بعبارة “إننا نشهد يوماً تاريخياً”، وضع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بحضور نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يزور أنقرة ما بين 3 و5 نيسان/أبريل، حجر أساس بدء التعاون في إنشاء مفاعل “أك كويو” النووي الخاص بإنتاج الطاقة الكهربائية.
وخلال كلمته أيضاً، أشار أردوغان إلى أن المفاعل سيوفر 10% من مجموع ما تحتاجه تركيا للطاقة، بينما نوّه بوتين إلى أن المفاعل سيرفع من المستوى الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي لتركيا.
وفيما يُتوقع أن تعمل أول وحدة للمفاعل بحلول عام 2023، يتساءل المتابعون عن ماهية المشروع، وتأثيره على مستقبل تركيا؟
تفاصيل المشروع
في البداية، للمشروع تسلسل زمني يبدأ عام 2010، حيث وقع نائب رئيس الوزراء الروسي، إيغور ساتشين، مع وزير الطاقة والمصادر الطبيعية التركي، تانار يلديز، في 13 كانون الثاني/يناير 2010، مذكرة تفاهم حول العمل المشترك في تأسيس مفاعل نووي. ولم يمضِ الكثير حتى وقعت الحكومتان التركية والروسية، في 12 أيار/مايو 2010، اتفاقية بخصوص التعاون في تأسيس “مفاعل للقوة النووية في ساحة أك كويو” في ولاية مرسين المُطلة على البحر الأبيض المتوسط.
وبدأت التجهيزات البشرية والاقتصادية والمادية للمشروع في 26 أيار/مايو 2011، وحينما أصبحت الكوادر البشرية والمستلزمات المادية جاهزة عام 2018، وضع الرئيسان، أردوغان وبوتين، حجر الأساس.
منذ عام 2010 وحتى يومنا هذا، والحكومتان الروسية والتركية تتعاونان في سبيل إعداد الكوادر البشرية، والمستلزمات المادية اللازمة لبدء تشغيل المفاعل الذي يُتوقع أن يوفر لتركيا 4800 ميجا وات سنوياً.
إن هدف تركيا حول الاستثمار في الطاقة النووية ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى عام 1955، حيث تم إبرام اتفاقية “الذرة من أجل السلام” مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد عام على توقيع الاتفاقية، أسست تركيا مؤسسة خاصة بمتابعة فعاليات تطوير الطاقة النووية في تركيا. ولإكساب الأمر زخم أكبر، عمدت تركيا إلى تأسيس “دائرة المفاعيل النووية” عام 1972. وفي عام 1976، اُختيرت ساحة “أك كويو” المُطلة على البحر المتوسط، كساحة مناسبة لبناء المفاعل النووي.
وفي عام 1981، قبلت الحكومة التركية جميع شروط اللجنة الدولية للطاقة الذرية الخاصة بمراقبة مسار المشروع وتطوّره. ومنذ عام 1977 وحتى عام 2009، وتركيا تحاول إنهاء عملية إنشاء المفاعل.
ومنذ عام 2010 وحتى يومنا هذا، والحكومتان الروسية والتركية تتعاونان في سبيل إعداد الكوادر البشرية، والمستلزمات المادية اللازمة لبدء تشغيل المفاعل الذي يُتوقع أن يوفر لتركيا 4800 ميجا وات سنوياً.
تقوم آلية الاستثمار في المشروع على نظام “بوت” الذي يوفر على الحكومات التكاليف، حيث تتولى شركات خاصة عملية إنشائه مقابل الاستفادة من دخله لفترة زمنية محددة. يتشارك المشروع شركة “جنكيز ـ كولين ـ كاليون” التركية بنسبة 49%، مع شركة “روساتوم” الروسية التي تملك بدورها 51% من قيمة المشروع.
تبلغ كلفة المشروع 20 مليار دولار، ويُتوقع أن تبدأ أولى وحدات المشروع في إنتاج الطاقة بعد 7 سنوات من تاريخ منح تركيا الشركة كافة التصريحات القانونية والبيئية.
الهدف الأساسي من المشروع هو ترشيد استيراد تركيا من الطاقة، عبر إنتاج ما يقارب 10% من احتياج تركيا منها محلياً
تأثير المشروع على مستقبل تركيا والساحة الدولية
للمشروع عدة تأثيرات على الساحتين التركية الداخلية والدولية الخارجية، انطلاقاً من كونه جاء بالتعاون بين خلف الاتحاد السوفييتي ودولة عضو في “الناتو”، متمايزاً بذلك عما اُعتيد عليه في السابق من تعاون بين أعضاء “الناتو” فيما بينهم في مثل هذه المجالات.
أبرز تأثيرات هذا المشروع
1ـ رفع مستوى الطاقة في تركيا
كما أوضح الرئيس أردوغان، فإن الهدف الأساسي من المشروع هو ترشيد استيراد تركيا من الطاقة، عبر إنتاج ما يقارب 10% من احتياج تركيا منها محلياً. تعاني تركيا من نضوب مصادر الطاقة لديها، وهذا ما يجعلها تستورد ما يقارب 85% من حاجتها للطاقة من الخارج. وفي ترشيد استيراد الطاقة، ميزة إيجابية للميزان التجاري التركي الذي يتأثر سلباً نتيجة اضطرار تركيا لإخراج نسبة كبيرة من عملتها الصعبة للخارج، لاستيراد مصادر الطاقة الداخلة في الصناعة والتدفئة.
2ـ توسيع تركيا نطاق سياسة المحاور
تحاول تركيا من خلال إتمامها هذا المشروع مع الجانب الروسي خلق حالة من التوازن السياسي الخارجي الذي يساعدها في تحقيق أهدافها
منذ استيعاب تركيا، تحديداً بعد عام 2016، عدم تجاوب الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، مع خططها حيال القضيتين السورية والعراقية، وهي تنتهج سياسة الاستفادة من المحاور القطبية من أجل صياغة سياسة توازن قوى تتماشى مع آمالها. وانطلاقاً من هذه السياسة، يُلاحظ ميلها إلى روسيا للضغط على الغرب تارة، وجنوحها إلى الولايات المتحدة، أو القطب الغربي ككل، للضغط على روسيا وإيران تارةً أخرى.
وبمشروع بناء المفاعل بالإضافة إلى منظومة أس ـ 400 الدفاعية، تتجه تركيا، على الأرجح، نحو توسيع نطاق سياسة المحاور على صعيد استراتيجي. وتكاد تركيا تسير على هذه السياسة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث فرض القطب الغربي عليها حصاراً خانقاً، نتيجة تنفيذها عملية قبرص عام 1974، وعلى الرغم من تلميح حكوماتها المتتالية إلى ضرورة انتهاج سياسة تنويع المحاور، إلا أن الخطوات العملية لهذه السياسة لم تتضح إلا في الآونة الأخيرة.
لا ريب في أن التنافس الدولي، لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا، سيصل إلى أوجه بعد انفتاح الأبواب في هذا المجال لحساب روسيا على حساب الأطراف الأخرى
3ـ تحوّل روسيا إلى ماركة للمفاعلات النووية
بداية روسيا الاتحادية “غير الرسمية” في إنشاء المفاعيل النووية كانت في مساندة إيران، والأرجح، كوريا الشمالية، في تطوّير طاقتهما النووية، ولكن البداية الرسمية كانت في مصر، حيث وقع الرئيسان الروسي، فلاديمير بوتين، والمصري، عبد الفتاح السيسي، في 11 ديسمبر/كانون الأول 2017، توقيع العقد النهائي لمشروع إنشاء أول مفاعل نووي مصري في الضبعة، بعد خلاف امتد بين الطرفين لأكثر من 60 عاماً.
ويعد الفارق الأساسي بين المشروعين التركي والمصري، هو تشارك الطرفين، التركي والروسي، التكاليف وفقاً لآلية استثمار غير مكلفة للحكومات، أم المشروع المصري فيكبل مصر بالديون الباهظة، نتيجة إنشائه وفقاً لقرضٍ بلغت قيمته 25 مليار دولار تسدده مصر حتى عام 2028.
وفي إطار هذه النقطة، لا ريب في أن التنافس الدولي، لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا، سيصل إلى أوجه بعد انفتاح الأبواب في هذا المجال لحساب روسيا على حساب الأطراف الأخرى. فقد تشكل هذه المشاريع دافع للمملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، للتعاون مع فرنسا أو الصين أو كوريا الجنوبية أو أي دولة أخرى لصالح إنشاء المفاعل النووي الذي تريد أن تحوله يوماً ما إلى مفاعل نووي لتخصيب اليورانيوم.
وتحاول المملكة، منذ فترة من الزمن، التعاون مع الولايات المتحدة لإنشائه، غير أن المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأمريكي تقتضي بأن يكون التعاون النووي بين الولايات المتحدة والدول الأخرى تعاوناً سلمياً، وهو ما ترفضه المملكة العربية السعودية.
في الختام، ترمي تركيا التي تعاني من نقصٍ في مصادر الطاقة، إلى توفير بدائل تُغطي بها هذا النقص، وهذا ما دفعها لإنشاء مفاعل نووي بالتعاون مع روسيا، بعد عدم إيفاء الولايات المتحدة بمسؤوليتها في إنشائه. وفي عدم التزام روسيا، وغيرها من الدول، لقوانين صارمة في مجال التعاون النووي ميزة لدول المنطقة الراغبة في تطوير النشاط النووي لأهدافٍ عسكرية ردعية. ولعل ذلك يأخذ المنطقة، على المدى البعيد، نحو التنافس في هذا المجال.