نهايات يونيو/حزيران المنصرم، ظهر قائد الجيش السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، وهو يتناول الإفطار مع جنوده في الخطوط الأمامية لجبهة القتال في ولاية سنار، وحين حلَّ وقت وجبة العشاء كانت مليشيا الدعم السريع قد التهمت عاصمة الولاية، مدينة سنجة، ناقلة الحرب إلى جغرافيا جديدة وعلى مقربة من حدود إثيوبيا وجنوب السودان.
وتقترب حرب الجيش والدعم السريع في السودان من شهرها الـ15 دون أن تلوح بوادر حقيقية لوقف الاقتتال الذي دمر البنية التحتية بصورة مرعبة، وتسبب في مقتل ما يزيد على 16 ألفًا و650 شخصًا طبقًا لمشروع بيانات أحداث ومواقع النزاعات التابع للأمم المتحدة في الفترة من 15 أبريل/نيسان 2023 وحتى 10 مايو/أيار 2024، في الوقت الذي تقدر منظمة الهجرة الدولية عدد النازحين الفارين من بيوتهم جراء الحرب بـ11.1 مليون نسمة.
وبوصولها إلى سنار حققت الدعم السريع مكاسب جمة، على المستويات العسكرية والتفاوضية والاقتصادية، وهو ما نستعرضه بالتفصيل في هذا التقرير.
حسابات الميدان
لا شك أن خسارة سنار أو أجزاء كبيرة منها تمثل ضربة موجعة للجيش، وهو أمر تظهره الجغرافيا بشكلٍ لا يقبل النقاش.
جغرافيًا، تقع ولاية سنار جنوب شرقيّ البلاد، وتحدها شمالًا ولاية الجزيرة التي ترزح تحت حكم المليشيا منذ نهايات العام الماضي، أما في بقية الاتجاهات فتحدها بضع ولايات ما زالت في قبضة الجيش، فجنوبًا تحدها ولاية النيل الأزرق المتاخمة لدولة جنوب السودان، وشرقًا ولاية القضارف المحاذية لإثيوبيا، وغربًا ولاية النيل الأبيض التي يضيق الخناق عليها يومًا بعد يوم، ولم يتبق لها متنفسًا من المليشيا إلا من الجهة الغربية التي تتواجد المليشيا في المسافة الفاصلة بينها وبين عاصمة ولاية شمال كردفان، مدينة الأبيض.
خسائر الجيش في سنار
وعلاوة على اجتياحها عاصمة الولاية، سنجة، ومدن مثل الدندر والسوكي، وضعت الدعم السريع مدينة سنار (أهم حواضر المنطقة) تحت ضغط حصار محكم، وفصلتها عن خطوط إمدادها مع حاميات الجيش الرئيسة في الولايات الأخرى، وهو أمر ينذر باحتمالية كبيرة لسقوط المدينة التاريخية في قبضة المليشيا.
ثم إن خسائر الجيش في سنار لا تنتهي عند هذا الحد، حيث وضعت قوات الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) يدها على طرق إمداد الجيش الرئيسة بين مراكز سيطرته شمالًا وشرقًا، مع قواعده في الوسط والغرب والجنوب.
وعليه سيكون الخطر الأكبر من وصول الدعم السريع إلى سنار، كونه يمهد الطريق إلى سقوط أقاليمٍ جديدة، حيث خرجت المليشيا من خانة المدافعة عن مكاسبها في الجزيرة إلى فتح المجال أمام الهجوم على القضارف، التي تعد البوابة الجنوبية لشرق السودان (مستضيف العاصمة المؤقتة).
وتزداد المخاطر بالطبع، مع وجود حدود تربط الولاية بالجارة الشرقية إثيوبيا، ويظهر ذلك في الاقتتال الدامي للسيطرة على مدينة الدندر الاستراتجية، فالمليشيا تريد إكمال سيطرتها على المدينة، والتسلل من إثيوبيا لمهاجمة الجيش السوداني وهو أمر شبيه بما يجري مع الجارة الغربية تشاد، التي ما انفكت السلطات السودانية تتهمها باتخاذ أراضيها منصة لدعم المليشيا.
وفي الصدد، سرت أنباء مؤخرًا عن وجود اتصالات بين الدعم السريع ومليشيا فانو الإثيوبية من أجل التنسيق والعمل المشترك، حيث تسعى المليشيا السودانية إلى اجتياح شرق السودان عن طريق بوابته الجنوبية، مدينة القضارف، بينما تعمل المليشيا الإثيوبية لأجل استعادة أراضي منطقة الفشقة الزراعية شديدة الخصوبة، بعدما استردها الجيش السوداني في خضم احتدام الصراع بين الجيش الإثيوبي ومقاتلي جبهة تحرير تيغراي في العام 2021.
وبالطبع، ستكون النقطة الأخيرة في سجل الخسارات العسكرية الضخمة للجيش من وصول المليشيا لولاية سنار، إمكانية وضع الجيش بين مطرقة سنار، وسندان مباغتته بتحركات من داخل دولة جنوب السودان. توقع تدعمه الأنباء المتواترة عن احتجاز الجيش الشعبي في دولة جنوب السودان، لمركبات قتالية للمليشيا عقب تسللها إلى داخل العمق الجنوبي بهدف شن هجوم على قوات الجيش بولاية النيل الأزرق.
قطع الدومينو
وليزداد المشهد تعقيدًا، فقد ضاعفت الهجمة على سنار من قوة الدعم السريع باستيلائها على سلاح فرقة الجيش في سنجة، وبضم المئات من عربات المواطنين المنهوبة بواسطة عناصرها إلى أسطول مركباتها المقاتلة، وليس نهاية بتجنيد أفراد جدد سواء من أهالي سنار، أم من لاجئي ومرتزقة دولتي إثيوبيا وجنوب السودان، طبقًا لاعترافات أحد أبرز القادة الميدانيين في صفوف المليشيا.
ويعتقد المحلل السياسي، محمد جبريل، أن سيطرة الدعم السريع على سنار، تؤكد أن سقوط بقية حاميات الجيش مسألة وقت، خاصة أن الطريق بات ممهدًا لاقتلاع نظام البرهان، على حد وصفه، قائلًا لـ”نون بوست” إن من غرائب حرب السودان، أن قادة الجيش درجوا على التبشير بالحسم العسكري، فيما تتساقط حامياتهم كقطع الدومينو واحدة تلو الأخرى.
ومن ضمن 18 ولاية سودانية، يسيطر الجيش بشكل كامل على 6 ولايات هي: البحر الأحمر، كسلا، القضارف، الشمالية، نهر النيل، النيل الأزرق، وبصورة كبيرة على ولايات: سنار، والنيل الأبيض، وشمال كردفان، التي تشهد أطرافها هجمات للدعم السريع، بينما تعد بقية الولايات في قبضة الدعم السريع بصورة كليةٍ أو شبه كلية.
وعاد جبريل ليقول إنه من واقع الحال، فإن خيار السلام المطروح حاليًا سيكون مرفوضًا بعد فترة وجيزة لدى قادة الدعم السريع، استنادًا إلى تقدمهم الميداني، ما يجعلهم يغلبون الحسم العسكري كوسيلة لحسم الصراع بدلًا من إنهائه في طاولات التفاوض.
وفي الضفة المقابلة، يرى الباحث في الشؤون العسكرية، طلال عبد الرحمن، أن مليشيا الدعم السريع في طريقها إلى الانهيار، ويقول عبد الرحمن لـ”نون بوست” إن الانتشار لا يعني السيطرة، وتحركات المليشيا الأخيرة لا تنم عن أي تكتيك عسكري، ونابعة من ذهنية أفراد العصابات الساعين لسلب ونهب المدنيين العزل، أسوة بما جرى في كل المناطق التي وطأتها أقدام المليشيا.
ونزح ما يزيد على 136 ألف من مواطني ولاية سنار، عقب اجتياح الدعم السريع للولاية، وشروع عناصرها في عمليات نهب وسلب واسعتين، تخللتهما أعمال عنف وحشية بحق المدنيين، طبقًا لشهود عيان تحدث إليهم “نون بوست”.
وفي الصدد، يشير طلال عبد الرحمن إلى فقدان عناصر الدعم السريع القيادة والتوجيه، بالإضافة إلى ما يصفه بحالة الضعف التي تعتري المليشيا جراء انتشارها في أراضٍ واسعة، ما يضطرها إلى تغطية ذلك بالاستعانة باللصوص والمرتزقة الساعين للمغنم، على حد قوله.
وختم “على عكس كثيرين، أرى أن فرص الجيش في القضاء على المليشيا ارتفعت جراء حرب الاستنزاف التي يشنها خلال الآونة الأخيرة، مع استراتيجية وإن كانت بطيئة نسبيًا في تحرير الأراضي القابعة تحت سيطرتها كما يجري في العاصمة الخرطوم”.
خسارات الاقتصاد
فقدت الدولة السودانية، لأول مرة منذ ما يزيد على مائة عام، إيرادات أكبر مشروع زراعي مروي في القارة الإفريقية “مشروع الجزيرة”، جراء سقوط الولاية في قبضة المليشيا، وذات الأمر يتهدد ولاية سنار التي تحتضن مشروعات زراعية ضخمة كمشروع السوكي الزراعي (100 ألف فدان).
وفضلًا عن توافر مصادر المياه (النيل الأزرق ونهر الدندر)، تمتلك سنار مئات آلاف الهكتارات التي يجري زراعتها سنويًا عن طريق الري المطري، ويحل موسم الخريف الحالي (موسم الأمطار) في ذروة القتال والنزوح لأهالي الولاية الذين يعتمدون على الزراعة في معاشهم.
يقول المزارع بمشروع السوكي الزراعي، سيف الدين ناصر، لـ”نون بوست” من مقر إقامته بمدينة القضارف التي نزح إليها قبيل أيام، إن الأضرار التي حاقت بالمشروعات الزراعية جراء الحرب كارثية، ويصعب معالجاتها مستقبلًا، وأضاف “تمت سرقة وتدمير الآليات والحاصدات الخاصة بالمزارعين والمشروعات الزراعية بواسطة المليشيا، كما تم التعدي على مراكز البحوث، والاستيلاء على كل المحاصيل الزراعية ومدخلات الزراعة (الأسمدة والتقاوي) حتى تلك المخزنة في منازل المواطنين”.
وفي الصدد، نبه إلى خطورة تسرب محاصيل مخصصة كتقاوي مزودة بجرعات كيمائية إلى السوق المحلية، وأكد أن من يتناولها معرض بشدة لخطر التسمم الغذائي.
عليه، فخروج ولايتي سنار والجزيرة من الدورة الزراعية، يفاقم من أزمة الجوع في السودان، وهو ما تصفه الأمم المتحدة بـ”أكبر كارثة جوع في العالم”.
كان منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، أشار في مذكرة لمجلس الأمن الدولي في مارس/آذار الماضي، إلى أن حوالي 5 ملايين شخص مهددين بالجوع جراء الحرب التي تمزق السودان.
وعودةً إلى الخسارات الاقتصادية الناجمة عن سيطرة الدعم السريع على أجزاء واسعة من سنار، فإن الحرب والاشتباكات الجارية، تهدد بموت وهجرة حيوانات وفصائل نادرة عن أكبر محمية برية في البلاد بمحلية الدندر (10 آلاف كيلومتر)، وهو ما سيمثل ضربة موجعة لقطاع السياحة في السودان.
ورغم صمود مدينة سنار، أمام هجمات الدعم السريع، فإن شيخ الخزانات في البلاد (خزان سنار 1926) بات في مرمى النار والخطر، ما يهدد بأعطاب كبيرة في الشبكة القومية للكهرباء، وفيضانات مدمرة أسوة بما جرى عام 2022 جراء فيضان ترعة المناقل التي يغذيها السد.
خسائر معنوية
يشدد الصحفي المنحدر من مدينة سنار، علي رمضان، على أن الخسائر المعنوية لاجتياح الدعم السريع للولاية، ستكون بمثابة ضربة موجعة لمناصري الجيش، مضيفًا: “في الوقت الذي كان يبشر قادة الجيش بتحرير ولاية الجزيرة انطلاقًا من سنار، بتنا نتحدث اليوم عن استرداد سنار ذاتها”.
وأشار إلى أنّ وصول المليشيا إلى سنار، عزز مخاوف الأهالي في الولايات الخاضعة لسيطرة الجيش بإمكانية لحاقها بولايات مثل سنار والجزيرة، كان يقال إنها حصينة وغير قابلة للسقوط، وهو ما يعني اهتزاز القناعات لدى الناس بشأن الجيش وخياراته وقدرته على حمايتهم من انتهاكات أفراد المليشيا.
وطالب رمضان بأن تكون مأساة الأهالي في سنار سببًا في إخراس أبواق الحرب، ودفع قادة الطرفين إلى المفاوضات لإنهاء معاناة السودانيين.
وتحدث المرصد السناري لحقوق الإنسان (مستقل)، عن حالات قتل واسعة النطاق للمدنيين على يد الدعم السريع، وتهجير آخرين بصورة قسرية بواسطة ذات الفصيل، علاوة على رصد وفيات جراء قصف طيران الجيش بمدينة سنجة، كذلك، أوضح المرصد تسجيله لحالات غرق بالنيل في أثناء محاولات الأهالي الفرار نواحي ولاية القضارف، وعن أوضاع بالغة السوء تصل إلى حد الموت من الجوع والعطش.