يروي وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس في مذكراته “الواجب.. ذكريات وزير دفاع” أن العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله طلب من الرئيس الأمريكي السابق أوباما شن هجوم على إيران تدفع السعودية مقابله، لكن رد أوباما كان حاسًما على ذلك الطلب حين قال “جيشنا ليس مجموعة من المرتزقة يا جلالة الملك”.
لم يكن أوباما يفكر بعقلية رجل الأعمال دونالد ترامب الذي يخلفه الآن، فثمة من يذكر الأخير في كل مناسبة يخرج فيها ويخلط بين مشاغل رجل الأعمال وهموم الرئاسة، بأنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بل القائد الأعلى للقوات المسلحة، لا داخل البلاد وحسب بل عبر العالم كله ومنه سوريا.
سوريا التي يريد ترامب سحب قواته منها، لكن بشرط أن تدفع السعودية فاتورة بقائها، وهي حين تفعل ربما تكون المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يصبح الجيش فيها في المزاد؛ أي أنه يقدم الخدمة للآخرين ماداموا يدفعون وليس لحماية المصالح الأميركية، وتلك تسمى ارتزاقًا في لغة الجيوش والسياسة.
عليكم أن تدفعوا!
تنشر واشنطن نحو ألفي جندي لم تكن مهمتهم يومًا الإطاحة بالأسد بل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، كما أنهم موجودون في منطقة بالغة الأهمية الإستراتيجية حيث ثروات سوريا من النفط والغاز، والأهم أنهم يتمركزون حيث يمكنهم قطع الطريق على أي مسعى من دول الإقليم نافذة في سوريا للتواصل جغرافيًا مع العراق.
يريد الرئيس ترامب سحب هؤلاء للمرة الثانية خلال أيام قليلة، بداية قال إنه يريد ذلك قريبًا جدًا، وبعد يومين صحَّح وأوضح أن السعودية مهتمة جدًا ببقاء قوات بلاده هناك، لكنه يريد عودتهم إلى الوطن قريبا، لكن إذا كانت تريد بقاءهم فعليها أن تدفع.
مطالبة ترامب للسعودية يثير أسئلة عن نظرة أهم حليف دولي لها، حيث سبق له أن وصف بعض صفقاتها بأنها مجرد “فستق” مقارنة بحجم ثروتها، فهل تريد الولايات المتحدة البقاء أم الانسحاب؟ أم ما يدور في خلد الرئيس الأمريكي يتعلق بالمال؟
التفسير الأقرب، وفق أحد السيناريوهات التي رسمتها “نون بوست” في تقرير سابق، يتمثل في ابتزاز السعودية من أجل الحصول على مزيد من الأموال، ويمكن قراءة هذا السيناريو بعين أكثر اتساعًا من خلال الربط بين توقيت إعلان ترامب عن تلك التصريحات وزيارة ابن سلمان لواشنطن وما أثير خلال لقائهما بشأن طلب زيادة حجم الاستثمارات السعودية ورفع قيمة صفقات التسليح.
وسبق لصحيفة واشنطن بوست أن ذكرت أن ترامب حدد قبل أيام المبلغ المطلوب من السعودية، وكشفت أن الرئيس الأمريكي طلب من ولي العهد السعودي 4 مليارات دولار للمساهمة في تسريع خروج القوات الأمريكية من سوريا.
وعقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته قريبًا، تحدث ابن سلمان في مقابلة صحفية نشرتها مجلة التايم الأمريكية على موقعها مساء الجمعة الماضية، عن الحاجة لبقاء القوات الأميركية في سوريا على الأقل لفترة متوسطة المدى لكبح نفوذ إيران، واستبعد إزاحة بشار الأسد من السلطة، معربا عن أمله في ألا يصبح دمية بيد طهران، على حد تعبيره.
فن الصفقة.. المال أولاً
ليست صيغة “عليكم أن تدفعوا” جديدة في لهجة ترامب تجاه السعودية، فقد سبق له أن استخدمها في حديثه عنها، قائلاً “إنها بلد غني، وستمنح الولايات المتحدة بعض ثروتها، عبر شراء الأسلحة وتوفير الوظائف للأميركيين”.
لم يخيب الأمير الشاب ظن رجل الأعمال، فتحدث أمام الكاميرات عن توفير أربعة ملايين فرصة عمل بصورة مباشرة وغير مباشرة في الولايات المتحدة جراء الصفقات المقدرة بمليارات الدولارات مع السعودية.
منطق “الصفقات” الذي يتحدث به ترمب لم يبدأ مع وصوله للبيت الأبيض، حيث تحدث عن السعودية بالمنطق ذاته خلال حملته الانتخابية عندما وصفها “بالبقرة الحلوب“، لذا يَجِب أن يذهب معظم إنتاجها، إن لم يكن كلُّه، إلى الخزانة الأمريكية.
سبق لترمب أن أعلن رغبة بلاده في أن تطرح السعودية أسهم شركة أرامكو بقيمة قد تصل لمائة مليار دولار في بورصة نيويورك
وخلال استقباله ولي العهد السعودي في البيت الأبيض نهاية الشهر الماضي، طالب ترامب الأمير محمد بن سلمان بشكل واضح بأن تعطي المملكة بلاده “بعضا من ثروته، قائلاً إن “السعودية دولة ثرية جدًا، وسوف تعطي الولايات المتحدة بعضًا من هذه الثروة كما نأمل، في شكل وظائف، وفي شكل شراء معدات عسكرية”.
وبشكل لم يسبق لترامب استخدامه مع أي مسؤول قابله في البيت الأبيض، عرض ترمب لوحات تحتوي على صور وأرقام تمثل قيمة صفقات السعودية مع بلاده، التي بلغت خلال رحلته الأولى للرياض العام الماضي نحو 500 مليار دولار، وعلق على إحدى الصفقات التي بلغت قيمتها 525 مليون دولار أميركي، قائلاً “هي مجرد حبات فول سوداني بالنسبة لكم”؛ الأمر الذي رد عليه ابن سلمان بالضحك.
وخلال الزيارة نفسها، كشف عن توقيع السعودية والولايات المتحدة اتفاقات تبلغ قيمتها نحو مئتي مليار دولار، ليصل مجموع ما حصله ترمب من حليفته العربية الأهم نحو سبعمئة مليار دولار خلال أقل من عام من وصول محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد، وقبل جلوسه على عرش المملكة خلفا لوالده الملك سلمان بن عبد العزيز.
وبعد عودته من الرياض في مايو/أيار العام الماضي، صرح ترمب -تعليقا على الصفقات التي حصلها من السعوديين- قائلا “وظائف.. وظائف.. وظائف”، في حين كتبت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز عن أن الولايات المتحدة وقعت مع السعودية أعظم صفقة تسليح في تاريخها، بلغ مقدارها أكثر من 109 مليارات دولار .
وسبق لترمب أن أعلن رغبة بلاده في أن تطرح السعودية أسهم شركة أرامكو بقيمة قد تصل لمائة مليار دولار في بورصة نيويورك، على الرغم من تحذيرات مستشارين للسعودية عن مخاطر هذا الطرح من الحجز على هذه الأسهم من قبل ضحايا أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 استنادًا إلى قانون جاستا.
ضريبة الحرب الباهظة
الرئيس ترامب لم يتوقف إلى الآن عن مُحاولاتِه لابتزاز السعوديّة ودُوَل الخليج الأُخرى حتى آخر دولار في جُعبَتها، لأنّه لا يجد حتى الآن غير التَّجاوب الكامِل مع طلباتِه.
ويعلم ترامب جيدًا أهمية الملف السوري بالنسبة للسعودية، كونه أحد أبرز ساحات الصراع على النفوذ مع الغريم التقليدي، إيران، كما يعلم أيضًا أن تحقيق الرياض لأهدافها داخل سوريا مرتبط بالوجود الأمريكي هناك، وحال انسحاب الأخير ستمنى المملكة بخسارة جديدة تضاف إلى سجلات هزائمها أمام طهران، خاصة أن جراحها في اليمن لم تلتئم بعد.
وفي كل مرة يتحدث بثقة وكأنه يعلم من سيدفع في النهاية تعويضًا عما خسرته أمريكا، فقد أعلن أن بلاده أنفَقت 70 مِليار دولار في سوريا، و7 تريليون دولار أُخرى في الشَّرق الأوسط على مَدى السَّنوات الماضِية.
خَسِرت أمريكا تريليوناتها في الشَّرق الأوسط بسبب كراهيتها للعرب ورؤيتها للمِنطقة وتطوّراتها من مَنظورِ المَصالِح الإسرائيليّة الصِّرْفَة، أما سوريا، فلم تَجْنِ غَير القَتل والدَّمار الذي تدفع السعودية مقابله من أموال الشعب السعودي.
بات بعض المحللين يشككون في قدرة الرياض على توفير التمويل اللازم لرؤية 2030 التي يعتبرها الأمير السعودي الشاب برنامجه الذي يقدمه كحاكم قادم للمملكة.
وبالرغم من حجم الأموال التي ظهرت في صفقات الأمير محمد بن سلمان مع ترامب، تبرز تقارير اقتصادية عديدة تتحدث عن حجم البطالة المتفشي في السعودية اليوم، وكيف بات أكثر من نصف السعوديين بحاجة للمساعدات التي باتت حكومتهم تشغلهم بالحصول عليها.
وثمة فرق حاسم بين ثروة يرثها بالولادة والقرابة البيولوجية وأخرى تمثل أصول لدولته وشعبه، وبالنسبة للبعض فإن الرجل يفرط في الأصول في بلد تعاني من ارتفاع من معدلات الفقر وتزايد رقعة الفقر وتوحشه.
ومع انتهاء جولته التي بدأت في مصر وهناك دفع، ولاحقا لندن وهناك عقد الصفقات، وأخير واشنطن، بات بعض المحللين يشككون في قدرة الرياض على توفير التمويل اللازم لرؤية 2030 التي يعتبرها الأمير السعودي الشاب برنامجه الذي يقدمه كحاكم قادم للمملكة.
بالتوازي مع ذلك، يصدر ابن سلمان خطابًا يخاطب المنظومة الأخلاقية والفكرية للغرب، فهو حداثي ومع المراة وضد الظلامية والفهم المتشدد للإسلام، وضد الفساد، ومع نقل بلاده للقرن الحادي والعشرين.
لكن ذلك يتم تحت قصف من الصفقات المجزية بهدف شراء الصمت، وفقًا لمنظمات حقوقية تقول إن أي نظرة متفحصة لمقولاته وسلوكياته تخلص إلى أنه لا يختلف عن أي ديكتاتور صغير في المنطقة لكنه يملك مالاً يغطي به على أي انتقادـ وذاك يكفي في البيت الأبيض حيث رئيس يدير السياسات كما يقول البعض كما يدير العقارات بيعَا وشراءَا وتأجيرَا.