تقف حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني اليوم على أعتاب تنفيذ الحزمة الثانية من خطة هيكلة الدعم التي تشمل تقليص دعم الطاقة، وشطب أسماء قرابة 30% (15 مليون شخص) من متلقي الإعانات النقدية، وذلك من أجل إعادة توزيع العائدات المستخلصة على فئات أخرى, حيث ترى الحكومة الإيرانية أن الإعانات تذهب لغير مستحقيها.
بالإضافة إلى ذلك تواجه الحكومة عجزا جزئيا في تمويل هذه الإعانات, إذ وصلت الديون المتراكمة منذ عهد حكومة محمود أحمدي نجاد حتى الحكومة الحالية إلى 72 مليار دولار، حسب تقرير نشر في صحيفة “تهران إمروز” في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتعاني إيران من معدلات استهلاك مرتفعة للطاقة تعزوها الحكومة إلى سياسات الدعم الخاطئة، فبينما تنتج البلاد 180 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي يستهلك 160 مليار متر مكعب بقيمة 54 مليار دولار، وبالنسبة للمشتقات النفطية تستهلك إيران سنويا 700 مليون برميل نفط بسعر 70 دولارا للبرميل، وحسب التقديرات يفوق الطلب المحلي في إيران بثلاث مرات متوسط الاستهلاك الأوروبي للطاقة.
الحزمة الأولى
بدأت إيران منذ مارس/آذار 2010 تحت حكومة أحمدي نجاد في تطبيق الحزمة الأولى من خطة إعادة هيكلة دعم الطاقة، إذ يُكلف الدعم الدولة الإيرانية ما يقرب من 100 مليار دولار إلى 120 مليار دولار سنويا (أي 30% من ناتجها المحلي الإجمالي). كان الهدف من الخطة رفع أسعار مواد الطاقة إلى 90% من أسعار فوب الخليج (سعر الفوب هو سعر التسليم على ظهر السفينة) والأسعار العالمية على مراحل حتى العام 2015.
وكانت للحكومة الإيرانية ثلاثة أهداف من وراء تطبيق الحزمة الأولى للخطة، أولا رفع أسعار حوامل الطاقة (مياه, كهرباء, غاز ومشتقات نفطية) إلى مستويات قريبة من الأسعار العالمية، حيث ارتفع سعر الوقود من عشرة سنتات إلى أربعين سنتا (زيادة بنسبة 300%) إلى ستين لترا, ومن أربعين سنتا إلى سبعين سنتا في حال تجاوز هذه الكمية، وأما سعر الديزل فقد ارتفع من 1.65 سنتا إلى 15 سنتا (زيادة بنسبة 800%)، ليرتفع سعره بعد ذلك إلى 35 سنتا في حال تجاوز استهلاك المواطن لكميات محددة.
ثانيا: خفض معدلات الاستهلاك المرتفعة للطاقة، حيث خفضت الحزمة الأولى من معدلات استهلاك الطاقة بين العامين 2010 و2011 بشكل ملحوظ، فقد انخفض متوسط استهلاك الوقود من 62.8 مليون لتر إلى 59.3 مليونا (انخفاض بنسبة 5.6%), وانخفض استهلاك الديزل من 18.1 مليون لتر إلى 11.5 مليونا (انخفاض بنسبة 36.5%)، كما انخفض استهلاك الكهرباء بمعدل 8%.
ثالثا: تحويل نظام الدعم إلى دعم نقدي عوضا عن نظام الدعم السلعي، وذلك من أجل ضبط الاستهلاك، حيث خُصصت 80% من العائدات التي حققتها الدولة من رفع الأسعار لإعادة توزيعها في صورة إعانات نقدية للمواطنين, و20% للقطاعات الصناعية والزراعية (وذلك بعد تعديل البرلمان للنسب بحيث تكون نسبة 50% للمواطنين و30% للقطاعات الإنتاجية المتضررة بفعل إصلاح قيمة حوامل الطاقة و20% للموازنة).
مع ذلك لم تستطع الحكومة تغطية الإعانات النقدية بشكل كامل من عائدات رفع أسعار الطاقة، حيث وصل حجم العجز بين ديسمبر/كانون الأول 2010 ونوفمبر/تشرين الثاني 2011 إلى 13.8 مليار دولار، فاضطرت الحكومة للاقتراض من البنك المركزي.
تسببت الحزمة الأولى من إجراءات هيكلة الدعم في ارتفاع معدلات التضخم وتضرر القطاعات الإنتاجية، مما انعكس سلبا على القدرة الشرائية للمواطن الإيراني، ومن ثم على الناتج المحلي الإجمالي.
الحزمة الثانية
حسب تقرير لمركز أبحاث مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) عن إعادة هيكلة الدعم في موازنة 2014-2015 يجب على الحكومة رفع أسعار حوامل الطاقة بنسبة 85% (وتشير تقديرات أخرى إلى أكثر من 90%). ووفقا لموازنة العام 2014-2015 الخاصة بهيكلة الدعم التي بلغت 62 تريليون تومان (25 مليار دولار) يجب على الحكومة أن تؤمن 52 تريليون تومان (21 مليار دولار) منهم من رفع الأسعار، أما الباقي وهو 11 تريليون تومان (ما يفوق أربعة مليارات دولار) فسيتم تأمينهم من خلال موارد الموازنة.
أما القسم الأكبر من المخصصات وهو 52 تريليون تومان ( 21 مليار دولار) فسيتم تأمين 27 تريليون تومان (11 مليار دولار) إلى 30 تريليون تومان (12 مليار دولار) منها فقط، وهو ما يعني أنه سيكون على طهران مهمة تأمين البقية بزيادة أسعار حوامل الطاقة بنسبة 92.6% حسبما ذكر موقع عيار أونلاين.
خلافاً لآلية تنفيذ حزمة الإصلاحات الأولى في 2010، صرح مسعود نيلي, مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاقتصادية في لقاء تلفزيوني بأن الحكومة لن تقوم برفع الأسعار بصورة مفاجئة ولكن سترفعها تدريجيا. وقال “لا يمكن رفع أسعار حوامل الطاقة بشكل متزامن، فمثلاً فصل الشتاء هو الفصل المناسب لرفع أسعار الكهرباء في حين أن فصلي الربيع والصيف مناسبان لرفع أسعار الغاز”.
بدأت الحكومة أولى خطوات الحزمة الثانية برفع أسعار الكهرباء بنسبة 24% (من 430 ريالا (0.01 دولار) للكيلووات للساعة إلى 533.2 ريال (0.02 دولار) للكيلووات) في نهاية فبراير/شباط الماضي وبداية مارس/آذار الجاري, ورفع أسعار الكهرباء للاستخدامات الصناعية، وأما أسعار المياه فتتضارب التصريحات حول رفع قيمتها بنسبة تتأرجح بين 20% و25% (ارتفاع سعر المتر المكعب من 255 تومان (0.103 دولار) إلى 300 تومان (0.121 دولار)، ورفع سعر بيع المياه للمنشآت الصناعية بخمس مرات مقارنة بسعر بيعها للجمهور.
وبخصوص البنزين (وهي السلعة الأكثر محورية وسط الجدل الدائر) فسيرتفع سعر اللتر من 400 تومان (0.161 دولار) إلى 735 تومانا (0.30 دولار) للستين لترا الأولى (تشمل ضريبة بنسبة 5%), ثم يرتفع سعره إلى أكثر من ألف تومان (0.40 دولار) في حال تجاوز استهلاك المواطن لهذه الكمية طبقاً لنظام البطاقات الذكية الذي بدأت الحكومة العمل به في يونيو/حزيران 2007. بالإضافة ذلك سترفع الحكومة ضريبة شراء محطات الوقود للمحروقات.
تداعيات رفع أسعار الطاقة
يُشار إلى أن رفع أسعار حوامل الطاقة سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المساكن والعقارات، ومن جهة أخرى قد يؤدي إلى تراجع الطلب على شراء السيارات، وهو ما يعني أنه يجب على الحكومة الجديدة زيادة إنفاقاتها على تعزيز شبكات المواصلات العامة، ولكن مع ذلك لا تعكس الموازنة العامة الجديدة هذا الاتجاه، إذ من المتوقع أن تخفض الحكومة إنفاقها على مشروعات البنية التحتية بنسبة 33%.
وفي تصريح يعكس خشية الحكومة من ردود فعل تقليص عدد متلقي الدعم, قال مسعود نيلي إن “معرفة دخول الأفراد سواء كانت مرتفعة أم منخفضة تشكل عقبة, كما أن معرفة دخول المواطنين فرداً فرداً ليس إجراء صحيحاً، لذا الحل الأفضل هو تدشين حملة إعلامية تدعو إلى تخلي المواطنين المقتدرين عن الدعم, حيث ستضم الحملة نخبة من الكُتاب والممثلين، وستحفز هذه الحملة عدداً أكبر من المواطنين على التخلي عن الإعانات النقدية”.
كما صرح وزير الاقتصاد الإيراني علي طيب نيا بأنه لن يحذف اسم أي متلق للإعانات النقدية بصورة إجبارية. ويبدو أن الحكومة عازمة على التمهيد إعلامياً لحزمة الإصلاحات بشكل كاف قبل الشروع في تنفيذها.
في خطوة أخرى تستهدف التمهيد لتطبيق الحزمة الثانية وامتصاص انعكاساتها, بدأت الحكومة في توزيع سلات غذائية على المواطنين محدودي الدخل على دفعات، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه أسعار عدد من السلع الغذائية تشهد ارتفاعا تدريجيا، أما فيما يخص المنشآت الصناعية التي ستتضرر من إصلاح أسعار الطاقة فستخصص لها الحكومة عشرة مليارات تومان (أكثر من أربعة ملايين دولار) حسبما ذكر محمد باقر نوبخت في مؤتمر اليوم الوطني لحماية حقوق المستهلكين.
مناطق رمادية أم اقتصاد رمادي؟
صحيح أن تزايد حجم الدعم الذي تقدمه الدولة يؤدي إلى المزيد من الإهدار وسوء استخدام المواد المدعومة، بالإضافة إلى تهريبها، ولكن هل المواطن الإيراني هو المسؤول عن هذه المشكلة أم سيقدم “كبش فداء” بديلا عن جهات أخرى؟ وهل يذهب كل الدعم الذي تتحمله الدولة إلى المواطن أم إلى فاعلين آخرين أيضاً؟
فقد جرى بعد الثورة الإيرانية تأميم عدد كبير المؤسسات المالية والمنشآت الصناعية تحت مظلة ست مؤسسات خيرية تسمى “بنيادات”، وسيطرت هذه المؤسسة على 40% من الاقتصاد الإيراني، ووفقاً للدراسات فإن الموازنة العامة لعام 1994 خصصت نحو 58% من مصادرها لهذه المؤسسات الخيرية.
وتتبع هذه المؤسسات من الناحية القانونية والسياسية للمرشد الأعلى مباشرة ولا تخضع للأجهزة الرقابية والمؤسسات المنتخبة، وبذلك لا يخضع حيز عريض من الاقتصاد الإيراني للرقابة.
ومنذ تولي هاشمي رفسنجاني للرئاسة فُتح المجال للحرس الثوري للاستثمار في قطاعات الاقتصاد في إطار مرحلة إعادة البناء. وكانت أهم مؤسسة يديرها الحرس هي “خاتم الأنبياء” التي تنشط في قطاعات النقل النفط والغاز والصناعات الهندسية. ومنذ بدأت خطط الخصخصة شرعت شركات الحرس الثوري في الاستحواذ على المزيد من المؤسسات لتتحول تدريجيا إلى “كارتل” (مجموعة شركات)، وبذلك أصبحت هذه المجمعات الصناعية التجارية التابعة لشبكة من المؤسسات الأمنية العسكرية غير خاضعة للرقابة تشكل عماد الاقتصاد الإيراني.
ولكن ماذا عن استهلاك هذه المؤسسات للمواد المدعومة؟ ناهيك عن حوامل الطاقة المدعومة التي تستهلكها (ربما تتلقى دعما أكبر عليها)، إذ تحصل هذه المؤسسات على “تصاريح خاصة” لاستيراد سلع بالنقد الأجنبي بأسعار مدعومة من خلال الموانئ التي يديرها الحرس الثوري.
إذن إلى أي مدى يُحسب استهلاك هذه المؤسسات للمواد المدعمة خاصة حوامل الطاقة ضمن المعادلة في ظل منظومة اقتصادية لا تتسم بالشفافية ولا تخضع للرقابة الإدارية والشعبية؟ هل يدفع المواطن الفاتورة وحده نيابة عن هذه المؤسسات؟
فخ هيكلي للاقتصاد الإيراني
صحيح أن الوقود المدعم لا تستهلكه سوى الشرائح الوسطى والعليا من المجتمع الإيراني في مقابل الشرائح المهمشة غير المستفيدة التي تقول الحكومة إن العائدات المُحصلة من رفع الأسعار سيعاد توزيعها لصالحها, ولكن استمرار ارتفاع معدلات التضخم (كمشكلة هيكلية يعاني منها الاقتصاد الإيراني بصفته اقتصادا ريعيا) يؤدي إلى التراجع المستمر للقدرة الشرائية للمواطن الإيراني في سياق عملية “إفقار” مستمر لشرائح الطبقة الوسطى والفئات المهمشة.
وبالتالي يجب أن يقابل أي رفع لأسعار الطاقة تدريجيا لتقترب من الأسعار العالمية زيادة الأجور تدريجيا لتقترب بدورها من مستوى الأجور العالمية. وبينما أعلنت الحكومة رفع نسبة الحد الأدنى لدخول العمال بنسبة 25% مقارنة بالعام الماضي تتجاوز نسبة التضخم هذا الرقم بأكثر من 10%، وهو ما يعني أنه يجب رفع الحد الأدنى للأجر إلى 35% و40% عل الأقل.
ويصف بعض الخبراء المشكلة التي يعانيها الاقتصاد الإيراني بـ”الفخ الهيكلي”, وهو ما يعني أنه من أجل تحويل اقتصاد الريع إلى اقتصاد غير نفطي وغير معرض لأزمات تضخم حادة يجب على سلطات إيران تنمية قطاعاتها غير النفطية، خاصة صادراتها غير النفطية كالبتروكيمياويات التي يحتاج تنميتها إلى استهلاك كميات أكبر من الغاز الطبيعي الذي يُستهلك أكثره داخليا للتدفئة.
وإذا رفعت أسعار حوامل الطاقة تدريجيا فستنخفض معدلات الاستهلاك المرتفعة ليصدر فائض الغاز ويستخدم في صناعات إستراتيجية كالبتروكيمياويات, ولكن في المقابل ستتراجع القدرة الشرائية للمواطن وستتضرر شرائح واسعة من المجتمع بفعل إصلاح دعم الطاقة على نهج الليبرالية الجديدة التي تسير عليها الحكومة.