ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: أندرو إنغلاند وهبة صالح
يبدو أن جميع الأسباب التي ساهمت في انفجار الوضع سنة 2011 ما زالت قائمة، من أبرزها التراجع الحاد في الدعم الذي تقدمه الدولة، بالإضافة إلى التضخم المالي، والبطالة، والقمع، إلى جانب ارتفاع عدد السكان. ومن المؤكد أن هذه الأسباب في تفاقم مستمر.
في هذا الإطار، أوضح المواطن التونسي محمد الصغير، “لقد تم إطلاق النار على الأصدقاء الذين كانوا إلى جانبي وأمامي وخلفي”، مشيرا إلى الأيام العاصفة لسنة 2011، عندما سحقت قوات الأمن التونسي الاحتجاجات الشعبية باستخدام الرصاص الحي، لتنتهي هذه الأحداث بالانتصار على النظام الدكتاتوري لزين العابدين بن علي. وتجدر الإشارة إلى أن الشعوب المضطهدة منذ زمن طويل تحتج ضد أنظمتها الفاسدة والأوتوقراطية، إلا أن الأحداث التي شهدتها تونس كانت هي العامل المحفز للربيع العربي.
بعد مضي سبع سنوات، عاد الصغير، وهو خريج جامعي يكافح من أجل تغطية نفقاته من خلال الستة أو الثمانية دولارات التي يحصل عليها من عمله اليومي في أحد المقاهي، إلى جانب الآلاف من أمثاله للاحتجاج في الشوارع. ويعزى سبب الاحتجاجات المناهضة للحكومة، التي جدت خلال شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، أساسا إلى تخفيض الدعم عن الوقود، وزيادة الضرائب على السيارات والإنترنت والمكالمات الهاتفية.
الثورة المضادة
بالنسبة للكثيرين، تعد هذه التدابير التقشفية أحدث تجليات التسلط الذي تعاني منه الطبقات الشعبية على يد النخبة الحاكمة. ويعبر غضب “الصغيّر” عن واقع مشترك تعاني منه دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تسجل هذه المناطق من العالم أعلى معدل بطالة في صفوف الشباب، فضلا عن النمو الديمغرافي السريع. كما شهدت كل من الجزائر والأردن، تحركات اجتماعية أقل وتيرة ولكن يرجع سببها أيضا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وخفض الإنفاق العام.
أفاد وزير الخارجية الأردني السابق، مروان المعشر، الذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنه “في حال عدم بروز خطاب اقتصادي وسياسي جديد، فإن الصورة التأليهية لتنظيم الدولة ستطفو من جديد على السطح”
في الواقع، تعكس هذه الموجات الثورية خيبة الأمل التي اجتاحت الأوساط الاجتماعية التي كانت تتوقع الاستجابة لمطالبها بتوفير نظام أكثر إنصافًا، يوفر مواطن الشغل، ويحمي الحريات الفردية، ويقود البلاد نحو الازدهار. لقد كان هذا الغضب الشعبي السبب في اندلاع شرارة الثورات العربية خلال سنة 2011 في المنطقة. وفيما بعد، أدى ذلك إلى نشوب صراعات في سوريا وليبيا واليمن، وسهّل عمل الجماعات المتطرفة على غرار تنظيم الدولة، الذي فقد مؤخرا معاقله في كل من العراق وسوريا.
بناء على ذلك، يحذر الخبراء من خطورة فشل الحكومات في إصلاح الأنظمة الفاشلة، التي عملت طيلة عقود على الحفاظ على استقرارها باستخدام القمع، أو عبر سخاء الدولة (مثل دول الخليج)؛ لأن ذلك من شأنه أن يمثل تهديدا أكبر للاستقرار على المدى البعيد في المنطقة.
وضع لا يمكن دعمه
أفاد وزير الخارجية الأردني السابق، مروان المعشر، الذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنه “في حال عدم بروز خطاب اقتصادي وسياسي جديد، فإن الصورة التأليهية لتنظيم الدولة ستطفو من جديد على السطح”.
كما أضاف مروان المعشر قائلا إن “هذه [الكسور الاجتماعية] تعد المشكلة المركزية، وللأسف، إن عددا قليلا من القادة هم الذين يتوفر لديهم علاج لجبر هذه الكسور. وإذا استمر الحكام في تجاهلهم، يمكننا أن نشهد ربيعا عربيا جديدا يكون أكثر راديكالية وعنفا من سابقه. ولا يمكن لأي شخص أن يتكهن بحدوثه، فلم يتنبأ أي شخص باندلاع الربيع العربي سنة 2011. ولكن الوضع الراهن لم يعد قابلا للاستمرار”.
ينتاب العديد من العرب شعور بأن حياتهم قد أضحت أكثر سوءا منذ سنة 2011
إن الدول العربية الناجية من ثورات سنة 2011 قليلة، ومن أبرزها المغرب، الذي أحدث بعض الإصلاحات. لكن معظمهم عادوا إلى اعتماد أساليب مجربة سابقا، التي ترتكز على الإعانات الحكومية والقمع لتكميم أفواه الفئة الشعبية المناضلة. أما في الشرق الأوسط، فتقوم بهذا الدور العقود الاجتماعية التقليدية، والدعم الحكومي الذي يرتكز على تقديم الدولارات مقابل الحد من الحريات السياسية، بيد أن هذا الأسلوب لم يعد فعّالا في الوقت الراهن.
بعد فترة طويلة من انخفاض أسعار النفط وعدم الاستقرار والركود الاقتصادي، باتت الحكومات العربية تواجه عجزا ماليا وزيادة في الاعتماد على الديون الخارجية. وهذا يجبر الحكومات على قطع الدعم العام، الذي على الرغم من أنه يلعب دورًا في الحماية الاجتماعية، إلا أنه يستنزف ثلث الإنفاق الحكومي.
يشير الخبراء إلى أن هذه الإصلاحات كانت متوقعة، ولكنها تأتي ضمن سياق متقلب يتسم بتنامي الشعور بالظلم في أوساط فئة الشباب المتحضرين والمطلعين على الوضع على نحو أفضل. وينتاب العديد من العرب شعور بأن حياتهم قد أضحت أكثر سوءا منذ سنة 2011. فقد صرح المواطن مراد زعبوتي بأن “الوضع كان أفضل قبل الثورة، والمعيشة أرخص، بينما أصبحت كل السلع اليوم باهظة الثمن”، وأضاف “أنا عاطل عن العمل منذ سنتين“.
المثال التونسي؟
يعيش مراد زعبوتي، البالغ من العمر 34 سنة مع والدته، ويعول على جِراية والده لتسيير أموره. وفي هذا السياق، أكد هذا المواطن التونسي “لقد كنت أثق في الثورة، لكن لم يتغير شيء”. ومع ذلك، تعد تونس الدولة العربية الوحيدة التي يمكن أن تقدم نفسها، بأنها مرت على الأقل بعملية انتقال ديمقراطي بعد ثورة سنة 2011، في حين أن دولا أخرى لم تشهد سوى تصعيد في القمع.
اتخذت مصر بدورها مسارا مماثلا، حيث حصلت على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، مع تقديمها وعودا بالحد من الدعم على الوقود وتعويم الجنيه
لكن، لم يواكب النجاح الاقتصادي التقدم السياسي في تونس التي لا تزال تعاني من البطالة بنسبة 25 بالمائة في صفوف الشباب. كما أن الفوارق الواضحة بين المناطق الساحلية المزدهرة نسبيا وبين المناطق الداخلية، لا تزال قائمة إلى حد الآن.
خلال سنة 2016، وقّعت تونس اتفاقا مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 2.8 مليار دولار لإنعاش ميزانيتها التي تعاني ضغطا. لكن الحصول على هذا القرض كان مسبوقا بشرط، يتمثل في تنفيذ إصلاحات “أليمة”، بما في ذلك اتخاذ إجراءات التقشف التي تسببت في إشعال احتجاجات كانون الثاني/ يناير.
اتخذت مصر بدورها مسارا مماثلا، حيث حصلت على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، مع تقديمها وعودا بالحد من الدعم على الوقود وتعويم الجنيه. وقد وافق المستثمرون وأصحاب الشركات على هذه التدابير ولكنهم في المقابل رفعوا أسعار المنتجات الغذائية، حتى بلغت نسبة التضخم 30 بالمائة.
عندما أرادت الحكومة إعادة النظر في نظام دعم الخبز، أجبرتها الاحتجاجات على التراجع. ويعود سبب عدم التصعيد في مصر في الوقت الراهن، إلى إحكام النظام لقبضته الاستبدادية. فمنذ أن استلم الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم عبر انقلاب عسكري سنة 2013، اعتُقل الآلاف من الأشخاص، فيما تم حجب قرابة 450 موقعا على شبكة الإنترنت. وقد عبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن هذه السياسة بوصفها “بالقمع الوحشي الذي يتجلى فيه كل أشكال القطيعة بين الحكومة والشعب”.
الوضع في السعودية
يتبنى ولي العهد السعودي تغييرات على مستويات متعددة، من أجل إحداث إصلاحات في الاقتصاد السعودي القائم على النفط، وجعله أكثر استقلالية. ويسعى وريث العرش، البالغ من العمر 32 سنة، إلى إغراء الشباب السعودي من خلال الترويج لمجتمع متسامح وأكثر انفتاحا. كما حاول أيضا الحد من العجز المالي عن طريق التقليص من امتيازات الوظيفة الحكومية، والترفيع في أسعار الوقود بقرابة 127 في المائة، وإقرار ضريبة القيمة المضافة. ورغم تضييق الخناق على المعارضة، إلا أن محمد بن سلمان يعتبر في وضع محفوف بالمخاطر.
قال الأستاذ في التخطيط والشؤون العامة في جامعة مينيسوتا الأمريكية، راجي أسعد، “إن مشاكل دول المنطقة تعود أساسا لضعف القطاع الخاص وعدم قدرته على استيعاب المنضمين الجدد لسوق الشغل”
قبل أيام من إقرار ضريبة القيمة المضافة بنسبة خمسة بالمائة، استبقت السلطات في الرياض هذا القرار من خلال زيادة أجور الموظفين بقرابة 267 دولارا؛ لتجنب أي شكاوى أو امتعاض. وحتى إذا حقق الأمير السعودي أهدافه، فإنه سيتعين على الجيل القادم الذي يتنافس على العمل في القطاع الخاص، أن يخفض من متطلباته فيما يتعلق بالأجور والعلاوات. وحسب صندوق النقد الدولي، يعمل ثلثا المجتمع السعودي في القطاع الحكومي، الذي ارتفعت فيه الأجور بنسبة عشرة بالمائة.
في هذا السياق، أوضح الأستاذ في علم الاجتماع السياسي، خالد الدخيل، “أن الأمر قد يتفاقم إذا تواصل الانكماش الاقتصادي. كما أن الحكومة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الإحساس الذي يتولد لدى الشعب السعودي، وإلا سوف تمر المملكة بأوقات سياسية عصيبة”.
ظاهرة البطالة
حسب ما أدلى به الأستاذ في التخطيط والشؤون العامة في جامعة مينيسوتا الأمريكية، راجي أسعد، فإن مشاكل دول المنطقة تعود أساسا لضعف القطاع الخاص وعدم قدرته على استيعاب المنضمين الجدد لسوق الشغل، ناهيك عن متطلبات التوظيف المتزايدة.
حيال هذا الشأن، أوضح راجي أنه “كان من المعتقد أن القطاع الخاص سيصبح مصدرا للوظائف ذات الجودة العالية خاصة بعد تراجع الوظائف العمومية، لكن ذلك لم يتحقق بعد. ولم تترجم الاستثمارات الخارجية على أرض الواقع، في حين تركز الاستثمار الداخلي على قطاعات أكثر أمانا، على غرار قطاع العقارات على الرغم من أنه لا يوفر وظائف جيدة”.
من جانب آخر، يحتوي قطاع البناء والأشغال العامة على أكبر عدد من الوظائف غير الرسمية، مقارنة بقطاعات أخرى مثل المناجم والخدمات والصناعة. وبالنظر إلى الانفجار الديمغرافي الذي تعيشه مصر مع بلوغ عدد السكان 96 مليون نسمة، مقارنة بسنة 2000 عندما كان عدد السكان يبلغ قرابة 69 مليون، ارتفع معدل خرّيجي الجامعات إلى قرابة 500 ألف طالب كل سنة.
يدعو الوزير الأردني السابق، مروان المعشر، إلى ضرورة أن ترافق الإصلاحات الاقتصادية تغييرات سياسية
في سياق متصل، أورد الأستاذ راجي أسعد أن “تعليم الشباب يتبعه ارتفاع مطالبهم. وعندما يشعرون باستحالة تلبية هذه المطالب، ينتهي المطاف بمن يطمحون إلى نيل وظيفة في القطاع العمومي المنظم، إلى العمل في قطاعات اقتصادية غير منظمة، ما يولد لديهم الشعور بالإحباط والغضب”. وفي الحقيقة، لا يمكن للقمع أن يخفي هذا الشعور بالاستياء الناتج عن سوء الأوضاع. ومن جهته، أكد أسعد أن “الخطر يتلخص في نمو هذا الاستياء بالتوازي مع تصعيد السياسة القمعية”.
سخط شعبي
يعي صندوق النقد الدولي الخطر المحدق، إذ شددت المديرة العامة للصندوق، كريستين لاغارد، على ضرورة إسراع الدول العربية في توفير الوظائف، مؤكدة أن “الاستياء الشعبي الذي يتجلى في العديد من الدول، يوجب الاستعجال في اتخاذ الإجراءات اللازمة”. في هذا الصدد، أوردت لاغارد أن 27 مليون شاب سيضافون إلى سوق الشغل العربي خلال السنوات الخمس القادمة.
تتمثل مهمة الحكومات العربية في جذب الاستثمارات داخل القطاعات التي بمقدورها خلق وظائف جديدة مثل قطاع الصناعة. ولخفض الضغط على الميزانية، دعا صندوق النقد الدولي إلى تفعيل “برامج حماية اجتماعية” أكثر ملاءمة؛ على غرار تجديد نظام الإعانات، ودفع أقساط التأمين للأشخاص الأكثر فقرا.
في المقابل، يدعو الوزير الأردني السابق، مروان المعشر، إلى ضرورة أن ترافق الإصلاحات الاقتصادية تغييرات سياسية. وأشار المعشر إلى أنه لا يمكن أن تأمل الأنظمة الأوتوقراطية في أن يتطور الاقتصاد، مع الإقرار بأنه لا يمكن لأي أحد أن يتحدث عن الديمقراطية والحرية الكاملة بين عشية وضحاها. ولكن، إذا طُلب من الشعب تقديم المزيد من التضحيات الاقتصادية فيجب أن يكون ذلك مرفوقا ببعض الحريات السياسية”. لكن الحفاظ على الوضع الراهن سيؤدي في النهاية إلى اضطرابات جديدة، ولعل ذلك ما نوه إليه المعشر حيث قال إن “درجة الغضب ترتفع باستمرار وسيصل السخط الشعبي إلى مستوى حرج”.
في مصر، لا تزال ذكريات أحداث الخبز حاضرة في أذهان المسؤولين السياسيين الذين ينتابهم التوجس منذ إصلاحات نظام المساعدات الاجتماعية
لطالما كانت المساعدات محور العقد الاجتماعي الذي يربط الحكومات العربية الأوتوقراطية بناخبيها، على رأسها توفير الغذاء والطاقة بالإضافة إلى العديد من الخدمات الأخرى، مقابل عدم التدخل في السياسة. وخوفا من الاضطرابات الاجتماعية، كانت الحكومات مترددة في خفض هذه المساعدات، وتم خفضها بطريقة حذرة تحت ضغط مؤسسة صندوق النقد الدولي.
في مصر، لا تزال ذكريات أحداث الخبز حاضرة في أذهان المسؤولين السياسيين الذين ينتابهم التوجس منذ إصلاحات نظام المساعدات الاجتماعية. كانت هذه الأحداث بمثابة ردة فعل من الشعب على إجراءات التقشف التي أدت إلى ارتفاع سعر المواد الغذائية، حيث نزل قرابة ألفي شخص للشارع لمدة يومين تعبيرا عن سخطهم.
شعار الخبز
لم تهدأ الأمور حتى تدخل الجيش، وتم إلغاء الزيادات وكانت الحصيلة قرابة 80 قتيلا والمئات من الجرحى، واعتقال ألف شخص. وخلال هذه السنوات، سعت مصر في العديد من المناسبات إلى خفض دعم الطاقة بهدف تقليص العجز المالي. ولكن، تم المحافظة على الإعانات الغذائية وتوسيعها لتشمل عددا أكبر من الفقراء مقابل هذا التضخم.
إلى جانب مصر، أدت زيادة أسعار الخبز في العديد من الدول الأخرى في المنطقة إلى تنامي الاحتجاجات، على غرار أحداث الأردن سنة 1996، إذ تصاعدت موجات الاحتجاج في جنوب البلاد لتصل إلى العاصمة عمان. وعلى نفس المنوال، حدث الأمر ذاته في تونس. ولكن يبقى شعار الأيام الأولى من الثورة المصرية “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، هو الشعار الأقوى. وهو الرمز الذي تخشى الحكومات العربية من الاقتراب منه.
74 مليار دولار
حسب صندوق النقد الدولي، أنفقت الحكومات في الشرق الأوسط 74 مليار دولار في إطار الدعم على المحروقات خلال سنة 2016، وهو ما يعادل ربع الدعم العالمي.
المصدر: جون أفريك