تعود بداية القصة إلى شخص يُدعى “ملك الملوك”، وهو ملك يُعرف باسم ديكران الثاني في الحقبة ما بين 95-55 قبل الميلاد، والذي ضم إلى مملكته أجزاء كبيرة من بلاد فارس وشمال العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، في إمبراطورية عُرفت بـ “أرمينيا الكبرى” كانت تبلغ عشرة أضعاف مساحة دولة أرمينيا الحالية.
وضع “ملك الملوك” ديكران الثاني حجر الأساس لعلاقة الأرمن، أولى الحضارات المسيحية، بالعرب. كان الأرمن في ذلك الوقت أولى الحضارات التي اعتنقت المسيحية، وازدهرت فيها حركة الترجمات إلى اللغة الأرمنية، وهي الحركة التي سبقت الترجمة في الإمبراطورية الإسلامية بعدة قرون، ولكن لم تكن الترجمة ولا الأدب من لهم الفضل الأكبر في انتقال الثقافة الأرمنية إلى الوطن العربي وتحديدًا إلى بلاد الشام، بل كان من لعب الدور الأساسي في هذا الموضوع هو المطبخ الأرمني.
مرّت العلاقة بين العرب والأرمن بمراحل شد وجذب متكررة في عهد الدولة الأموية والدولة العباسية، فكان الأرمن ينحازون تارة للعرب على حساب الروم وتارة للروم على حساب العرب، وحتى حينما كانت تتمتع الدولة الأرمينية بالحكم الذاتي كانت تدفع الجزية للدولة العباسية، وفي خلال هذا التوتر بين العرب والأرمن تناقل الاثنين فيما بينهم كثير من الجوانب الثقافية التي كان من أهمها الأطعمة والمأكولات المختلفة.
صورة للكباب الأرمني
يقول الباحث الفلسطيني قصي الخطيب: يوصف الأرمن في فلسطين بـ”أولاد البلد” المندمجين إلى حد التماهي التام مع باقي الفلسطينيين، والذين وصلوا إلى هذا المكان منذ قرون عديدة، ويفخر الأرمن في فلسطين بأن جذورهم تعود إلى القرن الخامس الميلادي، حيث شكلت فلسطين امتدادًا لإمبراطورية “أرمينيا الكبرى” التي كانت واسعة الأطراف.
على مر السنين تأثر المطبخ العربي بكثير من الوصفات الأرمينية في الطهي وهو ما كان السر وحلقة الوصل بين التشابه الكبير بين المطبخ العثماني (التركي حاليًا) والمطبخ الشامي في لبنان وفلسطين وسوريا.
على الرغم من أن المطبخ الأرمني كان له تأثير واضح على المطبخ الشامي في كل من لبنان وسوريا وفلسطين أثناء الحقب الممتدة بينهما قبل الميلاد وصولًا بالدولة الأموية والعباسية، إلا أن ما كان له الأثر الأكبر في تغلغل ثقافة الطهي الأرمنية في ثقافة مطبخ بلاد الشام كان هجرة الأرمن إلى تلك البلاد عام 1915 هربًا من المذابح التي ارتُكبت في حقهم من قبل الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.
هاجر الأرمن إلى مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والعراق، ضمن الأعداد الضخمة للمهاجرين الأرمن حول العالم الذي بلغت ما بين السبعة والعشرة ملايين مهاجر حول العالم وهو ما يزيد عن عدد الأرمن الموجود في دولة أرمينيا الحالية، وعلى مر السنين تأثر المطبخ العربي بكثير من الوصفات الأرمينية في الطهي وهو ما كان السر وحلقة الوصل بين التشابه الكبير بين المطبخ العثماني (التركي حاليًا) والمطبخ الشامي في لبنان وفلسطين وسوريا.
انعكاس المطبخ الأرمني في المطبخ الشامي
حاول الأرمن الحفاظ على هويتهم في بلاد المهجر، التي من بينها بلاد الشام، فحافظوا على تراثهم من المأكولات والعادات والتقاليد والموسيقى، وتأثر العرب بها بشكل واضح كما تأثر بها العثمانيون من قبل مذبحة الأرمن عام 1915، فكان من أهم ما حافظوا عليه من تراثهم هي المأكولات الأرمنية، التي تتواجد بعض من صورها في المؤرخات التاريخية كما تتواجد بعض الصور على المنحوتات في المعابد في أنحاء أرمينيا.
قدس الأرمن القمح في مطبخهم، حيث تمتلأ جدران المعابد المنتشرة في أنحاء أرمينيا بالأدوات التي كان يستخدمها الأرمن لأجل استخدام القمح في كثير من الوصفات المختلفة.
كان أهم ما انتشر في كل من المطبخ العثماني والمطبخ الشامي والذي نُسب أصله خطئًا للدولة العثمانية كان المحشي أو “الدولمة” التي يُحشى فيها أنواع من الخضروات مثل الكوسة والباذنجان بالأرز أو اللحم المفروم، كما كان أكثر الأنواع هيمنة على المطبخ العثماني والشامي منها هو ورق العنب أو المعروف في التركية بالصارما وبالعامية العربية بـ “اليبرق”، حيث قدّس الأرمن العنب وورقه منذ قرون طويلة ماضية.
ستتعجب كثيرًا حينما تصادف معرضًا للأكلات الدولية وتجد البقلاوة والكباب والمناقيش عند الركن الأرميني، على الرغم من أنها مأكولات تركية أو شامية عهدناها على مر التاريخ، حيث قدس الأرمن المشويات التي اشتهرت بها الدولة العثمانية والمشهورة بها تركيا حاليًا كما يبرع فيها المطبخ الشامي كذلك.
اشتهر الأرمن بما يُعرف بـ “دبس الفلافلة”، وهو معجون الفلفل الأحمر الحلو الذي يستخدمه الأرمن في مختلف وجباتهم وانتقلت العادة نفسها بالنسبة للمطبخ السوري واللبناني
نقل الأرمن هذه الثقافة معهم أثناء الهجرة لبلاد الشام ومصر، حيث كانوا من أكثر الشعوب التي تُقدس زيت الزيتون في الطهي وهي السمة التي تجمع المطبخ السوري واللبناني والفلسطيني كذلك، كما اشتهروا بإدماج الباذنجان في كثير من الوجبات الأساسية المخلوطة باللحم أو المقبلات وهو ما تلاحظه فورًا في المطبخ التركي الحالي كذلك والمطاعم الشامية أيضًا.
اشتهر الأرمن بالمعجنات، وهذا يُفسر انتشار صور القمح والدقيق وأدواتهم على المنحوتات الموجودة على جدران المعابد الأرمنية، إذ اشتهروا بالعجين كثيرًا ونقلوا الثقافة ذاتها للعثمانين الذين اشتهروا أيضًا بكثير من المعجنات والمخبوزات المتنوعة التي انتقل بعض من أسمائها إلى أشهر المأكولات التركية الحالية مثل المانتي، وهي عبارة عن قطع صغيرة من العجين المحشو باللحم مع عدة أنواع من صوص الزبدة والطماطم أو البندورة وصوص الزبادي.
وجبة المانتي الأرمينية
اشتهر الأرمن بما يُعرف بـ “دبس الفلافلة”، وهو معجون الفلفل الأحمر الحلو الذي يستخدمه الأرمن في مختلف وجباتهم وانتقلت العادة نفسها بالنسبة للمطبخ السوري واللبناني كما يشتهر المطبخ التركي بمعجون الفلفل الحار والحلو ومعجون الرمان أو “دبس الرمان” وهي عادة أرمينية انتشر تأثيرها في المطبخ العثماني والشامي.
كما أثّر المطبخ الأرمني في المطبخ العثماني والشامي، تأثر بهما في نفس الوقت، فاختلطت بعض المأكولات ببعضها البعض ولم يعد من الواضح أصلها التاريخي، حيث تأثر الأرمن بطريقة الطهي في الدول المجاورة وتأثروا كذلك بمطابخ البلاد التي لجأوا إليها مهاجرين، فتعرّفوا على المأكولات التقليدية وبدأوا في تنفيذها بطريقتهم الخاصة، حيث يتمتع المطبخ الأرمني بكثير من المقبلات الشامية مثل سلطة التبولة ولكن تختلف طريقة تحضيرها عن الطريقة الشامية ويُسميها الأرمن “إيتش”.
أكثر ما يميز المطبخ الأرمني هو الحفاظ على هويته على الرغم من تداخل العديد من الثقافات الشرق أوسطية والأوروبية والعربية والعثمانية مع الأرمن إلا أن المطبخ الأرمني حافظ على الوصفات التي ورثها الأرمن عن أجدادهم منذ أن كانوا إمبراطورية أرمينيا الكبرى مرورًا بمراحل الحرب والشتات التي تعرض لها الأرمن بعد تهجيرهم من الدولة العثمانية بالإضافة إلى حالة الشتات التي تعرضوا لها في البلاد العربية مثل لبنان التي هجروها أيضًا بسبب الحرب الأهلية وفلسطين التي تركوها بعد الاحتلال الصهيوني.