تحتضن العاصمة التركية أنقرة لقاءاً ثلاثياً يجمع زعماء روسيا وإيران وتركيا، ويعتبر استمراراً للقاء عقد في سوتشي نهاية العام الماضي لبحث حلول للأزمة السورية، كما ينتظر عقد اللقاء الثالث في طهران، حيث يوجد للدول الثلاثة بالإضافة للولايات المتحدة أدوار أساسية كجهات خارجية في التطورات في سوريا بشكل مباشر، ويعد المسار الذي توافقت عليه الدول الثلاث هو مسار استانة الذي يهدف لانشاء مناطق خفض للتوتر في سوريا وقد تم البدء في هذا ولكن بسبب تضارب المصالح على المدى الاستراتيجي وأحيانا على المدى التكتيكي.
فإن استمرارية هذا التوافق كان دائما محل شك ولهذا تحاول الدول الثلاث ابقاء هذا المسار على قيد الحياة بقدر الإمكان من خلال لقاءات القمة الدورية وبناء على ما سبق فقد كان متوقعا أن يتم التركيز على استمرارية التعاون ووفاء كل دولة بتعهداتها والتزاماتها من أجل تأمين الاستقرار والذي يمكن قراءته من زاوية هذه الدول بعبارة أخرى وهي التوافق على صيغة ثلاثية تكون محصلتها أقل ضررا من محصلة الصيغة الأمريكية الغربية في سوريا ولو على المدى القصير. وقد يكون هناك تحركات وتفاهمات على المشهد السوري بخصوص موضوع الدستور الجديد والمناطق التي تسيطر عليها تركيا حاليا مناطق سيتم العمل على تهيئة عودة السوريين إليها.
ما يميز هذه القمة أنها تأتي بعيد وأثناء العديد من التطورات سواء في المنطقة أو على صعيد الدول المجتمعة في القمة على مستوياتها الداخلية والخارجية وخاصة فيما يتعلق بأدوارها في سوريا، ولعل أهم ما يمكن ذكره هنا هو قدرة تركيا على السيطرة على عفرين وطرد حزب العمال و وحدات الحماية منها وما زالت ترى ضرورة السيطرة على منبج وقد أجرت مجموعة من التفاهمات مع وزير الخارجية الأمريكي المقال ريكس تلرسون وتحاول حاليا استطلاع المواقف الحقيقية للولايات المتحدة في سوريا بعد انتصار أنقرة في عفرين وبعد قدوم وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو الذي يرى عدد من المحللين أن قدومه بعقليته الصقورية ومواقفه السابقة لن تخدم الرؤية التركية للحل في سوريا.
في ظل هذه الظروف لم تتخل تركيا عن مطالبة الولايات المتحدة باتخاذ مواقف تراعي المخاوف التركية لكن الذي كان يلبي هذا الأمر هو روسيا
وعلى الجانب الأوروبي فإن علاقات تركيا لم تتحسن كثيرا بالرغم من الأجواء التي رافقت القمة التركية الأوروبية في فارنا في الأيام الماضية فقد صرحت النمسا تصريحات اعتبرها الأتراك تسميما للأجواء حيث دعت لوقف مباحثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي كما أن فرنسا دخلت على خط الأزمة في سوريا بشكل أكبر عندما عرضت الوساطة بين تركيا وبين حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته العسكرية في سوريا وقد رفضت تركيا هذا المقترح واعتبرته تجاوزا فرنسيا كما أن الحديث يدور حول تدخل فرنسي عسكري في شمال سوريا وقد كان الموقف الفرنسي أثناء عملية تركيا في عفرين سلبيا للغاية من وجهة النظر التركية حيث دعا مع بدء عملية عفرين إلى شمول قرار مجلس الأمن لوقف اطلاق النار لمنطقة عفرين مما أدى إلى ردود فعل تركية ساخطة.
أما على المستوى الروسي ومع إعادة تولي بوتين لفترة رئاسية جديدة فقد “أعلنت 26 دولة عن طرد دبلوماسيين روس، ضمن استجابة متناغمة لحادث تسميم الجاسوس الروسي المزدوج السابق، سيرغي سكريبال، في المملكة المتحدة، إثر حملة ديبلوماسية هي الأوسع، تقودها لندن ضدّ موسكو.” وتأتي الولايات المتحدة على رأس هذه الدول حيث طردت 60 دبلوماسيا روسيا طردت 22 دولة من دول الاتحاد الأوروبي دبلوماسيين روس.
وقد طردت الدول الأوروبية دبلوماسيين روس كالتالي: “فرنسا (قررت طرد 4 دبلوماسيين)، ألمانيا (4)، بولندا (4)، جمهورية التشيك (3)، ليتوانيا (3)، الدنمارك (2)، إيطاليا (2)، هولندا (2)، إسبانيا (2)، كرواتيا (1)، رومانيا (1)، إستونيا (1)، فنلندا (1)، المجر (1)، لاتفيا (1)، السويد (1)، إيرلندا (1).”
أما إيران فلا يخفى على أحد ما تصرح به إدارة ترامب وموقفه المعارض للاتفاق النووي مع إيران في عهد إدارة أوباما واعتباره كارثة والتعاون الأخير المتزايد في المنطقة مع دول الخليج ضد إيران إضافة إلى التطورات الداخلية التي حدثت في إيران نهاية العام الماضي والتهديدات المتزايدة بعمل ما ضد إيران ونفوذها الإقليمي.
وبالرغم من كل ما سبق إلا أن هناك نقاط خلاف بين الدول الثلاثة ولعل التنافس التركي الإيراني في شمال سوريا قد يكون أقرب إلى مواجهة ما في حال حصلت مشاحنات تكتيكية
في ظل هذه الظروف لم تتخل تركيا عن مطالبة الولايات المتحدة باتخاذ مواقف تراعي المخاوف التركية لكن الذي كان يلبي هذا الأمر هو روسيا سواء في الضوء الأخضر في درع الفرات أو عفرين أو في تقديم أسلحة رفضت الدول الغربية تقديمها لتركية مثل المنظومة الدفاعية اس 400 ولهذا فمن الطبيعي أن يحدث تطور في العلاقات التركية الروسية بالرغم من الخلافات الموجودة والتاريخية وقد تزامنت القمة مع افتتاح محطة أك كويو للطاقة النووية في مرسين بعد أن أعطت تركيا المشروع لشركة روس اتوم الروسية الحكومة ويتضمن المشروع بناء 4 مفاعلات ويتوقع الانتهاء منه في عام 2023 وسيوفر على تركيا مبالغ مالية كبيرة وهو أول مشروع من نوعه في تركيا حيث تبلغ قدرة كل مفاعل 1200 ميغاواط.
وحتى على المستوى الأمني هناك تعاون كبير بين البلدين وكانت بعض الصحف قد نقلت أن الروس كانوا قد نقلوا للأتراك قبيب المحاولة الانقلابية في 2016 معلومات عن تحركات ما ولكن لم يتم التعليق على ذلك رسميا ومؤخرا “كشف مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ألكسندر بورتنيكوف، عن إسهام الاستخبارات التركية في الحيلولة دون عمل إرهابي في بطرسبورغ الروسية أثناء الاحتفالات بعيد رأس السنة الجديدة.”
وبالرغم من كل ما سبق إلا أن هناك نقاط خلاف بين الدول الثلاثة ولعل التنافس التركي الإيراني في شمال سوريا قد يكون أقرب إلى مواجهة ما في حال حصلت مشاحنات تكتيكية لكن البلدان الثلاثة لديهم قدرة جيدة وخبرة في تجنب المواجهات وإدارتها واستدراكها وسيبقى الموقف الغربي والأمريكي تحديدا مع تركيا عاملا مهما في سرعة التقارب التركي مع روسيا فعلى صعيد المثال في حال توافقت واشنطن مع تركيا بخصوص منبج وشرق الفرات وهو أمر غير مرجح خصوصا شرق الفرات فستكون علاقات تركيا مع روسيا وإيران أمام اختبار أما في حال كان الموقف الأمريكي والغربي ( فرنسا تحاول القيام بشيء حاليا) مخالفا للمصالح التركية فإن التنسيق التركي الروسي ربما يتكثف فيما يتعلق بسوريا وبالعلاقات الثنائية.
وبالتأكيد فإن إيران حريصة على ألا تكون تركيا في الجهة الأخرى في حال تم العودة إلى فرض العقوبات عليها وحاليا لا تقبل تركيا بعقوبات على طهران لكنها ليست سعيدة أيضا بالتمدد الإيراني في المنطقة ولذلك فإن التحركات في المنطقة والحسابات تسودها حالة كبيرة من التعقيدات وعدم الوضوح في المواقف ولا يستطيع طرف العمل مع طرف آخر على المدى الاستراتيجي في كافة القضايا غير أن الموقف التركي في النهاية بات يدرك أنه كما لكل دولة من هذه الدول مصالحها فتركيا أيضا لديها مصالحها وستحاول تحقيقها بالطرق التي تراها الأجدى ومع الدول التي تبدي مراعاة لمخاوفها حتى لو كانت هذه العمليات على مدى قصير.