مَنْ المسئول في الدولة عن إدارة السجون وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية وخدمات المراقبة والنقل وجمع النفايات والمساعدة القانونية وحماية الأطفال؟
بالتأكيد، يجب أن تكون الحكومة، لكن في بريطانيا تمنح الحكومة نفسها كل عام 80 مليار جنيه إسترليني من أموال دافعي الضرائب للشركات الخاصة والحكومية المشتركة والسرية والفردية والمالية؛ للتعامل مع بعض الخدمات الأكثر حساسية وأهمية.
بالإضافة إلى ذلك، تُمنح هذه الشركات سلطات هائلة، ومع ذلك فهي تعمل في معظم الأحيان دون شفافية أو مساءلة قانونية، فماذا يحدث عندما تدخل يد غير مرئية إلى مجال الخدمات العامة؟
من يدفع أجرة “الزمَّار” يختار اللحن!
عندما تولى توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وسابقه جوردن براون السيطرة على حزب العمل البريطاني في عام 1994، كان هناك تحول في موقفهما من الأعمال التجارية الخاصة، وأصبحوا تدريجيًا أكثر دعمًا للقطاع الخاص الذي قد يراه معظم البريطانيين على أنه أمر جيد.
وخلال فترة التسعينات، قام براون بحملة لزيادة الضرائب على الأفراد الأغنياء غير المقيمين في بريطانيا، لكن بصفته المستشار، أصبح مقتنعاً بفكرة أن الشركات التي يمتلكونها تخلق فرص عمل في المملكة المتحدة، لذا قاوم الضغوط من حزب العمل من أجل فرض ضرائب أكثر عليهم، خوفاً من دفعهم إلى الخارج.
وبذلك، استقطبت حكومتي بلير وبراون طبقة جديدة من الأثرياء الفائقة الذين يمارسون الآن نفوذاً غير مسبوق، حتى أن وزارة الخزانة البريطانية لم تجرؤ في معظم السنوات القليلة الماضية على محاولة فرض ضرائب إضافية “رجال الظل” من ذوي النفوذ في بنوك الاستثمار وصناديق التحوط والأسهم الخاصة، على الرغم من أن العديد منهم كانوا يدفعون ضرائب أقل من أموالهم.
واليوم، يٌنظر إلى الاستعانة بمصادر خارجية على أنه تطوراً طبيعياً في عالم تقوده الشركات متعددة الجنسيات، لكن في بريطانيا ازدادت وتيرة هذه الشركات بشكل ملحوظ منذ الحكومة الائتلافية البريطانية في عام 2010، وعلى الرغم من أن الاستعانة بمصادر خارجية نفسها ليست أيديولوجية، إلا أنها تحولت فيما بعد إلى ذلك.
السياسيين أيضًا باتوا في أيدي “بارونات” غير منتخبين يستطيعون ويفضلون أن يتلاعبوا بالأخبار لتحقيق غاياتهم الخاصة
وأصبح من الواضح أن أربع شركات تهيمن على قطاع المملكة هي: G4S ، Atos ، Serco و Capita، وأكبر المنفقين عليهم: وزارة العمل والمعاشات ووزارة العدل، حيث يقومون بتوجيه مئات الملايين من الجنيهات إلى هذه الشركات، وهي تغطي كل شيء من الأمن والنقل وجمع النفايات إلى “الخدمات الإنسانية” مثل الرعاية الاجتماعية والسجون وخدمات المراقبة وجمع النفايات.
وامتذ نفوذ مالكي هذه الشركات إلى مجال السياسة، لأنه بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يختلف مع فكرة أن الأثرياء لديهم صوت أعلى بكثير من أولئك الذين لديهم القليل من الأموال، وإذا كانوا مهتمين بالتأثير على السياسة، يمكنهم أن يفعلوا ذلك من خلال تمويل حملات الضغط ، أو من خلال تقديم مساهمات للأحزاب السياسية -التي تمنح على الأقل الوصول إلى السياسيين المنتخبين- أو حتى عن طريق شراء وسائل الإعلام.
السياسيين أيضًا باتوا في أيدي “بارونات” غير منتخبين يستطيعون ويفضلون أن يتلاعبوا بالأخبار لتحقيق غاياتهم الخاصة، في وقت تدار المملكة المتحدة من قبل جبل من الديون، وتواجه ضريبة خروجها من البريكست، بينما يقف “الزمَّار” على الباب طلبًا للأموال لكن الخزائن فارغة.
تكلفة الفشل
لا شك أن الاستعانة بمصادر خارجية للخدمات العامة دون وجود وسائل فعالة للتقييم ووجود آليات رقابة ومساءلة صارمة هي تجربة تنطوي على مخاطر كبيرة للغاية ونتائج كارثية أحيانًا.
وما حدث في مركز يارل وود للهجرة واحدًا من الحالات الكثيرة المفصَّلة التي توضح على نطاق واسع نتائج الاستعانة بمصادر خارجية والتكلفة البشرية المدمرة عندما تسير الأمور على نحو خاطئ وتتعطل خطوط المساءلة.
في يارل وود الذي تديره شركة “سيركو” الخاصة، يُحتجز بشكل رئيسي شابات عازبات إلى جانب عدد من العائلات والرجال على المدى القصير، قبل تنفيذ الاجراءات القانونية لترحيلهم من بريطانيا.
وكشف تقرير لكبير مفتشي السجون أن مئات طالبي اللجوء تم احتجازهم في ظروف غير مقبولة داخل مراكز الاحتجاز في كنت (مقاطعة تقع في جنوب شرق إنجلترا)، وأن وزارة الداخلية البريطانية تحقق في أنباء عن تسجيل فيديو لسيدة يتم سحلها من قبل مجموعة من مسؤولي مركز احتجاز في يارل وود وهي عارية وتعرضها للضرب مرتين.
انعدام الشفافية من جانب الحكومة و شركة سيركو التي تعمل في مجال الدفاع، النقل، العدالة، الهجرة، الرعاية الصحية، شكل عقبة أمام أولئك الذين يسعون إلى المساءلة عن الجرائم المرتكبة ضد النساء المحتجزات هناك.
حدث ذلك عندما تخلت الحكومة البريطانية عن مسئوليتها تجاه الهجرة وهي القضية الأكثر تحديًا، واٌتهم المسؤولون البريطانيون بإجبار الأطفال على النوم على أرضية خرسانية، واحتجاز ضحايا مهربي البشر من دون أن يقدموا لهم الطعام، بالإضافة إلى السماح بتعرض سيدة عارية للضرب في مركز احتجاز مقدمي طلبات اللجوء.
لكن انعدام الشفافية من جانب الحكومة و شركة سيركو التي تعمل في مجال الدفاع، النقل، العدالة، الهجرة، الرعاية الصحية، شكل عقبة أمام أولئك الذين يسعون إلى المساءلة عن الجرائم المرتكبة ضد النساء المحتجزات هناك.
وهناك حالة أخرى من قصص الاستعانة بمصادر خارجية تتخلل الوعي الوطني البريطاني، فقد أدى سوء إدارة المشروع الأمني لأولمبياد لندن 2012 من قبل شركة جي فور إس ““G4S إلى تحرك الجيش في آخر لحظة.
إنها واحدة من القصص القليلة التي أحدثت تأثيراً وطنياً، حيث ركز البلد والعالم على لندن، وفي حين بدت آثار الفضيحة قاسية على شركة “جي فور إس” في ذلك الوقت، إلا أنها في الواقع لم تترك انطباعًا كبيرًا على الصناعة الأمنية التي تقدمه حتى الآن.
من يحاسب من؟
ربما يبدو للبعض أن مؤسسات الدول الأوروبية، وتحديداً البريطانية منها، خالية من مظاهر الفساد، والرُشى، وأنها منبع للديمقراطية والنزاهة في كافة تفاصيل أعمالها وعلاقاتها، إلا أن ديفيد وايت مؤلف كتاب “كيف يكون الفساد في بريطانيا” يكشف عن شبكة الفساد على الصعيد الحكومي والمؤسساتي الذي يتجاوز في مستواه دول العالم النامي.
ويتحدث وايت عن الاستئثار بالفساد في شركات المحاسبة الأربعة الكبار، وهي شركات نشأت في المملكة المتحدة، وأصبحت كبيرة، وتلعب دوراً في السياسة المالية، ولها دور في منع بعض الإصلاحات، وتقف في وجه بعض الأعمال التشريعية في بريطانيا والعالم، وتقوم بعمليات مراوغة وتهرب من الضرائب، في سبيل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
وغالباً ما تتردد الشركات الخاصة في بريطانيا في التعامل مع وسائل الإعلام الهامة، ومع ذلك، هناك اعتراف من البعض بشأن صناعة “فراغ المساءلة”، وشفافية هذه الشركات وطرق محاسبتها.
تتفاقم صفوبة المراقبة بسبب حقيقة أن الأرقام القابلة للمقارنة لا توجد بالفعل في الفترة التي كانت تدير فيها الدولة الخدمات
من ناحية أخرى، فإن العثور على بيانات حول تفاصيل ومزايا ونتائج مشاريع الاستعانة بمصادر خارجية أمر صعب، ويرجع ذلك جزئياً إلى الطبيعة السرية لبعض العقود، ولكن أيضاً لأنه لا يوجد مكان واحد يتم فيه الاحتفاظ بجميع المعلومات بشكل منهجي.
على سبيل المثال، تسارع شركات مثل G4S إلى الإشارة إلى أنه عندما تسوء الأمور، فإنها غالباً تكون مكممة من التحدث علنًا عن عقودها من قبل الحكومة على أساس “السرية التجارية”، بينما يتم إلقاء اللوم عليها أيضًا بسبب الإخفاقات، مما يزيد من الارتباك حول المساءلة،
وعلى الرغم من أن الرئيس التنفيذي لشركة سيركو “Serco “ يقدم حجة قوية مفادها أن الشركات الربحية ما زالت قادرة على العمل من أجل الصالح العام، إلا أن العديد من الحالات توضح أن المعايير يمكن أن تندرج في السعي وراء الربح.
وتتفاقم صفوبة المراقبة بسبب حقيقة أن الأرقام القابلة للمقارنة لا توجد بالفعل في الفترة التي كانت تدير فيها الدولة الخدمات؛ لذلك فإن مشروع الاستعانة بمصادر خارجية بريطانية هو تجربة تفتقد طريقة منهجية للتقييم.