ترجمة وتحرير: نون بوست
تخفي المعارك وحملات القصف الجوية الكثير من الأسرار، وهذا هو الحال في الغوطة الشرقية. ولسائل أن يسأل: لماذا تشن القوات النظامية عمليات قصف وحشية مفاجئة لهذه البلدات والقرى السورية منذ أكثر من ثلاثة أسابيع؟ ولماذا تقصف المنازل والشوارع المقفرة؟ وكيف نجا الكثير من المدنيين، إلى جانب المئات من قوات المعارضة المسلحة؟
لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة إلا من خلال النظر إلى المخبأ الذي يقع بالقرب من عربين، على الطريق السريع الدولي القديم بين دمشق وحلب، الذي تحطم في الوقت الراهن. يحمي هذا المخبأ براميل نفط من الخرسانة الصلبة وسقف حديدي، وقاذفة قنابل صاروخية، وبضعة بنادق ودراجة نارية متصدئة، التي من المحتمل أنها مخصصة لنقل الرسائل عند قطع الخطوط. وحيال هذا الشأن، قال أحد الجنود السوريون إنه “يتم قذف هذا المخبأ بحوالي 20 “قذيفة هاون في اليوم”.
في الواقع، يأمل هذا الجندي أن ينتهي هذا القصف. بصرف النظر عن مصابيح الزيت وأكواب شاي “موتا” (شراب غير كحولي مصدره نباتات أرجنتينية، يشربه الجيش السوري) فإن ما يلفت انتباهك في ذلك المكان هو غياب الخنادق.
أصبحت هذه الأعمال الحجرية الكبيرة (الأنفاق)، التي نحتتها بعض الصخور الحية، وكانت في السابق حكرا على الفلسطينيين المنتمين لحركة حماس، سمة مألوفة للحرب السورية.
كان عناصر القوات التابعة للمعارضة يطلقون لحاهم مثل الجنود الفرنسيين في الحرب العظمى قبل مائة عام. لكنهم لم يقوموا بحفر أي خنادق. علاوة على ذلك، لا يوجد زقاق مليء بالأوساخ والطين بجانب المخبأ لتوفير غطاء للرسول عند إرسال الرسائل، ويحميه من قذائف الهاون المتساقطة. وربما كانت الدراجة النارية وسيلة تساعده على إتمام مهمته. لكن، لم يسبق أن قدّم لي أحد تفسيرا جديا عن سبب غياب شبكات من الخنادق على الخطوط الأمامية والخلفية، أو طبقات تم حفرها بعمق في سوريا.
في المقابل، صُعق العديد من هؤلاء الجنود السوريين عندما اكتشفوا كيف كان أعداؤهم يختبئون بأمان. وقد روى شاهد عيان ما رآه عندما دخل إلى الأنقاض بعد أن انفجرت أولى القنابل الهجومية السورية في الخطوط الأمامية لمدينة دوما: “لم أر قط مثل هذا الكم الهائل من الأنفاق. لقد بنوا أنفاقا عميقة في كل مكان تمتد تحت المتاجر، والمساجد، والمستشفيات، والمنازل، والمباني السكنية، والطرق، والحقول. وعندما دخلتُ أحدها، وجدت أنه مجهز بإضاءة كهربائية كاملة، ومصابيح معلقة لمئات من المترات. فمشيت قرابة نصف ميل في تلك الأنفاق، وحينها أيقنت أنها كانت آمنة وملجأ مناسبا للكثير من المدنيين”.
دخلت حافلات إلى المعقل الأخير للمعارضة في الغوطة الشرقية، في الثالث من نيسان/ أبريل، للاستعداد من أجل اليوم الثاني لإخلاء المدنيين.
أصبحت هذه الأعمال الحجرية الكبيرة (الأنفاق)، التي نحتتها بعض الصخور الحية، وكانت في السابق حكرا على الفلسطينيين المنتمين لحركة حماس، الذين أمضوا سنوات في حفر الأنفاق بين غزة والصحراء المصرية الجنوبية، سمة مألوفة للحرب السورية. لقد مشيتُ عبر هذه الأنفاق في حمص وفي شرق حلب، حيث قام صانعوها بنحت أسمائهم على الجدران مثل بناة السكك الحديدية في العصر الفيكتوري. تعكس هذه الأنفاق طريقة تفكير صانعي هذه الأنفاق والأيديولوجية التي كانوا يتبنونها. فقد كانت عميقة وشديدة الرطوبة، ولكنها في الوقت ذاته آمنة. وبالتالي، انكشف آخر سرٍّ في حرب الغوطة.
غالبا ما يُلقى اللوم على الطائرات السورية من الطراز القديم بسبب حملات القصف الجوية العشوائية التي تنفذها، والتي أودت بحياة 1500 مدني في الغوطة الشرقية. فضلا عن ذلك، كانت الطائرات الروسية من طراز سوخوي 24، التي يتم استخدامها في ساحة الحرب السورية عتيقة أيضا، مع العلم أنه قد تم تحديث بعضها فيما باعت الحكومة الروسية البعض الآخر لبيلاروسيا.
في سياق متصل، أفاد مصدر روسي من خارج سوريا، لكن على دراية بالعمليات العسكرية التي تجريها روسيا داخل البلاد، ويعرف مسار الصواريخ الروسية، بأن “القنابل التي استخدمناها في الغوطة لم تكن قنابل “ذكية” ذات توجيه آلي. لكن كان معظمها يضرب بعيدا عن الهدف بحوالي 50 مترا”.
بعبارة أخرى، لا يمكن التحدث هنا عن الدقة التي ترغب الكثير من البلدان الغربية أن تعتمدها. وهذا يعني أن هذه القنابل الروسية التي تم إطلاقها لاستهداف الغوطة الشرقية كانت ذات نمط انتشار يصل إلى 150 قدمًا بعيدا عن الهدف الذي كان الطيار ينوي استهدافه؛ ما يكشف أن هذه الطائرات كانت تتعمد قصف منزل بدلا من مدفع مضاد للطائرات، ومنزلا عن آخر، وأي شخص كان يختبئ داخله.
لا يزال العديد من الجنود السوريين الذين وقعوا منذ سنوات رهائن في يد المعارضة في زنازين تحت الأرض
في المقابل، يبدو أن هذه القنابل لم تكن قادرة على كسر الكتل الصخرية التي بنيت بها هذه الأنفاق، التي كانت حصنا منيعا مضادا للقنابل دفع الروس والسوريين لإطلاق المزيد والمزيد من القنابل لاختراقها. في الواقع، لم يكن للجماعات المعارضة في الغوطة أي ثكنات أو خنادق لأنهم عاشوا في الأنفاق، وتناولوا الطعام فيها، وحاربوا في وضح النهار خارجها، ومن ثم حملوا قذائف الهاون الخاصة بهم واختبأوا من جديد داخلها.
إذا كان أحد المقاتلين يريد الصلاة، كان يستطيع سلك النفق المؤدي إلى المسجد. أما إذا كان يحتاج إلى عملية جراحية، فيمكن أن يسلك تلك الأنفاق المضاءة المؤدية إلى أحد المستشفيات. وحتى إذا كان يود الانتقال إلى جبهة قتال جديدة، فلا يتعين عليه سوى السير أقداما لميل أو ميلين عبر شبكة الأنفاق التي توجد تحت سطح الأرض.
عندما تقدمت القوات السورية من وحدات “النمر”، التي يقودها العميد سهيل الحسن الملقب بالنمر، وجدوا أنفسهم يقفون أمام المدنيين وهم رافعين أيديهم إلى الهواء. وحيال هذا الشأن، روى لي رجل شاهد الفيديو الذي نشره جماعة الخوذ البيضاء الذين صوروا الجنود التابعين للقوات النظامية:
“عندما همّ رجل بالخروج صرخوا في وجهه وأمروه بأن يقف ويرفع قميصه ليتثبتوا من أنه لا يحمل حزاما ناسفا. لكنه أبى أن يقف واستمر في المشي إلى أن صاحوا في وجهه مرة أخرى، وبدأوا في إطلاق النار على الأرض والجدران المحيطة به، ما أجبره على التوقف ورفع قميصه. وفي الأثناء، خرجت امرأة وهي ترفع يديها في الهواء، عندها كان جنود النظام قد وقعوا في كمين نصبته قوات المعارضة، التي أمرتها بالعودة إلى الطابق السفلي”.
نتيجة لذلك، دفعت القوات النظامية ثمن توغلها في معاقل المعارضة. وخلال معركة واحدة قصيرة، قُتل ما لا يقل عن 20 جنديا منهم. وفي إحدى المرات، خرج خمسة رجال من تحت الأنقاض، بعد أن حلقوا لحاهم وارتدوا الزي العسكري السوري وحملوا الأسلحة؛ مدعيين أنهم جاؤوا عبر الحدود السورية.
قد لا تصدق أنه يوجد تحت أكوام الحطام والمباني المدمرة شبكة كاملة من الأنفاق أثارت دهشة السوريين
لا يزال العديد من الجنود السوريين الذين وقعوا منذ سنوات رهائن في يد المعارضة في زنازين تحت الأرض. ويبدو أن قوات النمر تمكنت من كشف أمر قوات المعارضة عندما نظروا إلى وجوههم، على الرغم من أنهم يرتدون الزي الرسمي العسكري لهذه القوات. وفي هذا السياق، أشار شاهد عيان إلى أن “قوات النمر اكتشفت أمرهم ما إن حلقوا لحاهم، فضلا عن أن ذقونهم ليست سمراء مثلهم، وبالتالي أدركوا أنهم عناصر ينتمون إلى جيش الإسلام ويتنكرون بزي الجيش السوري. لذلك قتلوهم جميعا”.
من هذا المنطلق، إن السؤال المطروح هو: لماذا تشن القوات الروسية حملات قصف دموية؟ أكد المصدر الروسي ذاته المذكور آنفا، الذي لا أظن أنه سياسي بل من أحد مؤيدي بوتين، أنه “يعتقد أن الرئيس الروسي يريد إنهاء الحرب السورية، وخاصة نزاع الغوطة، قبل انعقاد الانتخابات الرئاسية الروسية”. تُثبت الكثير من المعطيات والحقائق أن هذه التوقعات مستحيلة، نظرا لأن سوريا ليست الفيتنام وتعد منطقة شاسعة تتكون من العديد من البلدات والقرى التي تم الاستيلاء عليها على يد قوات تابعة لمختلف أطراف النزاع السوري.
في شوارع الغوطة، كانت لا تزال هناك مبان صامدة لم تُدمر نسبيا، أفلتت من بطش حملات القصف العشوائية بعد أن اتصل سكانها بالقوات النظامية عن طريق الهاتف المحمول للإعراب عن أنهم يريدون البقاء في منازلهم ولن يقاوموا الجيش السوري. لم يضطر آلاف السوريين في الغوطة إلى ركوب حافلات اللاجئين التي تستقل النساء والأطفال الذين يسافرون مع رجالهم الجهاديين إلى إدلب، على الرغم من أن بعضهم لهم علاقات مع بعص الفصائل المعارضة. ولا يزالون إلى حد الآن يعيشون في منازلهم.
قد لا تصدق أنه يوجد تحت أكوام الحطام والمباني المدمرة شبكة كاملة من الأنفاق أثارت دهشة السوريين. والأمر سيان بالنسبة للجيش الروسي الذي كان يحرس مركز المصالحة الروسي في الغوطة، حيث تم تنظيم القوافل، والقوائم، والحافلات من أجل عمليات الإخلاء. في الوقت ذاته، كانت المعارضة تتفاوض لنيل الحرية سواء من خلال تسليم الأسلحة أو الاحتفاظ بها، وتطالب بإجراء مصالحة مع القوات النظامية، وتواصل الوجود الروسي المؤقت في شوارعها، حتى لو اقتضى ذلك أن تدار السلطات المحلية بواسطة فصائل المعارضة السياسية بدلًا من المسلحة.
على إثر ذلك، اكتشفت قوات الجيش السوري الحيلة التي تستخدمها جماعات المعارضة، حيث كانوا يحاولون استعادة الأرض من جديد من السلطات المحلية. وبعد ذلك، سوف ينتشرون على أرض الميدان حاملين أسلحتهم، وربما سيتجولون عبر الأنفاق، التي لم يتم اكتشافها حتى اللحظة الراهنة.
المصدر: الإندبندنت