعارض الهجوم السعودي الساحر بشكل صارخ مع محاولات الأمير محمد بن سلمان السابقة لمواجهة إيران. حيث تسببت حرب المملكة الجوية ضد الحوثيين الشيعة في اليمن في مقتل آلاف الأشخاص وخلقت مستنقعا يصعب الخروج منه. من جهة أخرى، منعت المملكة العربية السعودية خلال السنة الفارطة حليفها السني سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، من مغادرة الرياض، وأجبرته على الاستقالة في محاولة منها لدفع حزب الله المدعوم من إيران خارج الحكومة اللبنانية، لكن السحر انقلب على الساحر.
أوضح مسؤولون محليون أن مكتب السيستاني، الذي يتخذ موقفا مناهضا للتدخل الإيراني، لا يزال حذرا بشأن المبادرات السعودية، لكنه حافظ على قنوات اتصال سرية مع الرياض
يبدو الوضع مختلفا في العراق، حيث يقيد الحضور القوي لإيران الطموحات السعودية، في الوقت الذي قد يتسنى فيه للقيادات السعودية أن تتصرف بشكل ملائم أكثر. وحيال هذا الشأن، صرحت إليزابيث ديكينسون، المحللة المتخصصة في الشأن الخليجي لدى مجموعة الأزمات الدولية، أن “الرياض تضع حجر الأساس لشراكة طويلة الأمد، عن طريق تبني إنجاز العمل الشاق لإعادة بناء العلاقات والروابط، فضلا عن صورتها العامة. نحن نرى إمكانية حقيقية لهذه الشراكة بين السعودية والعراق لوضع نموذج جديد بغية الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة”.
في واقع الأمر، تعتبر النجف هدفا طبيعيا للمملكة، حيث يمتلك رجال الدين البارزين في أراضيها نفوذا هائلا في العراق، وفي العالم الشيعي ضمن نطاق أوسع. من هذا المنطلق، قد تحقق الرياض قفزة نوعية من خلال تطوير علاقة تجمعها بآيات الله الشيعة في محافظة النجف. وعند الحديث عن آيات الله، لا يمكننا استثناء المحامي المسن علي السيستاني الذي يتمتع بقدر كبير من النفوذ والتأثير. ففي سنة 2014، تمكن من إرسال عشرات الآلاف من الرجال العراقيين للانضمام إلى الجماعات شبه العسكرية التي تقاتل ضد تنظيم الدولة الذي سيطر على ثلث العراق، وذلك من خلال إصداره لفتوى واحدة.
أوضح مسؤولون محليون أن مكتب السيستاني، الذي يتخذ موقفا مناهضا للتدخل الإيراني، لا يزال حذرا بشأن المبادرات السعودية، لكنه حافظ على قنوات اتصال سرية مع الرياض. وفي النجف وكامل العراق، تناشد البلاد هوية عربية مشتركة، وهو أمر لا يجمع العراق بإيران التي تتكون من أغلبية فارسية. خلال شهر شباط/ فبراير الماضي، واجه المنتخب السعودي لكرة القدم نظيره العراقي في مدينة البصرة الجنوبية، وهي المباراة الأولى من نوعها منذ ثمانينات القرن الماضي. والجدير بالذكر أن حوالي 60 ألف متفرج كان شاهدا على هذا الحدث الذي انتهى بفوز العراق برباعية مقابل هدف وحيد للمملكة. لكن ذلك لم يمنع الملك السعودي من قطع وعد ببناء ملعب كرة قدم يتسع لحوالي 100 ألف متفرج في العاصمة بغداد.
ذكر أدهم فاخر أن أحد أعضاء الوفد السعودي أرسل مذكرة إلى مجلس الأعمال الوطني العراقي، أعرب من خلالها عن المخاوف بشأن الأوضاع الأمنية والنظام البنكي العراقي، الذي يعتبره الخبراء قديما وعفا عليه الزمن، إلى جانب الفساد المتفشي في صلبه وعدم إقبال البنوك على تمويل المشاريع.
علاوة على ذلك، أرسلت المملكة وفودا من رجال الأعمال والصحفيين، الذين لم تطأ أقدام بعضهم الأراضي العراقية منذ عقود، وهو ما أدى إلى تأجيج الحنين إلى حقبة سبقت تدمير الحروب للعراق. في هذا الشأن، قال أدهم فاخر، الخبير الاقتصادي العراقي، إن بعض المندوبين بكوا أثناء تلقيهم للترحيب من طرف المسؤولين العراقيين. كما أبدى تفاجئه حيال تحمس المجتمع العراقي ونظيره السعودي للقاء بعضهما البعض.
سرعان ما أخذ هذا الحماس في التراجع، بعد أن اصطدم الزوار السعوديون بالحجم الهائل للفساد المتفشي في العراق، والدمار الذي لحق بالبنية التحتية. وقد ذكر أدهم فاخر أن أحد أعضاء الوفد السعودي أرسل مذكرة إلى مجلس الأعمال الوطني العراقي، أعرب من خلالها عن المخاوف بشأن الأوضاع الأمنية والنظام البنكي العراقي، الذي يعتبره الخبراء قديما وعفا عليه الزمن، إلى جانب الفساد المتفشي في صلبه وعدم إقبال البنوك على تمويل المشاريع.
في الواقع، يمثل هذا التمويل تحديدا مبتغى بغداد أكثر من أي شيء آخر. ولحد الآن، نجح العراق في الحصول على إذن بتسيير رحلات مباشرة باتجاه الرياض، وتوقيع 18 مذكرة تفاهم في مشاريع النفط والغاز، ولكنه لم يحصل إلا على قدر محدود من الاستثمار المباشر. وخلال مؤتمر إعادة إعمار للعراق عقد مؤخرا في الكويت، قدمت دول الخليج مساعدات ضئيلة، لم تتجاوز 3.5 مليار دولار، كانت في معظمها عبارة على قروض وتسهيلات ائتمانية. وقد علق أحد مديري البنوك العراقية على هذا الموقف، قائلا: “لقد اعتقدنا أن الأموال ستتدفق علينا خلال هذا المؤتمر، ولكن بعد نهايته شعرنا بأن كل ما سمعناه كان مجرد كلام”.
في المقابل، وفي البصرة، التي تعد القلب النابض للاقتصاد العراقي وقطاع النفط، يصر رئيس الهيئة المحلية للاستثمار، علي جاسب، على التحلي بالتفاؤل، حيث أكد أنه “حتى لو كان ذلك مجرد كلام، إلا أنه ليس مهما، حيث يمثل رغم كل شيء محاولة لإطلاق بداية جديدة وإحياء العلاقات بيننا”. ويعتبر افتتاح قنصلية جديدة في البصرة علامة على أن الرياض تهدف لدعم المستثمرين السعوديين. وقد شدد علي جاسب، على هذا الجانب مشيرا إلى وجود محادثات بين شركة سادك، عملاق البتروكيماويات السعودي، وشركة شل، لاستثمار 11 مليار دولار في مشاريع للبتروكيماويات. من جهتها، تسعى هيئة الاستثمار المحلية في البصرة لجذب أموال الخليج لإقامة السكك الحديدية ومشاريع الفلاحة.
أفاد رجال أعمال عراقيين أن المسؤولين الأمريكيين يحاولون تسهيل الكثير من أنشطة السعوديين، وذلك من أجل خلق توازن في مواجهة النفوذ الإيراني
أورد ثائر عبد الزهراء، أحد مالكي المركز التجاري تايمز سكوير الذي يحظى بشعبية كبيرة في البصرة، أنه لاحظ تنامي اهتمام المستثمرين الخليجيين بهذه المدينة. فقد التقى شركاؤه في هذا المشروع مؤخرا بممثلين عن مجموعة الشايع الكويتية، التي تعد من أكبر مالكي التوكيلات الحصرية في المنطقة، على غرار الحقوق الحصرية لماركات عالمية مثل “إتش أند أم”، “وماكدونالدز”، “وستار باكس”. وأضاف ثائر عبد الزهراء، أنه “بإذن الله، بعد أشهر قليلة، سترى فروعا لستار باكس في هذا المركز”.
خلافا لذلك، يخشى عبد الزهراء من أن الأطراف المدعومة من قبل إيران، التي تسيطر على دواليب الإدارة في العراق، ستسعى لعرقلة مساعي المستثمرين السعوديين للحصول على الأراضي والتراخيص اللازمة. فمن الأرجح أن يقوموا بالوقوف في وجه هؤلاء المستثمرين باعتماد الأساليب البيروقراطية المعروفة. وفي هذا الصدد، أوضح عبد الزهراء، أنه “من أجل إنجاز ذلك، هناك طريق طويلة وأخرى مختصرة، وربما سيدفعون السعوديين لسلك الطريق الطويلة”.
من جهتهم، أفاد رجال أعمال عراقيين أن المسؤولين الأمريكيين يحاولون تسهيل الكثير من أنشطة السعوديين، وذلك من أجل خلق توازن في مواجهة النفوذ الإيراني. وتعتبر إيران ثاني أكبر شريك تجاري للعراق، وقد صدرت لها ما قيمته 12 مليار دولار من السلع خلال العام الماضي، حسب تقارير وسائل الإعلام الرسمية في طهران.
القادة العراقيون ألمحوا إلى إمكانية قيام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بزيارة لبلدهم، حتى إن بعضهم ذكروا أن برنامج الزيارة قد يتضمن المرور عبر النجف.
أثار هذا التدخل الأمريكي العديد من المخاوف حتى لدى بعض المساندين للتقارب السعودي العراقي، على غرار أنصار التيار الصدري، الذين حارب العديد منهم الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي. ويرى هؤلاء الأنصار أن واشنطن، وفي ظل خطابها العدائي تجاه طهران، يمكن أن تدفع بالرياض إلى مواجهة حتمية وتستخدمها ذراعا لها. في هذا الصدد، أفاد صالح العبيدي، وهو رجل دين من النجف موالي لمقتدى الصدر، قائلا: “نحن لا نرغب أبدا في رؤية العراق ينتهي إلى مجرد سلة قمامة يدور فيها الصراع الإقليمي بين إيران من جهة، والولايات المتحدة والسعودية من جهة أخرى”.
ذكر دبلوماسيون أن إيران حرصت في الفترة الماضية على البقاء في موقف المتفرج، في محاولة منها لتقييم الوضع ومعرفة ما إذا كان هناك أي نفع يمكن أن يتحقق لها جراء تنامي الوجود الخليجي في العراق. عموما، فشلت طهران في توحيد مختلف الكتل الشيعية، من أجل تعزيز موقعها في هذا البلد مع اقتراب الانتخابات البرلمانية العراقية، المزمع إجراؤها في أيار/مايو المقبل. وقد علق أحد الدبلوماسيين الغربيين على هذه المسألة، قائلا: “هذا الفشل الذي مني به الإيرانيون يدفعنا لعدم تصديق كلامهم، عندما يقولون إن طهران تسيطر على كل شيء، وأنها تملك بين يديها مختلف الأوراق المهمة ضمن العبة وقادرة على مساعدة بقية الأطراف”.
من جانب آخر، أشاد عدد من القيادات الشيعية في العراق بموقف طهران، التي سارعت إلى تقديم الدعم لبغداد، عندما تعرضت لهجمات تنظيم الدولة في سنة 2014، خلافا لمواقف الرياض وواشنطن. في هذا السياق، أحال ممثل لأحد كبار الزعماء الدينيين في النجف، إلى أن “الجميع تخلى عنا في ذلك الوقت وجلسوا يتفرجون في انتظار أن ننهار، الجميع باستثناء إيران”. أما المشككون في نوايا الرياض، فقد طالبوا باختبار مدى صدقها، وذلك عبر دفعها لتبني تغييرات في سياساتها القمعية تجاه الأقلية الشيعية داخل المملكة. فقبل سنتين فقط، أعدمت الرياض رجل الدين الشيعي الشيخ نمر النمر. في الأثناء، طالب آخرون الرياض بإنهاء الحرب في اليمن، أو دفع رجال الدين في المملكة لإصدار فتوى تعلن أن المذهب الشيعي يعتبر من المذاهب المعترف بها في الإسلام.
عندما يتعلق الأمر ببسط النفوذ في النجف، تتمتع إيران بأسبقية تعود لأكثر من عقد من الزمن مقارنة بالسعودية
أما المساندون لهذا التقارب، فقد نوهوا إلى أهمية التحسن المحرز أخيرا على مستوى العلاقات، على غرار معاملة الحجاج العراقيين الشيعة أثناء وجودهم في المملكة بشكل جيد. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إخفاء التوجس وانعدام الثقة بين الجانبين. ففي اليوم السابق لمباراة هامة في مدينة البصرة، تم رفع شعارات معادية للقنصلية السعودية في شوارع المدينة، قبل أن تتم إزالتها بشكل عاجل. من جهة أخرى، يرى بعض القادة الشيعة أن الرياض لا تزال تتحمل المسؤولية حول انتشار الفكر المتطرف، حيث صرح أحد رجال الدين في النجف، قائلا: “لقد استمعنا إلى الكثير من الكلام المنمق، وسمعنا بشأن هذه الرؤية الجديدة التي يبشرون بها، ولكننا لا زلنا ننتظر الأفعال على أرض الواقع”.
تبدو هذه الشكوك وحالة التوجس بارزة في صفوف زوار مقبرة وادي السلام في النجف أكثر من أي مكان آخر، حيث تعد هذه المقبرة الأكبر في العالم، في حين يأتي إليها شيعة العراق لدفن موتاهم قرب مرقد الإمام علي. وفي صحن الشهداء الذي تم تخصيصه للقوات الموالية للصدر، يقف شاب هزيل قبالة القبر الذي انتهى من حفره للتو، من أجل دفن زميل له قتل على يد بقايا تنظيم الدولة في المنطقة. وأشار هذا الشاب إلى قبرين مماثلين تغمرهما الأزهار الاصطناعية، يرقد فيهما اثنين من أبناء صديقه الذي سيتم دفنه. وقال هذا الشاب: “نحن نفهم سبب الحاجة إلى تحسين العلاقات مع السعودية، ولكن في أعماق قلوبنا من الصعب أن تقبل هذا الأمر. لقد قدمنا العديد من الشهداء ونزفنا الكثير من الدماء، فكيف سيعوضوننا على ذلك؟ من خلال ملعب كرة قدم؟”
في النجف، الأموال الإيرانية بارزة في المدينة المقدسة
مرقد الإمام علي في النجف
عندما يتعلق الأمر ببسط النفوذ في النجف، تتمتع إيران بأسبقية تعود لأكثر من عقد من الزمن مقارنة بالسعودية. فقد دأبت طهران على توطيد علاقاتها وتحقيق جملة من النجاحات التي تجسد إصرارها على فرض هيمنتها. وتعد النجف الأرض التي يرقد فيها الإمام علي، الذي ينظر إليه على أنه الشخصية المؤسسة للمذهب الشيعي، ويعتقد أنه دفن هناك. أما المرجعيات، وهم كبار رجال الدين الشيعة، فيحظون بنفوذ كبير يطال ما يقارب عن 200 مليون شيعي حول العالم.
من أبرز المؤشرات التي تحيل إلى الطموحات الإيرانية، ضريح الإمام علي نفسه. فقد أضحى في هذا المبنى القديم الآن غرف مزينة بالرخام الجديد وأسقف مزينة بمرايا. كما تظهر في المكان أعمدة وأسس تشير على الأغلب إلى التجهيز للقيام بالتوسع أكثر في المنطقة التجارية قرب المرقد. في هذا الإطار، أورد مسؤولون محليون أن كل هذه المشاريع تديرها شركة إيرانية، يقال إنها مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. وفي الخفاء، يعرب المسؤولون العراقيون أحيانا عن مخاوفهم من أن جواسيس إيرانيين اشتروا عقارات في المنطقة القريبة من المنزل البسيط الذي يستأجره آية الله العظمى علي السيستاني، الذي يعد من كبار القيادات الدينية في العالم الشيعي، في خطوة تبدو أنها تتنزل ضمن عمليات للمراقبة والتجسس.
من جانبه، أقر ريناد منصور، المحلل عراقي في مركز تشاتام هاوس، بأن “المرجعيات بدأت تشعر بالقلق إزاء النفوذ الإيراني الذي بدأ يتعاظم داخل النجف، انطلاقا من مشروع توسيع المرقد وصولا إلى تزايد أعداد الإيرانيين الذين انتقلوا للسكن في النجف”. في سنة 2011، قام رجل الدين الإيراني محمود شهرودي، الذي دائما ما يظهر في الصور بجانب المرشد الأعلى الإيراني، بفتح مكتب في النجف، يتكفل بدفع أجور طلبة العلوم الدينية. وقد مثلت هذه الخطوة حركة استفزازية، حسب رأي أنصار السيستاني، تظهر أن إيران تراهن على واحد من أبنائها من أجل المنافسة والنجاح في اقتلاع مركز أحد القيادات الرئيسية في العالم الشيعي.
المصدر: فاينانشل تايمز