إلغاء رحلات القطارات المخفضة.. ضربة مؤلمة تزيد أوجاع الغلابة في مصر

“بيت العائلة” و”ركوبة الفقير” و”وسيلة الغلبان”.. أسماء عدة أطلقها المصريون على القطار كونه وسيلة النقل الأرخص بالنسبة لهم مقارنة بغيرها من وسائل النقل الأخرى التي يقاطعها أصحاب الدخول المحدودة إلا في حالات الضرورة القصوى.
ظلت قطارات مصر وهي أول خطوط سكك حديد يتم إنشاؤها في إفريقيا والشرق الأوسط، في خمسينيات القرن التاسع عشر، والثانية على مستوى العالم بعد المملكة المتحدة، ملاذ الطبقات المصرية الفقيرة وقبلتهم في السفر والترحال، خاصة أبناء الأقاليم والمناطق النائية، لما تتميز به من أسعار زهيدة في تذاكرها فضلاً عن قدراتها على حمل كل أنواع الحقائب والأمتعة التي يرفضها أصحاب وسائل النقل الأخرى.
ورغم ما تعاني منه القطارات التي تنقل يوميًا 1.8 مليون راكب عبر 1300 قطار في 785 محطة موزعين على محافظات الجمهورية كافة، من تآكل في إمكاناتها ومواردها، وتراجع في مستواها، غير أنها استمرت الخيار الأول لكثير من المواطنين، لكن يبدو أن هذا الخيار بات اليوم مهددًا.
الهيئة القومية للسكة الحديد قبل يومين أصدرت قرارًا بإلغاء 41 رحلة يومية من قطارات الدرجة الثالثة التي تسمى بـ”قطارات الغلابة” على خطوط الوجهين القبلى والبحري، وتعتزم إلغاء بعض رحلات القطارات المكيفة خلال الأشهر المقبلة، وهو ما كان صدمة لملايين المواطنين والطلبة المعتمدين بشكل أساسي على هذه الرحلات في الذهاب لعملهم وجامعاتهم.
خسائر متتالية
مدير هيئة السكك الحديدية، محمد عويس، أرجع هذا القرار إلى أن كثافة قطارات الدرجة الثالثة أقل من المتوسط في عدد الركاب، مما يعني تراجع قيمة الإيرادات في الوقت الذي تتضاعف فيه النفقات؛ مما ينجم عنه خسائر تتحملها الهيئة تضاف إلى سجل الخسائر السابقة، وهو ما يسعى المسؤولون لتجنبه.
بلغت خسائر الهيئة في السنة المالية المنتهية في شهر يونيو الماضي، 4.5 مليار جنيه، بحسب موازنتها للعام المالي الحاليّ، وتتوقع الهيئة زيادة الخسائر هذا العام لتصل إلى 5 مليارات جنيه (فيما مصروفاتها للعام المالي الحاليّ 2017/18 بـ9.3 مليار جنيه، مقارنة بـ8.5 مليار جنيه في العام الماضي، ونفس الرقم للعام السابق له.
محمد عز، المتحدث باسم وزارة النقل أشار إلى أن الخسائر المتراكمة للهيئة وصلت إلى 40 مليار جنيه في السنوات الماضية، مؤكدًا أن استمرار مشروعات الهيئة، التي قال إنها تقدّر بـ55 مليار جنيه الآن، يستوجب زيادة أسعار التذاكر لتعظيم الإيرادات.
الهيئة القومية للسكة الحديد قبل يومين أصدرت قرارًا بإلغاء 41 رحلة يومية من قطارات الدرجة الثالثة التي تسمى بـ”قطارات الغلابة” على خطوط الوجهين القبلى والبحري
فيما قال وزير النقل المصري هشام عرفات، في تصريحات له، إن شبكة السكة الحديد متهالكة نتيجة عدم التطوير وإحلال القطارات بالكامل، مؤكدًا أن بعض الجرارات عمرها 37 عامًا، وذلك رغم إنه كان يجب أن تخرج من الخدمة بعد أن تجاوزت فترة عملها 24 عامًا، بعد عدة دورات من الصيانة، وأن الخطوط لم تطوّر منذ عقدين، مؤكدًا أن الشبكة تحتاج الآن للإصلاح وليس التطوير، بحسب عرفات الذي كشف بدوره عن 55 مليار جنيه أخرى مديونية المشاريع التي تقوم بها الهيئة الآن، منها 44 مليار تكلفة كهربة الإشارات.
من هنا رصدت الوزارة 52 مليار جنيه (3 مليارات دولار) لتطوير خطوط القطارات، من بينها 30 مليار جنيه (1.8 مليار دولار) لأعمال الصيانة، وشراء جرارات وعربات ركاب، وبضائع لدعم الأسطول الحاليّ، و20 مليار جنيه (1.2 مليار دولار) لتجديد الخطوط والمزلقانات وكهربة الإشارات، فضلًا عن إنشاء أسوار على حرم السكة الحديد بتكلفة ملياري جنيه، لكن يبقى السؤال: من أين توفر الوزارة تلك المبالغ؟
40 مليار جنيه خسائر سكك حديد مصر خلال السنوات الماضية
رفع الأسعار هو الحل
معظم المؤشرات تذهب إلى أن المواطن من سيتحمل كلفة هذا التطوير، من الألف إلى الياء، وربما بات هذا النهج سياسة عامة لدى كثير من قطاعات الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد قرار تعويم الجنيه الذي كان له تداعيات سلبية على الجميع.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تصريحات سابقة له تحدث عن المليارات التي يحتاجها قطاع السكك الحديدية من أجل تطويره وتحسين مستوى خدمته، لكنه ألمح إلى أن الدولة لا تملك مصادر التمويل وإن كان من باب أولى أن توضع تلك المليارات في البنوك لتدر عائدًا في صورة فوائد أكثر أهمية من ضخها في قطاع يتعامل فيه الملايين من المصريين يوميًا.
في مقطع فيديو له خلال افتتاحه عدد من المشروعات في صعيد مصر مايو الماضي جاء على لسان السيسي تعقيبًا على الحوادث المتكررة في قطاع السكة الحديد “اللي خلى مستوانا كده إننا مش بنواجه الحقايق، العشرة مليارات بتوع السكة الحديد لو حطيتها في البنك حاخد عليهم الفايدة ملياري جنيه، لما مرفق عايز مئة مليار جنيه لرفع كفاءته حانجيبه منين؟ حنسد قروض كوريا وغيرها منين؟ لازم الكل يعرف الحاجات دي، ولما تيجي تزود عليه التذكرة جنيه واحد يقولك أنا غلبان مش قادر، وأنا كمان غلبان مش قادر”.
بلغت خسائر الهيئة في السنة المالية المنتهية في شهر يونيو الماضي، إلى 4.5 مليار جنيه، بحسب موازنتها للعام المالي الحاليّ، وتتوقع الهيئة زيادة الخسائر هذا العام لتصل إلى 5 مليارات جنيه
ظلت تذاكر القطارات لا سيما الدرجة الثالثة في مأمن من موجة الزيادات المتطرفة خلال العقدين الماضيين، إلا أنها خلال الأعوام الثلاث الأخيرة أصابها ما أصاب غيرها من القطاعات والخدمات الأخرى، حيث شهدت زيادات متباينة أبرزها كان في 2015 حين قررت هيئة السكة الحديد رفع أسعار تذاكر القطارات المكيفة بمبلغ 20 جنيهًا للدرجة الأولى المكيفة، و10 جنيهات للدرجة الثانية المكيفة، كما رفعت أسعار قطارات النوم من القاهرة إلى أسوان في نهاية عام 2013، من 230 جنيهًا إلى 300 جنيه.
أحمد حامد، رئيس الهيئة في ذلك الوقت، قال إن أسعار تذاكر الدرجات المكيفة لم تتغير منذ عام 2007، واشتراكات القطاعين العام والخاص لم تزد منذ 2008، وباستثناء تلك الزيادة، لم تطرأ تغييرات شاملة على تذاكر القطارات خلال السنوات العشرة الأخيرة.
أما الزيادات التي تخطت تلك الحدود في أسعار تذاكر فقد ارتبطت بإدخال فئات استثنائية من القطارات، كما حدث مع قطار الـVIP الذي دخل الخدمة لأول مرة على خط القاهرة أسوان في عام 2015 بسعر تذكرة أعلى من القطارات المكيفة على الخط نفسه.
أما القطارات “العادية”، وهي القطارات غير المكيفة التي تعد الأدنى سعرًا مقارنة بالفئات الأخرى، فلم تتغير أسعارها منذ عام 1998، بحسب تصريحات وزير النقل هشام عرفات في يناير الماضي.
الحكومة المصرية في مارس الماضي، كشفت عن دراسة انتهت من إعدادها بشأن تحريك أسعار تذاكر القطارات، وكان من المقرر زيادتها خلال الأيام الماضية، إلا أنه وفي اللحظات الأخيرة تم إرجاء تلك الزيادة حتى يونيو القادم، نهاية الفصل الدراسي الأول، انتظارًا لزيادة نسبة أصحاب الاشتراكات من إجمالي مستخدمي القطارات، موضحًا أن زيادة الأسعار لن تكون سارية على الاشتراكات.
رغم عدم وجود معلومات موثقة عن الزيادات المقترحة، فبعض المواقع نقلت عن مصادر في وزارة النقل أن نسب الزيادة ستتراوح بين 15% و150%، لتكون 15% على أسعار تذاكر الـVIP و30% لتذاكر الدرجة الأولى مكيف، و50% للثانية مكيف، و140%، و150% للقطارات غير المكيفة.
ضربة موجعة للفقراء
ضربة جديدة يتلقاها فقراء مصر البالغ عددهم قرابة 30 مليون مواطن يعيشون تحت مستوى خط الفقر وفق تقارير وإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء العام الماضي، وذلك بعد إلغاء أحد أهم وسائل النقل التي كان يعتمد عليها أبناء العائلة المصرية من محدودي الدخل.
شريف ع، طالب في جامعة القاهرة، يقول إنه يسافر يوميًا بالقطار من محافظة الشرقية إلى مدينة الجيزة حيث مقر جامعته، لافتًا إلى أنه كان يستقل قطار الدرجة الثالثة بتذكرة لا تتجاوز قيمتها خمسة جنيهات، لكنه بعد هذا القرار بات مضطرًا إما أن يستقل سيارة أجرة أو قطار مكيف.
رغم عدم وجود معلومات موثقة عن الزيادات المقترحة، بعض المواقع نقلت عن مصادر في وزارة النقل أن نسب الزيادة ستتراوح بين 15% و150%، لتكون 15% على أسعار تذاكر الـVIP و30% لتذاكر الدرجة الأولى مكيف، و50% للثانية مكيف، و140%، و150% للقطارات غير المكيفة.
الطالب الجامعي لـ”نون بوست” كشف أن أجرة السيارة تتراوح بين (10-15 جنيهًا) بينما تذكرة القطار المكيف بين (15-20 جنيهًا) بما يعني ثلاثة أضعاف ما كان يدفعه، في الوقت الذي لا يمكنه زيادة مصروفه اليومي، متسائلاً: ما الحل؟ هل أتوقف عن الذهاب إلى الجامعة، أم أبحث عن سكن في الجيزة؟ حلان كلاهما مر، بحسب وصفه.
حسن ر، ولي أمر طالبتين بمحافظة بني سويف بصعيد مصر، يقول إنه بعد إلغاء رحلات قطار الدرجة الثالثة، اضطررت لتحمل ضعفي ما كنت أدفعه لبنتاي، مصاريف يومية، ذهابًا وإيابًا، مشيرًا في حديثه لـ”نون بوست” أن الأزمة باتت أكثر عمقًا في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد ولا يمكن لأي رب أسرة محدود الدخل أن يتكيف معها.
ضربة موجعة لكثير من المعتمدين على القطارات كوسيلة نقل رخيصة
حالة الغليان التي انتابت رجل الشارع دفعت بعض أعضاء مجلس النواب (البرلمان) إلى التحرك التشريعي لوقف هذا القرار فورًا لما ينطوي عليه من أعباء إضافية على كاهل المواطن قليل الحيلة، حيث تقدم النائب محمد عبد الله زين، وكيل لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب، بطلب إحاطة لسؤال وزير النقل بشأن هذا القرار الذي أجبر المواطنين على استقلال القطارات المكيفة بدرجتيها الأولى والثانية وهو ما يمثل عبئًا إضافيًا عليهم، مناشدًا بمصارحة المواطنين وعدم اللجوء إلى إجبار المواطنين باستخدام رحلات تفوق إمكاناتهم لمجرد تحقيق زيادة في الإيرادات.
وفي السياق ذاته، تقدم عادل بدوي عضو مجلس النواب، ومعه 3 نواب آخرين عن دائرة بني مزار ومطاي بمحافظة المنيا (صعيد مصر)، بطلب إحاطة للبرلمان، مستنكرين القرار الذي تسبب في حالة من الاستياء والغضب بين محدودي الدخل والفقراء بالصعيد.
النواب أشاروا إلى أن هذه القرار ينم عن عدم وعي الوزير بعواقبه مضيفين: “قولنا للوزير لازم تشعر بأهل بلدك وأنت ابن الصعيد ومش معنى تطويرك الخدمة تقطعها تمامًا عن البسطاء”، محذرين من أن خطوة كهذه “ستضع آلاف الأسر في مأزق حقيقي، فليس من المعقول أن يصرف كل ولي أمر ما يزيد على 80 جنيهًا على أبنائه كمواصلات في اليوم الواحد”.