ازدهرت دراسة المسلمين للموسيقى منذ بداية العصر العباسي، حيث قام العديد من العلماء والفلاسفة العرب والمسلمون بدراستها والعمل على تطويرها مستندين بدايةً على النظرية الإغريقية القديمة، قبل أنْ يظهر عندنا فنّ المقامات الذي برعوا وتميّزوا به. وقد أسهم الكثير من الأسماء المعروفة مثل الفارابي وابن سينا والكندي وصفي الدين الأرموي وقطب الدين الشيرازي، ثم عبد القادر المراغي في فترة لاحقة في القرن الرابع عشر وغيرهم في الكتابة عن الموسيقى وفلسفتها ودورها في الحياة.
أشار الفارابي إلى أنّ الموسيقى تتعدى من كونها مجرد ألحانٍ مسموعةٍ وحسب، بل هي أدوات تؤثر على النفس وانفعالاتها وحالاتها العاطفية والسيكولوجية المختلفة
وعلى الصعيد الطبي والعلاجيّ، فقد استخدمت الموسيقى كوسيلة للعلاج عبر القرون لمواجهة جميع العديد من أنواع الاضطرابات في مختلف الشعوب والحضارات، وقد برع المسلمون في هذا المجال منذ الدولة الأموية والعباسية حتى نهايات الدولة العثمانية التي بنت كثيرًا في ثقافتها الموسيقية على ما أنتجه الفارابي وابن سينا في العقود السابقة.
فقد أشار الفارابي في كتابه “الموسيقى الكبير”، الذي يعدّ واحدًا من أقدم كتب التراث العربيّ في الموسيقى وتُرجم إلى لغاتٍ عديدة، إلى أنّ الموسيقى تتعدى من كونها مجرد ألحانٍ مسموعةٍ وحسب، بل هي أدوات تؤثر على النفس وانفعالاتها وحالاتها العاطفية والسيكولوجية المختلفة. وبذلك يكون قد رأى أن ثمة ارتباط بين الانفعال النفسيّ والنغم؛ فلكلّ انفعالٍ، حزن، رحمة، قساوة، خوف، طرب، غضب، لذة وأذى، نغمٌ يخصُه ويدلُ عليه.
أما ابن سينا فقد ذكر في كتابه “القانون في الطب” أنّ بإمكان الموسيقى علاج عددٍ من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الفرد، مثل ” المالنخوليا” أو “المزاج السوداوي” بحسب ذكره، وهو ما يمكن الإشارة إليه في يومنا هذا بالاكتئاب، معتبرًا أنّ الاستماع للموسيقى يمكن أنْ يشغل المصاب بذلك المرض عن فراغه وخلوته وتفكيره بأفكاره السوداوية.
علاوةً على ذلك، فقد ركّز ابن سينا على التقسيم الزمنيّ لكل نغمة من النغمات، فما يصلح للصبح لا يصلح للمساء، نظرًا لأنّ الإنسان يمرّ بحالات نفسية مختلفة ومتناقضة على مدار اليوم الواحد تبعًا لظروف حياته، ففي الصبح تُعزف نغمة “رهاوي”، وفي الشروق “راست”، وفي الضحى “بوسليك”، وفي نصف النهار “زَنكولا”، وفي الظهر “عُشّاق”، وبين الصلاتين “حِجاز”، وفي العصر “عِراق”، وفي الغروب “أصفهان”، وفي المغرب “نَوى”، وفي العشاء “بُزُرك”، وعند النوم “مخالف”.
اعتقد العثمانيون أن العلاج بالموسيقى قد يعيد تأسيس الانسجام المتأزم عند المريض ويخلق توازنًا منسجمًا بين الجسم والعقل والعواطف
ونتيجةً لذلك الاهتمام المبهر بالعلوم الموسيقية وأثرها على النفس بين المسلمين مبكّرًا، لم يكن غريبًا على كلٍ من الدولتين السلجوقية والعثمانية أنْ تحافظا على هذا الجانب المهمّ من الحضارة، حيث لاقت أعمال الفارابي وابن سينا تقديرًا كبيرًا وتم تطبيقها بين الموسيقيين والأطباء العثمانيين حتى القرن الثامن عشر.
فنجد الكتب والكتابات العثمانية سواء الموسيقية أو الطبية تركّز كثيرًا على تأثير الصوت والأنغام على الإنسان ودور الموسيقى في الشفاء، لاعتقادهم بأن العلاج بالموسيقى قد يعيد تأسيس الانسجام المتأزم عند المريض ويخلق توازنًا منسجمًا بين الجسم والعقل والعواطف وبالتالي يمكن للإنسان أن يصبح واعيًا لنفسه ولروحه، ولهذا كان للموسيقى وجودٌ ملحوظ وواضح بين الصوفيين وشعائرهم المختلفة.
نضج العلاج بالموسيقى وتطوّر في الدولة العثمانية مع تطور المقامات وتنوعها، خاصة وأنّ كلّ مقامٍ منها يعمل كمرآة تعكس حالة نفسية ومزاجية معينة تختلف عن غيرها
بالنسبة للصوفية فإنّ تزكية النفس تمرّ أولًا من خلال القلب والروح، وبالتالي فإنّ الموسيقى بوصفها هبة من الخالق تعمل كوسيلة للتدريب على الكمال الروحاني والتناغم مع الذات، وقد كان الهدف النهائي للموسيقى عند الصوفيين هو تحقيق الحرية الذاتية للنفس من أجل وصول الروح إلى الأصل السماوي، وبذلك فهي عندهم وسيلة لعلاج أمراض النفس والروح.
وقد نضج العلاج بالموسيقى وتطوّر في الدولة العثمانية مع تطور المقامات وتنوعها، خاصة وأنّ كلّ مقامٍ منها يعمل كمرآة تعكس حالة نفسية ومزاجية معينة تختلف عن غيرها، وقد كان الفارابي هو أول من أسّس قواعد الحالات النفسية للمقام وعمل الموسيقيون في الدولة العثمانية على تطويرها لاحقًا؛ فمقام الراست يدلّ على الفرح والسلام، ومقام أصفهان يدلّ على الثقة بالنفس، ومقام العشّاق للضحك، والصبا للقوة والشجاعة، والحجاز يدلّ على التواضع، ومقام النوى يعطي شعورًا بالراحة النفسية، وغيرها الكثير.
وجنبًا إلى جنب مع المقامات، أدرك العثمانيون والصوفيون أيضًا أنّ لكلّ آلة موسيقية تأثيرها الخاص على النفس والروح، فما يفعله الناي يختلف عما يفعله العود، وما يفعله الطبل يختلف عما يفعله الصوت البشريّ أو القانون والكامنجة، وهكذا. وبذلك لم يكن بالإمكان عزل دور المقام بعيدًا عن الآلة المرافقة له، وإنما تمّ دمجهما بطريقة توصل النفس إلى الانسجام والاتساق.
وفي وقتٍ لاحق، عملت الدولة على تخصيص أقسام للعلاج بالموسيقى في مستشفياتها في المدن المختلفة مثل إسطنبول وأماسيا وسيفاس وقيسيري ومانيسا وبورصة ومستشفيات أدرنة. وقد ذكر الرحالة والمدوّن التركي الشهير “أوليا شلبي” في بعض مذكراته أنّ السلطان بايزيد كان قد خصص فرقةً موسيقية تتكون من عازفين ومطربين مهمتها تنظيم 3 جلسات أسبوعية في مستشفيات إسطنبول للمرضى والمجانين فيها، بهدف التخفيف عن المريض عن طريق تغيير حالاته العاطفية والمزاجية ومساعدته على إحياء ثقته بنفسه.
وقد كان العازفون يعزفون مقامات مختلفة بحسب حالة كل مريض، فهناك من كان يتأثر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وغيره بالرست، وهكذا، ما جعل أوروبا تستلهم هذا الشكل العلاجيّ وتحاول تطبيقه في مستشفياتها وعياداتها، خاصة في القرن الثامن عشر حيث كان التواصل الحضاري العثماني الأوروبي قد بلغ ذروته.