ظهر شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” أول مرة في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ريغان عام 1980، حين كان الاقتصاد الأمريكي يمر بفترة صعبة، واستعار الشعار لاحقًا الرئيس كلينتون في حملته الانتخابية عام 1992، لكنه انتقده لاحقًا على أنه شعار عنصري حين اتّخذه دونالد ترامب شعارًا لحملته خلال السباق الرئاسي في 2016.
يحمل هذا الشعار دلالة واضحة على تدهور مكانة الولايات المتحدة التي يسعى ترامب لاستعادتها، وليس مدلول هذا الشعار أصدق منه الآن في الشرق الأوسط عامة وسوريا بشكل خاص حيث كانت المصداقية الأمريكية إحدى ضحايا الصراع.
فبعد سبع سنوات من انطلاق الثورة ومطالبة الرئيس أوباما للأسد بالاستقالة، وبعد ست سنوات على إعلان استخدام الأسلحة الكيميائية خطًا أحمر أمريكيًا، وبعد أربع سنوات من توقف الأمم المتحدة عن عدّ الضحايا في سوريا، يبدو الأسد في وضع أكثر أمنًا من ذي قبل.
يقدر البنك الدولي عدد الضحايا في سوريا منذ سبع سنوات بأربعمئة ألف، ليكون الصراع فيها الأكثر دموية في القرن الحادي والعشرين حتى الآن، فضلاً عن 6 ملايين نازح في الداخل و5 ملايين لاجئ في الخارج، وفوق ذلك يعمل الأسد على إنهاء ما تبقى من مناطق سيطرة المعارضة السورية، باستخدامه أسلحة كيميائية وعنقودية وحارقة وغاز الأعصاب ضد المدنيين، وارتكابه جرائم الحرب كسياسة ممنهجة وليس كاستثناء.
وحتى المستشفيات لم تكن محظورة على طيران الأسد، بل كانت أهدافًا ذات أولوية قصوى، وكما قال أحد الأطباء في الغوطة مؤخرًا: “هذه ليست حربًا، إنها مذبحة”.
إحجام أمريكي
أعلنت الولايات المتحدة منذ 2011 وقوفها إلى جانب الثورة السورية، وأقر رئيسها في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام بأن الأسد “يسجن ويعذب ويذبح شعبه”، وطالبه بترك منصبه: “قلنا مرارًا إن على الأسد قيادة انتقال ديمقراطي أو المغادرة، لقد حان الوقت ليتنحى”.
بدأ الوجود الروسي في سوريا بالعمل الذي لم يُنجز على إزالة الأسلحة الكيميائية، وتطور إلى تدخل عسكري في سبتمبر/أيلول 2015
وبعد عشرة أشهر من ذلك التصريح بدا أوباما أكثر حزمًا حين أعلن أن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر من شأنه أن يدفعه لتغيير حساباته، ومنذ مجزرة الغوطة بالأسلحة الكيميائية في أغسطس/آب 2013، التي مرّت دون عقاب، لم يتوقف الأسد عن تجاوز هذا الخط الأحمر في وحشية صريحة راح ضحيتها الآلاف من السوريين وأفرغت التصريحات الأمريكية من المصداقية.
مثّلت مجزرة الغوطة نقطة تحول كبيرة كانت مؤشرًا آخر على التراجع الأمريكي، فقد تمثلت المعالجة الأمريكية للمسألة باستدعاء روسيا صراحةً إلى داخل سوريا كما قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو في يوليو/تموز 2017.
بدأ الوجود الروسي في سوريا بالعمل الذي لم يُنجز على إزالة الأسلحة الكيميائية، وتطور إلى تدخل عسكري في سبتمبر/أيلول 2015، يقول بومبيو إن استدعاء أوباما لروسيا كان بداية لظروف جديدة جعل من الصعب على الولايات المتحدة ممارسة نفوذها في سوريا.
والآن بعد مغادرة أوباما يبدو أن الأسد آمن من التهديدات الأمريكية السابقة، فالولايات المتحدة دخلت سوريا لهدف محدد لم ينس مسؤولوها تكراره في كل تصريح يخص سوريا وهو تدمير داعش، ومع خفوت نار داعش يكاد الوجود الأمريكي يختفي عن الساحة.
أما تدخل ترامب الشهير بضرب قاعدة الشعيرات في حمص فلم يعد كونه ردة فعل عاطفية عابرة، بل على العكس من ذلك، رسّخت ضربة الشعيرات في الأذهان حقيقة الإثم الذي باءت به الولايات المتحدة بغيابها عن الساحة في سوريا.
ليس من الواضح أي جزء سيحكمه الأسد من سوريا في حال استمراره في السلطة، لكن المؤكد أن نفوذ الولايات المتحدة ومصداقيتها آخذان في التراجع في ظل وجود خلل واضح في سياستها الحاليّة في سوريا، وليس أدل على ذلك مما حدث قبل أسبوع واحد فقط، حين تعرضت وحدات حماية الشعب المدعومة أمريكيًا مؤخرًا لهزيمة في عفرين – إحدى الكانتونات الثلاث التي كانت تسيطر عليها – على يد تركيا الحليفة الرئيسية لأمريكا في المنطقة.
يمكن ملاحظة التراجع الأمريكي في أماكن أخرى من العالم مثل شرق وجنوب شرق آسيا
تدهور مستمر منذ عقود
لم يكن التراجع الأمريكي الحاليّ نتيجة لتردد أوباما أو تشتّت ذهن ترامب، حسبما يرى الباحث الأسترالي في شؤون الشرق الأوسط أنتوني بوبالو، لكنه امتداد لتراجع بدأ في عام 1991، تمكنت الولايات المتحدة في ذلك العام من هزيمة الجيش العراقي، أكبر الجيوش في الشرق الأوسط في العام نفسه الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي، لتبلغ مكانتها الإقليمية والعالمية ذروتها تاريخيًا.
ينسب بوبالو التراجع الأمريكي في المنطقة إلى فشل الرئيس كلينتون، والتمدد غير المحسوب لجورج بوش الابن فيها، وكان ما حدث في عهد إدارتي أوباما وترامب من دخول قوى أخرى على الخط في المنطقة امتدادًا لذلك التراجع.
يمكن ملاحظة التراجع الأمريكي في أماكن أخرى من العالم مثل شرق وجنوب شرق آسيا، فقد تجاهلت الصين مطالبة أوباما لها بعدم التعدي على المساحات البحرية التابعة لجيرانها، ليتخلى رئيس الفلبين – الحليفة الأمريكية – عن مقاومة التعديات الصينية لاستشعاره ضعف الإرادة الأمريكية.
وفي حين تواصل اليابان وفيتنام مراهنتهما على الإرادة الأمريكية التي يأملان أن تحميهما من توسع الصين، فإن ثقة كوريا الجنوبية بحماية الولايات المتحدة لها من جارتها الشمالية مهزوزة، خاصة بعد إعلان ترامب نيته فتح قنوات اتصال مع بيونغ يانغ ولقاء زعيمها كيم جونغ أون.
يرى مدير تحرير مجلة فورين بوليسي سابقًا، وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة كولومبيا ديفيد روثكوف، أن القوة الأمريكية لا تأتي من القوة العسكرية أو الاقتصادية المجرّدتين واللتين لا تملك أي دولة ما يضاهيهما، لكنها تأتي من قوة إرادة زعمائها وقدرتهم على القيادة.