تمتلئ المجتمعات بالمواقف والصور النمطية عن الفئات الاجتماعية والأشخاص الذين يملكون مجموعة من الهويات المتقاطعة أو المختلفة، وغالبًا ما تكون تلك الصور خارج نطاق الوعي أو المعرفة ولا تأخذ مساحةً كبيرة من الأهمية، لكن مع مرور الوقت يمكن أن تصبح هذه المشاعر والمعتقدات أكثر رسوخًا وخارج نطاق السيطرة أو التحكم، أي أننا لا نكون قادرين على السيطرة والتحكّم باستجاباتنا المتحيّزة.
وبالأحرى فنحن لا نكون أصلًا على علمٍ مسبق بوجود مثل تلك الاستجابات، إذ أنّنا نعتمد على وعينا وذاكرتنا للتوصّل إلى الأحكام التي نطلقتا بشأن الواقع والتي تحدث عن طريق معالجة تلقائية سريعة يقوم بها الدماغ، والتي تكون خادعة أو غير دقيقة.
يمكن تعريف التحيزات الضمنية أو اللاشعورية على أنها المواقف أو الصور النمطية التي تتشكل في عقولنا وتؤثر على أفعالنا وتصرفاتنا وقراراتنا بطريقة غير واعية، أي أنه قد يصعب علينا الاعتراف بوجودها، ومن هنا جاءت تسميتها بالضمنية، فهي غير واضحة أو صريحة، لكنها مع مرور الوقت تصبح أكثر رسوخًا ما يجعل من تجاهل وجودها أو إنكارها أمرًا صعبًا أو شبه مستحيل.
أكثر أشكال التحيزات الضمنية غرابةً هي التعاطف المتحيّز أو العنصري، بمعنى أنّ الفرد يتعاطف مع أفراد مجموعته بشكلٍ أكبر وأكثر وضوحًا من تعاطفه مع المجموعات الأخرى
يركّز علماء النفس في مجال “الإدراك الاجتماعي الضمني” على “المواقف الضمنية” تجاه جميع الأشياء والمواقف في حياة الأفراد، لكنّ البحوث الأكثر شهرةً ولفتًا للانتباه هي تلك التي تركّز على التحيزات الضمنية تجاه المجموعات الموصومة مجتمعيًا مثل السود أو النساء أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو من ينتمون للمجموعات المثلية الجنسية.
قد تكون أكثر أشكال تلك التحيزات الضمنية غرابةً هي التعاطف المتحيّز أو العنصري، بمعنى أنّ الفرد يتعاطف مع أفراد مجموعته بشكلٍ أكبر وأكثر وضوحًا من تعاطفه مع المجموعات الأخرى وأفرادها، وهي ظاهرة يدعمها كم هائل من الأدلة العلمية التي تثبت أنّنا جميعنا نرى الأجناس الأخرى أقل حساسية للألم من أنفسنا أو من المجموعات التي ننتمي إليها.
فقد أظهرت إحدى الدراسات التي نشرتها مجموعة من علماء الأعصاب من جامعة بكين في مجلة علم الأعصاب عام 2009، اختلافات عرقية منحازة في مناطق الدماغ المرتبطة بالإدراك والعاطفة، خاصة في الجزء المعروف باسم القشرة الحزامية الأمامية والذي يلعب دورًا في الوظائف الإدراكية المعرفية مثل اتخاذ القرارات والتحكم في الاندفاع والمشاعر، وبالتالي فهو الجزء المسؤول عن شعورك بالألم أو التعاطف مع ألم شخص آخر.
تم عرض مقاطع فيديو أمام عددٍ من الطلاب الصينيين والقوقازيين تحتوي على وجوه لأشخاص من كلتا الإثنيتين بعضهم تظهر عليه علامات الألم والتوجّع، حيث قام العلماء بإجراء فحوص لأدمغة المشاركين بالدراسة، تبينوا على إثرها أنّ هناك زيادة في نشاط عمل القشرة الحزامية في في أدمغة أولئك الذين يشاهدون التعبيرات المؤلمة على الوجوه التي تنتمي إلى عرقهم أو مجموعتهم الإثنية، لكنهم قلصوا نشاطها عند مشاهدة الألم على وجوه أفراد العِرق الآخر، ما يعني أنّ ثمة اختلافًا عنصريًا في الاستجابة التعاطفية مع الألم في الدماغ.
يؤكد “اختبار الارتباط الضمني” أنّ الكثير من التحيزات تأخذ منحىً ضمنيًا لا واعيًا
ومما يؤكد على أنّ الكثير من التحيزات تأخذ منحىً ضمنيًا لا واعيًا يمكننا دائمًا النظر إلى نتائج الكثير من الدراسات والأبحاث التي اعتمدت على “اختبار الارتباط الضمني“، وهو اختبار يقوم بدراسة ردود الأفعال المرتبطة بالصلات بين الكلمات المختلفة، وقد يتخذ هذا الاختبار أشكالًا مختلفة، ولكنه يتضمن عادة ضغط أزرار محددة على لوحة المفاتيح لتحديد ما إذا كانت كلمة بعينها تندرج في أكثر من فئة لتصنيف السمات الشخصية للأفراد أو للمجموعات.
ويقوم الاختبار على فكرة أساسية مفادها بأنّ عليك أن تسارع بالاستجابة عندما يكون الزر نفسه مخصصًا لفئات نربطها ببعضها البعض في أذهاننا. فإذا ما كان لديك، على سبيل المثال، تحيّزًا ضمنيًّا ضد السود، فسيكون رد فعلك أسرع للضغط على زرٍ ما يرتبط بالمفردات ذات المدلول السلبي مثل “سيء” أو “مجرم” حينما تظهر أمامك على الشاشة صورة لرجل أسود. وبالتالي يمككنا القول وفقًا لنتائج تلك الاختبارات أنّ غالبية الأشخاص الذين يخضعون لها يقدّمون دليلًا على وجود تحيز ضمني لديهم، مما يشير إلى أن معظم الناس متحيزون ضمنيًا حتى إذا لم يفكروا في أنفسهم على أنهم كذلك.
توفّر لنا التحيزات الضمنية إحساسًا بتماسك وترابط الكون والعالم من حولنا دون إرادةٍ منا أو نية مسبقة
يمكن عزو تلك النتائج إلى تفسيراتٍ عدة؛ قد يكون أحدها “الأوهام الإدراكية” التي يكوّنها الدماغ، بحيث يرى من خلالها الأشخاص البيض أنّ الوجوه السوداء أكثر غضبًا أو أكثر جديةً من الوجوه البيضاء التي تعكس نفس تعبيرات الوجه، وقد يرجع السبب هنا إلى أنّ ألفة الدماغ مع الوجوه السوداء أٌقل بكثير من ألفته مع البيضاء، فيميل هنا لاتخاذ حكم مسبق بشكل سريع ليقرر من خلاله الكيفية الأمثل للتعامل معهم والنظر إليهم.
إضافةً إلى أنّ هذه العملية أيضًا توفّر لنا إحساسًا بتماسك وترابط الكون والعالم من حولنا دون إرادةٍ منا أو نية مسبقة، فكلّ ما في الأمر أنّ عقولنا تتلقّى شبكة معقّدة من المعلومات التي تعجز عن تحليلها، فتبدأ بإنشاء نظّام مبسّط ومنظّم للغاية، تجمع فيه تلك المعلومات وتقولبها في قوالب نمطية يسهل الوصول إليها لاحقًا.
ولذلك، فغالبًا ما يُشار إلى تلك التحيزات بمصطلح “ارتباطات” أو “روابط”، إذ أنها بالنهاية مجموعة من المكونات التي ترتبط مع بعضها البعض بطريقة منسجومة بإحكام، تبدأ بكونها تمثيلات في الدماغ فتتحول إلى عواطف أو تأثيرات انفعالية ثمّ تتحول إلى سلوكيات، أو قد لا تتحول. وبالتالي فينشأ لدينا دومًا السؤال حول فيما إذا كانت تلك التحيزات أو الروابط مبررة أم لا، أو هل يمكن تغييرها والحدّ منها أم أنها راسخة في الدماغ لا تتغير في حال افترضنا أنّ اللاوعي مسرحها الخاص وأنّ بيولوجيا الدماغ تلعب دورًا كبيرًا فيها.
يمكن تغيير تلك التحيزات والتخفيف من حدّتها، عن طريق تدريب أنفسنا على إبطاء أو إيقاف ردود فعلنا السريعة أو أحكامنا التلقائية على كلّ شيء تقريبًا
تدعم الأبحاث الحالية حول التحيز الضمني إمكانية تغيير تلك التحيزات والتخفيف من حدّتها، عن طريق تدريب أنفسنا على إبطاء أو إيقاف ردود فعلنا السريعة أو أحكامنا التلقائية على كلّ شيء تقريبًا، وبالتالي يمكن للمرء التحكم في سلوكياته العنصرية وتغييرها. وإذا كان من الممكن تغيير هذه التحيزات على المستوى الفردي، فيمكن تغييرها على المستوى التنظيمي أو المجتمعي، مع إعطاء ما يكفي من الوعي والدافع والجهد.